القصة الكاملة لمجلس الأمن العربي..
عندما ظهر اقتراح إقامة "مجلس أمن عربي" ضمن التصورات التي قُـدّمت لتفعيل الجامعة العربية، كانت المسالة مثيرة إلى أقصى حد.
فبينما كانت معظم الدول تجد صعوبة في تضمين مشروعاتها مجرد إشارة يُـفهم منها أنها تدعو بجدية إلى “نظام أمني” وسط التصدع العام في المنطقة، جاء هذا الاقتراح ليؤكد وجود حالة من الانفصال عن الواقع.
بدت القصة كلها وكأنها نوع من الهروب إلى الأمام. فقد قدمت المقترحات الخاصة بإقامة مجلس أمن عربي ضمن المشروعات العربية التي دعت إلى استبدال الجامعة العربية بصيغة أكثر تقدما وهي “الاتحاد العربي”، وتحديدا في المشروع الليبي الذي كان واضحا أنه يهدف لتحويل الجامعة العربية إلى ما يُـشبه “الإتحاد الأوروبي”، مدعما ببعض الهياكل المماثلة لما هو قائم في منظمة الأمم المتحدة.
خارج السرب
لقد جاء الاقتراح على خلفية غير ملائمة تماما. فقد كان الاتجاه العام الذي استقر داخل مجموعات العمل التي شكّـلتها عدة دول عربية لإعداد مشروعات تفعيل منظومة العمل العربي المشترك، هو عدم المساس بميثاق الجامعة العربية، واعتماد أسلوب الملاحق في إقرار أي هيكل جديد، كالبرلمان العربي، ومحكمة العدل العربية، وبنك الاستثمار العربي، مثلما حدث بشأن قرار دورية القمة.
ولم يعلن كثيرون أن عملية التفعيل تسير تبعا لمنطق “تقليص الخسائر”. فعلى الرغم من أن المسألة تتعلق، في جانبها المعلن، بمحاولات لتطوير الجامعة العربية، إلا أنها في حقيقة الأمر كانت تهدف إلى الحفاظ على ما هو قائم، وكان من شأن أي مساس بالميثاق (أو التفكير بالطبع في استبدال الجامعة)، أن يفتح الباب لعملية جهنمية تمس كل بنود الميثاق لتنتهي بوضع حد لوجود الجامعة نفسها، إذ لن يتم الاتفاق على شيء.
وكان ثمة إدراك بأن هناك عدة دول عربية قد نفضت يدها من العملية كلها، أو لم تعد تهتم بها ولم تكلف نفسها عناء تقديم تصورات للتطوير، وأصبحت تنظر للجامعة المسالمة التي لا تمتلك أية صلاحيات حقيقية تمس سيادة الدول الأعضاء فيها كعبء سياسي على نحو أدى إلى مقاومة مُـزمنة لكل مشروعات إضافة هياكل أخرى لمنظومتها، حتى لو كانت أطُـرا قانونية اختيارية كالمحكمة، فما الحال إذا ما طرح مقترح لتشكيل “مطرقة” كمجلس الأمن العربي؟؟.
الأمن القومي .. نظريا!
لكن قضية مجلس الأمن العربي تظل أعقد من ذلك. إذ أن خبرة العمل العربي المشترك في مجال الشؤون الدفاعية لم تشجّـع الدول التي كانت تتعامل بجدية مع موضوع تطوير النظام العربي على طرح مقترحات أمنية من الأساس.
فخلال الموجة الأولى لتشكيل النظام العربي، تم توقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي عام 1950، وكانت المادة الثانية منها تقرر أنه: “تَـعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قواتها، اعتداءً عليها جميعا”.
ولذلك، فإنها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة جميع التدابير، وتستخدم ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء.
وكانت تلك المعاهدة أيضا، بملحقها العسكري، تنص على تشكيل لجنة عسكرية دائمة، ومجلس للدفاع المشترك، وكلاهما يعد الخطط العسكرية لمواجهة جميع الأخطار المتوقعة ويقدم المقترحات لتنظيم قوات الدول المتعاقدة وزيادة كفاية قواتها من حيث تسليحها وتدريبها لتتماشي مع أحدث الأساليب والتطورات العسكرية. ولا توجد جدوى حقيقية هنا من مناقشة التفاصيل الخاصة بما حدث فعليا على الأرض العربية.
فقد تعاونت الدول العربية عسكريا بمستويات معينة، وتصارعت عسكريا أيضا بمستويات معينة، وهُـوجم بعضها من جانب دول أخرى، وهاجم بعضها كذلك دولا أخرى، لكن تلك المعاهدة أو الترتيبات التي نصّـت عليها لم تطبق أبدا. وكان ما أفرزته في واقع الأمر هو نظرية للأمن القومي تعتمد على النصوص، تتم مطالبات بتطبيقها، وتنطلق اتهامات بعدم تطبيقها، بحيث تحولت أحيانا إلى أداة للمزايدة بأكثر من كونها قاعدة للتعاون.
بين التقليدي والواقعي..
على أي حال، عندما وصلت الأمور إلى عام 2003، كان من الواضح أن نظرية الأمن القومي العربي ذاتها قد تصدّعت في ظل صدمة احتلال القوات الأمريكية – البريطانية للعراق، والشلل الذي أصاب الدول العربية خلال الأزمة، يتضمّـن ذلك الخلاف الكبير حول الموقف من المشاركة في العمليات العسكرية المضادة للعراق قبل الحرب، وانشغال كل منها بالتعامل مع مشكلات الأمن الداخلي الناتجة عما هو مطلوب منها بشأن ما تعتبره الولايات المتحدة إرهابا أو مصدرا للإرهاب.
لكن الأهم هو وجود إدراك لدى معظم الدول بأن التفكير في بناء نظام أمن عربي من نوع ما أصبح متعذرا بفعل واقع الانتشار العسكري الدولي في المنطقة بما يتضمنه من قواعد وتسهيلات عسكرية، وكذلك نمط العلاقات الدفاعية القائم بين معظم الدول والولايات المتحدة بما يتضمنه من ارتباطات صارمة، وقبل ذلك، اتجاه عدد كبير من الدول العربية للتصرف علنا بشكل منفرد فيما يتصل بقضايا دفاعية كان من المفترض، وفق المعايير النظرية، أنها “قومية”.
وكانت النتيجة هي سيطرة تيارين رئيسيين على التفكير في الكيفية التي يفترض أن يتم من خلالها التعامل مع قضايا الأمن في إطار تفعيل العمل العربي المشترك :
الأول، تيار تقليدي وضح تماما في معظم المبادرات العربية يعيد إنتاج نفس التصورات القديمة بنفس التعبيرات تقريبا، وكأن شيئا لم يحدث من خلال دعوة إلى تدعيم الأمن القومي العربي بمفاهيمه وآلياته المعتادة لمواجهة المخاطر التي تحيط بالأمة العربية، كما وضح في أفكار سوريا واليمن والسودان.
الثاني، تيار واقعي يتجاوز المفاهيم القديمة إلى الدعوة لمجرد تنسيق السياسات الأمنية والدفاعية أو إقامة “منتدى أمن للدول العربية” بهدف النقاش حول مشاكل الأمن العربي بشكل غير رسمي أو التعاون بين الدول في مجالات محددة، كالتدريبات المشتركة والصناعة العسكرية، كما وضح في أفكار مصر والسعودية وبقية الدول العربية.
كان من السهل فهم المنطق الذي حكم تصورات التيارين. فالأول أيديولوجي يرتبط بأفكار أو “أوضاع” تقود أحيانا إلى الديماغوجية. فعلى الرغم من أنه يدرك ما حدث تماما، إلا أن لديه تصورات حول علاقات النظم والشعوب وما يجب أن يحدث، ولم يكن يرغب غالبا سوى في خروج نص يرتبط بشرعيته الداخلية بأكثر مما يتعلق ببناء نظام عربي.
أما الثاني، فإنه كان قد أدرك أن مسألة أمن الإقليم قد أفلتت تقريبا من الدول العربية، وأنه يمكن الاعتماد على بعض الصيغ الوظيفية أو الانتقالية التي لا تثير الحساسيات إلى أن تتضح الصورة في الإقليم. فقد كانت المقترحات المقدمة تهدف فقط إلى عدم تجاهل مشكلة الأمن، وليس إعادة تأسيسها.
“عقدة النظام العربي”
في تلك الأجواء، تقدمت ليبيا بمشروعها الخاص بالاتحاد العربي، وفيما يبدو كانت تأمل في تكرار تجربة تحويل منظمة الوحدة الإفريقية إلى “إتحاد إفريقي”، وتضمن المشروع مقترحا خاصا بإقامة مجلس أمن عربي كأحد الأجهزة الرئيسية في إطار الجامعة العربية على أن يتكون من وزراء 7 دول عربية، يتم انتخابهم على مستوى القمة لفترة 3 سنوات، ويعقد اجتماعات عادية وطارئة وفقا لترتيبات معينة.
كانت المهام الأولى المقترحة للمجلس تقترب به من صيغة مجالس الدفاع المرتبطة بالأحلاف الدولية، والقريبة من معاهدة 1950 العربية، وقد تضمنت مواده بعض البنود المثيرة التي جعلت منه أشبه بمجلس أعلى للقوات المسلحة العربية، ومنها ما يتعلق باتخاذ قرارات حيوية، لكن أوضحت الصيغ التالية التي تم تعديلها، أن هناك تحولا كبيرا قد حدث في مهامه المحتملة، بحيث تحول إلى ما يُـشبه آلية لفض النزاعات بين الدول العربية ذاتها.
ولا توجد معلومات محددة حول رد الفعل الأول تجاه المقترح من جانب الدول العربية، لكن لوحظ أن المشروع المصري قد ضمنها في إطاره إلى جانب منتدى الأمن العربي، كسيناريو “حد أقصى” مرغوب فيه في مرحلة تتطور فيها علاقات الدول إلى درجة تتيح تشكيله. لكن كان مفهوما أن مثل هذه الهياكل العسكرية المؤسسية لا تجد قبولا في منطقة الخليج أو حتى دول المغرب العربي، وربما الدول الأخرى التي حاولت أن تكون مرنة أو متفهمة لما تقترحه ليبيا لاعتبارات خاصة.
وكانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية قد وعت درس مقترح “استقالة صدام حسين” الذي كانت دولة الإمارات قد تقدمت به إلى القمة العربية قبل حرب العراق (2003) مباشرة، لذا، فإنها قامت بتجميع كل المقترحات التي تقدمت بها الدول العربية في إطار تصوراتها لإصلاح الوضع العربي في صورة ملاحق مع إرسالها إلى الدول العربية لإبداء الرأي تمهيدا لعرضها على “قمة تونس”.
وقد صمد ملحق مجلس الأمن العربي أمام الجولة الأولى لاستطلاع آراء الدول، على الرغم من أن مشروعات مماثلة أو أقل حدة قد تمت الإطاحة بها. فقد بدا أن معظم الدول غير راغبة في “التلاسـن” من جديد.
ولا يزال مصير الملحق مجهولا حتى الآن في ظل إحالة مجلس الجامعة العربية للمذكرة الموحدة التي تم التوافق حولها بشأن تطوير منظومة العمل العربي المشترك إلى الدول مرة أخرى.
لكن المؤكد، أن أقصى ما يمكن الوصول إليه بشأنه، إذا قررت الدول العربية عرضه على قمة تونس في أواخر مارس الجاري، هو إحالته إلى لجنة من الخبراء للبت فيه، حيث سيتم تجميده على الأرجح، دون رفض أو قبول.
فالدول العربية لم تعد مستعدة للتفاعل بجدية مع كلمة “دفاع عربي” أو حتى “أمن عربي” لفترة طويلة قادمة، على الرغم من أنها مستعدة لسماعها أو ترديدها، فلا يزال الأمن يُـمثل، كما كان، عقدة النظام العربي.
د. محمد عبد السلام – القاهرة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.