“الغضب المسلح” في العراق…
أحصت الإدارة الأمريكية أكثر من 50 قتيلا في صفوف قواتها في العراق نتيجة هجومات تقوم بها فصائل عراقية ضد الجنود الأمريكيين
وتشمل هذه الهجومات عمليات تخريبية تستهدف المنشآت العراقية، ولاسيما النفطية منها، مما يزيد في تعقيد دور القوات الأمريكية والبريطانية في العراق
حينما لا توجد إجابات محددة حول من يُـطلِـق النار على القوات الأمريكية، أو الدوافع التي تَـكمُـن خلف أعمال العنف المسلح المتصاعدة في “المثلث السني” داخل العراق، فإن المرجح هو أن أطرافا عديدة تقوم بذلك، وأن هناك دوافع مختلفة تحرك كلا منها.
لكن هناك عاملا مشتركا يجمع بينها، وهو “الغضب الشديد” الذي يتخذ حتى الآن، شكل مقاومة غير منظمة ضد سلطة الاحتلال، وتحاول القوات الأمريكية تَـدَارُك الموقف قبل أن يتحول إلى حرب استنزاف
لقد أوضحت تطورات مرحلة ما بعد الحرب في العراق أن هناك حالة من سوء الإدارة لما اصطلح على تسميته مشكلات “اليوم التالي”. فخُـطَـط عراق ما بعد صدام، التي نوقشت طويلا في واشنطن واجهت مفاجآت حقيقية، وخلافات الإدارة الأمريكية نُـقِـلت إلى بغداد لتُـخلّـف حالة من العجز، وكانت النتيجة بطءً شديدا في التعامل مع المشاكل اليومية، وشللا في التعامل مع القضايا الكبرى، وهي كلها أمور أدت بوضوح إلى حالة من نفاذ الصبر لدى العراقيين.
لكن المشكلة الحقيقية هي أن ثمة أخطاء قد ارتكبت من جانب الإدارة المدنية الأمريكية، التي أصرت على تنفيذ سيناريوهات جاهزة مسبقا تجاه بعض المشكلات، أو أدت إليها “قواعد اشتباك” تحكم عمل قوات ليست مؤهلة إلا للتعامل مع حالة حرب في ظل وجود إشكاليات لم تكن هناك أبدا صيغة متكاملة للتعامل معها، تتصل بهياكل النظام السابق التي يُـنظر إليها أحيانا على أنها “بقايا”، إضافة إلى قضية السنة العرب التي أصبحت أكثر حدة من مشكلة شيعة الجنوب.
مؤسسة صدام حسين!
وقد أدى هذا الوضع إلى تعدد مصادر الغضب ضد الإدارة الأمريكية للعراق. ومع وجود أكثر من 5 ملايين قطعة سلاح لدى العراقيين، لم يكن صعبا أن يتحول الغضب إلى إطلاق نار، خاصة من جانب من اتبعت في مواجهتهم سياسات الطرق المسدودة بقسوة، كمؤسسة صدام حسين التي بدا أنها قد تلاشت يوم 9 أبريل، يوم سقوط بغداد، قبل أن يتّـضح أنها فقط قد تفككت، لكنها لا تزال قائمة.
فتبعا لتصريح قد يكون مبالغا فيه أدلى به جوهر السورجى، ممثل العشائر الكردية فى لندن، يمكن لصدام حسين أن يعود إلى الحكم، إذا ما خرجت قوات التحالف في مدة لا تتجاوز أسبوعا.
إن حجم مؤسسة صدام حسين كان يتجاوز مليون ونصف مليون نسمة، معظم أفرادها من العناصر العسكرية أو شبه العسكرية أو الكوادر الأمنية والسياسية أو القوى العشائرية، أو من وجدوا أنفسهم ضمن تلك الفئة.
وقد اتُّـخذ قرار أمريكي باستبعاد هؤلاء من عالم عراق ما بعد الحرب، عبر حل الجيش وحزب البعث بصورة مهينة ودون بدائل حقيقية، مما أدى إلى تظاهر عسكريين للحصول على رواتبهم قبل أن يطلق أحد الجنود النار، دفاعا عن النفس حسب البيان الأمريكي.
وبعدها استخدم المتظاهرون الذين تفرقوا بشكل غير منظم الحجارة ضد القوات الأمريكية، لكن المؤكد أنهم بدأوا نفس اليوم في التفكير بشكل غير منظم كذلك في استخدام السلاح، ليس بالضرورة لإخراج القوات الأمريكية من العراق، لكن بفعل الغضب والرغبة في الانتقام، ولأنهم أصبحوا بلا مستقبل. وهكذا بدأ نظراؤهم في حزب البعث وفدائيي صدام يفعلون.
المثلث السني!
المصدر الثاني للغضب في العراق هو المثلث السني، الذي تنتمي إليه أيضا الغالبية العظمى من عناصر مؤسسة صدام. فقد كان السُـنّة العرب هم سادة النظام العراقي السابق، أو على الأقل كان الآخرون يعتبرونهم كذلك، سواء من الأكراد في الشمال، الذين تعامل معهم صدام حسين، حسب الاسم الرمزي لعملية ضربهم خلال منتصف الثمانينات، “كأنفال”، أو الشيعة في الجنوب، الذين تعبّـر المقابر الجماعية الناتجة عما وقع ضدهم عام 1991 عن أوضاعهم السابقة.
ورغم أن زعماء السنة العرب يؤكدون أنهم قد اضطهدوا أيضا، وأن نظام صدام حسين كان عشائريا، وليس عرقيا أو مذهبيا، إلا أنهم يشعرون منذ أن سقط صدام حسين، أنهم مستهدفون من جانب القوات الأمريكية.
فقد تركزت الشكوى من سلوك الجنود الأمريكيين في أوساطهم، وما حدث في الفلوجة، لما سمى “مجلس المدينة” تحول إلى مشكلة كبرى، بحيث أصبحت المناطق السنية بيئة حاضنة للعنف ضد الأمريكيين، مع اتساع نطاق إطلاق النار المستمر من جانب عناصرهم، ليس لإعادة النظام القديم الذي يدركون تماما أنه انتهى، ولا يرغبون أصلا في عودته، لكن لأنهم وجدوا أنفسهم في دائرة الاستهداف.
يضاف إلى ذلك مصادر عنف مسلح أخرى تتصل بوجود بقايا تنظيمات إسلامية عنيفة تم استهدافها من خلال عمليات عسكرية مباشرة، وكذلك بقايا المتطوعين العرب الذين اعتُـبِـروا مرتزقة، وظلوا شاردين في أنحاء مختلفة من العراق.
وكان من الممكن أن يظل هؤلاء كذلك، إلا أن تصاعد مظاهر الغضب لدى مؤسسة صدام والسنة العرب قد خلق الظروف المواتية لإعادة تجميعهم، وربما حمايتهم، وتقديم الدعم لهم. فلا يمكن ممارسة عمليات مسلحة في دولة كالعراق، دون أن يكون هناك دعم من البيئة المحيطة بها.
الطريق إلى الفلوجة
لقد عبر عمدة مدينة الفلوجة، التي انطلقت منها الشرارات الأولى للعنف المسلح عن هذا الوضع بقوله، “إن المدينة قد أصبحت مركز جذب لكل المواطنين العراقيين الذين عبروا عن خيبة أملهم بالحرية الأمريكية التي تحولت إلى عملية احتلال وقمع”. وحسب ما ذكرته صحيفة كريستيان ساينس مونيتور، فإن كل شخص لا يحب الأمريكيين يحضر إلى الفلوجة.
وقد كانت تلك المشاعر المعادية تتصاعد مع الوقت، في ظل ممارسات الجنود، أو قرارات الحرمان، أو سياسات على نمط “تجميع الدولارات” أو “وثيقة الإدانة”، وما إليها. وتوضح مؤشرات تطور حجم العمليات المسلحة ضد القوات الأمريكية، وأعداد القتلى من الجنود الأمريكيين، أن المشاعر المعادية كانت تتحول إلى أعمال عنيفة متصاعدة مع الوقت.
وأدى كل ذلك إلى تصاعد عملية استهداف القوات الأمريكية في العراق، فى إطار ما أصبح يسمى على نطاق واسع، سياسيا وإعلاميا، “المقاومة العراقية”، على الرغم من أن عددا من السياسيين العراقيين يشيرون إلى أنه لا يوجد في العراق ما يمكن أن يسمى مقاومة، ويعتبرونها مجرد “أعمال عنف” يقوم بها بقايا النظام السابق، أو أنها كالتي تجري داخل أية دولة ضد نظام الحكم القائم فيها.
إلا أنه لا يوجد في الواقع اسم آخر لما يحدث في العراق، في ظل الأوضاع الخاصة بوجود قوات أجنبية تحكم دولة لا تزال دون سيادة سياسية أو حكومة وطنية. لكن أيضا هناك محددات تحيط بكل ذلك، على نحو يوضح حدود مثل هذا المصطلح (المقاومة) في تعبيره عن ملامح ومستقبل ما يجري في العراق، أهمها:
أولا، أن ما يحدث قد لا يمكن اعتباره مقاومة عراقية بالمفهوم الشامل، وإنما مقاومة عربية سنية. فلا توجد مشكلة حقيقية بالنسبة للأكراد في الشمال تطرح احتمالات عنيفة، والواقع أن الأكراد أقرب إلى حلفاء للقوات الأمريكية. كما لا توجد مشكلة مسلحة بين العرب الشيعة في الجنوب والقوات الأمريكية أو البريطانية، رغم وجود مشكلة سياسية. وهناك فتاوى صريحة صدرت من مراجع شيعية بعدم اللجوء إلى العنف في التعبير عن المعارضة السياسية.
ثانيا، أن العمليات المسلحة الحالية لا ترتبط بالضرورة بالمطلب الرئيسي الذي ترتبط به عمليات المقاومة عادة، وهو جلاء القوات الأجنبية عن الدولة، عبر استراتيجية نهائية تعتمد على القوة المسلحة. فالعمليات تتم في ظل دوافع غضب مختلطة أهمها الانتقام، أو اليأس وتردّي ظروف الحياة، لاسيما الجوانب الأمنية، وبعض التحليلات التي تربطها بأهداف سياسية، تشير إلى أنها رسالة من السنة مفادها “نحن هنا”، للضغط في اتجاه الحصول على موقع في المعادلة القائمة.
ثالثا، أن تلك العمليات العنيفة لا تزال غير منظمة بذلك المستوى الذي يشير إلى وجود منظمات مقاومة تحت قيادة موحدة تقوم بتنسيق عملياتها، أو تشكيلات مسلحة كبيرة العدد تتجاوز، حسب تعبيرات دونالد رامسفيلد، ما بين 10 إلى 15 فردا، ولم تقم قوة سياسية حتى بين السنة العرب بتبني أهداف محددة تتصل بخروج القوات الأمريكية، أو إعادة النظام السابق إلى الحكم، لتلك العمليات.
النمط الأيرلندي
لكن المسألة أن الطريق إلى كل ذلك أصبح مفتوحا. فالعمليات المسلحة ضد القوات الأمريكية تتصاعد كمّـا وكيْـفا مع الوقت، ولا يبدو أن العمليات الأمريكية المضادة تؤثّـر فيها حتى الآن.
وهناك تنظيمات عنيفة كالمتطرفين الإسلاميين والمتطوعين العرب والحرس الخاص وفدائيي صدام تعمل في إطارها، وقوى اجتماعية تدعمها بصورة ما حتى إشعار آخر، على نحو يمكن أن يؤدى إلى تحولها مع الوقت إلى نموذج خاص من العنف المسلح، ربما على النمط الأيرلندي.
وبالتالي، قد تبدأ في إفراز نتائج سياسية، إن لم يكن فيما يتصل بالوجود الأمريكي- البريطاني ذاته. فعلى الأقل بتوجهاته أو سياساته في العراق.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.