الـسـنّـة العرب والعملية السياسية في العراق
بعد عامين من دخول القوات الأمريكية إلى العاصمة العراقية، تتجه مختلف الأطراف الممثلة للعرب السنة إلى بلورة موقف جديد من الوضع القائم.
وبغض النظر عن التفاصيل والدوافع، تجمع هذه الأطراف اليوم (باستثناء الأطراف المسلحة) على ضرورة الاشتراك في العمل السياسي لإخراج العراق من محنته التي يعانيها.
بينما حسمت الأحزاب الشيعية في العراق موقفها، واصطفت منذ فترة خلف مرجعها الأعلى آية الله علي السيستاني مستجيبة لندائه بالانخراط القوي في العملية السياسية، لا زالت الأطراف السنية تقف موقفا آخرا، متوزعين على رؤى شتى وتصورات مختلفة حيال ما يُـراد لبلدهم من مخططات مستقبلية.
وأيا كانت دوافع الأطراف السنية العراقية، فإنها أجمعت حتى الآن، باستثناء الأطراف المسلحة، على ضرورة الاشتراك في العمل السياسي لإخراج العراق من محنته التي يعانيها، إلا أنها تختلف في التوقيت والطريقة.
ولأسباب عديدة، فإننا لسنا الآن في وارد مناقشة الدوافع والرؤى، بقدر ما نحن بصدد استعراض تلك المواقف التي يتوزع عليها الموقف السني في العراق اليوم.
تغييب السنة العرب
يمكن القول أن النتائج الكاسحة التي حققتها الأحزاب الشيعية في اللائحة التي باركها السيستاني، والكردية التي حشدت كل قواها في قائمة واحدة خلقت تصورات جديدة لدى بعض الأطراف السنية التي باتت تدعو إلى المشاركة بثقل أكبر في الحياة السياسية العراقية.
وتنحصر دوافع هذه القوى أو الشخصيات بضرورة عدم تغييب السنة العرب عن صياغة المستقبل السياسي في العراق، ويقف الحزب الإسلامي العراقي في صدارة من يدعو إلى هذا الموقف، وهو لأجل ذلك ينظم الندوات ويعقد المؤتمرات ويعلن قادته حِـرصهم المشاركة في صياغة دستور العراق الدائم، المزمع انجازه خلال الأشهر المقبلة، وعرضه على الشعب في استفتاء عام لتقرير مصيره.
أما هيئة علماء المسلمين، وهي الصوت الأقوى في التيارات السنية العربية، فهي تعتقد أن الوقت غير ملائم حاليا للمشاركة مع القوى الأخرى، المنضوية فعلا، في عمل سياسي.
وترى الهيئة أن موقفها يعود بالدرجة الأساس إلى تبنّـي المشروع الوطني الذي اتفقت عليه مع القوى السياسية المشتركة في مؤتمرها الوطني، والذي تبنّـى رؤية سياسة ووطنية عامة تُـصر على الالتزام بالعمل السياسي، والحرص على إجراء انتخابات عامة في البلاد، باعتبارها الطريق الذي لا بديل عنه لإنهاء الأزمة التي تعصف بالبلاد حاليا، بشرط إجرائها في أجواء نزيهة وبإشراف الأمم المتحدة كجهة دولية محايدة.
وقبل كل ذلك، وضع جدولة متفق عليها وفق ضمانات دولية لانسحاب القوات الأجنبية من العراق على نحو لا يجوز التلاعب به، وإطلاق سراح المعتقلين وتعويض المدنيين الذين تعرضوا للأضرار بسبب الأعمال العسكرية التي قامت بها قوات الاحتلال في النجف والفلوجة والموصل وتلعفر وسامراء وغيرها من مدن العراق.
مغانم الابتعاد ومغارم الاقتراب
واللافت للنظر حقا، أنه فيما تقف هيئة عُـلماء المسلمين انتظارا لتغيير حقيقي في الموقف، وتحديدا حتى جدولة انسحاب القوات الأجنبية من العراق، فإن القوى الضالعة في العملية السياسية فعلا وتلك الفائزة في الانتخابات، بطرفيها الشيعي والكردي، تحرص على الالتقاء بقادة الهيئة وحثها على المشاركة معهم في الحكومة المرتقبة وفي لجنة صياغة الدستور، وهو ما تفسره الهيئة بأنه إيمان من تلك القوى بأن أي استقرار حقيقي في البلاد لن يتحقق إلا بالمشاركة الفعلية والحقيقية لكل مكونات الشعب العراقي، وعدم تغييب أو تهميش أو اجتثاث أي من تلك القوى الفاعلة والحقيقية في المجتمع العراقي.
بل وأكثر من ذلك، فبينما كان أحمد الجلبي يُـصر على اعتبار الهيئة مسؤولة عن أعمال العنف والعمليات الإرهابية الجارية حاليا في العراق، نجده شدَّ رحاله في الآونة الأخيرة إلى مقرها، والتقى بقادتها وطلب منهم المشاركة السياسية اعترافا منه بدورهم في هذه المرحلة.
وبالتأكيد، فإن الموقف الثابت للهيئة يجد بعض المعارضة من قوى سنية أخرى، من بينها ديوان الوقف السني، وهو هيئة حكومة تُـعنى بشؤون الإشراف على شؤون المساجد والمؤسسات الدينية الأخرى، وليس هيئة سياسية على نحو حقيقي، فضلا عن بعض قيادات الحزب الإسلامي العراقي الذين يعتقدون أن الوقت حان فعلا لأن يأخذ السنة العرب في العراق موقعهم الحقيقي في البلاد، وأن مغانم الابتعاد أقل من مغارم الاقتراب والمشاركة.
ويعتقد آخرون أن هذه الآراء المؤيدة للانضواء الفوري في العمل السياسي، أشبه ما تكون بفورة أو ردّة فعل ولَّـدتها حالة السيطرة الكلية للأحزاب الشيعية والكردية على الجمعية الوطنية، وعدم حصول السنة العرب إلا على نسبة قليلة من المقاعد الـ 275، ويذهبون إلى أن هذه الفورة سُـرعان ما ستخبو جذوتها مع الإخفاقات المتوقعة للجهاز الحكومي المقبل، ومع استمرار الممارسات الاستفزازية الواضحة للقوات المحتلة، بما في ذلك مداهمة المنازل والاعتقالات العشوائية وفتح النار على كل من يشتبه فيه.
غموض وضبابية
أما الجماعات المسلحة المقاومة، فلها موقف آخر، إذ هي ما تزال تُـصر حتى الآن على اعتبار العمل العسكري الوسيلة الوحيدة لإنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، ومع كونه موقفا يجد معارضة عند بعض الأطراف، إلا أنه يجد صدى إيجابيا عند أطراف أخرى، بل إن بعض الأطراف تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد التأييد والدعم المعنوي، حينما تقرر أن كل الخطوات التي يعتبرها السياسيون الحاليون إنجازات تحققت في البلاد، إنما يتم بسبب الضغط العسكري الذي تحققه القوى المسلحة المقاومة، ولكل طرف مسوغاته التي يمكن القول أنها صحيحة في آن معا، مما يفصح عن قدر من حجم التداخل والغموض والضبابية في المشهد السياسي العراقي حاليا.
من جهة أخرى، تبرز بين حين وآخر شائعات تتحدث عن وجود اتصالات من نوع ما بين بعض الأطراف العراقية المسلحة والقوات الأمريكية، وهي تتحدث في مجملها عن وجود مفاوضات سياسية بين أطراف بعثية وإسلامية معتدلة، وجهات أمريكية رسمية بالطبع.
ولئن كانت مثل هذه الاتصالات والمفاوضات قد جرت فعلا، وهو أمر طبيعي في صراع إرادات لا يحسمه السلاح لوحده، فإنها في ما تزال في مراحلها المبكرة، وتحتاج إلى كثير من الوقت والمستلزمات العملية والتفاصيل من أجل السير فيها بخطوات أكثر تقدما، تمهيدا لإنضاجها والوصول بها إلى درجة يمكن البناء عليها في خطوات لاحقة.
لكن التطور الذي يسترعي الانتباه حقا في موضوعة المقاومة العراقية المسلحة، هو أن سياسيين بارزين من بينهم احمد الجلبي، وأياد علاوي، وعدنان الباجه جي، وعلي بن الحسين، ومشعان الجبوري باتوا يتحدثون اليوم عن اتصالات جرت بينهم وأطراف عراقية مسلحة مقاومة.
ومع أن في ذلك يعتبر جزءا من عمليات المناورة والكسب السياسي، وهو مفهوم في حالة كالتي يعيشها العراق حاليا، إلا أنه يمثل في اعتقاد الكثيرين اعترافا بدور هذه القوى وضرورة أخذ مكانتها بعين الاعتبار، بل إن مشعان الجبوري، وهو سياسي ونائب في الجمعية الوطنية المؤقتة ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما تحدث عن “استعداده للعمل مع هذه القوى المقاومة” التي وصفها بأنها شريفة، تماما مثلما وصفها الجلبي، الذي كان عرّاب القوات الأمريكية ودليلها الأول في العراق.
وما دام الحديث قائما عن المقاومة المسلحة، يتعين القول أن الأعمال المسلحة الجارية حاليا في العراق، تنقسم في الغالب إلى قسمين رئيسيين. يتعلق الأول بالمقاومة المشروعة التي تبيحها كل الشرائع السماوية والقيم والأعراف الدولية، فيما يشير القسم الآخر، إلى أعمال إرهابية تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد وإدامة حالة الفوضى فيها.
وأيا يكن الموقف السني في العراق الجديد، فإن الشهور القليلة المقبلة ستؤدي إلى مزيد من الوضوح، وتحقق قدرا أكبر من الاستقرار في مواجهة حالة من الغموض ما تزال تعصف بالعراق ككل، وليس بالسنة العرب لوحدهم.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.