القمم العربية ومفترق طرق دائم
هناك الكثير من القمم التي فشلت بعد انعقادها رسميا بجلسة أو اثنتين، لكن قمة تونس الأخيرة تأجّـلت قبل أن تُـعقد أي من جلساتها للقادة.
في المقابل، كان وجود وزراء الخارجية العرب ومناقشاتهم وخلافاتهم وسعيهم للتوصل إلى بيان نهائي، يعني قانونيا وعرفيا أن القمة قد بدأت أعمالها رسميا!
سيظل ما جرى لقمة تونس المؤجلة إلى حين، وبغض النظر عن مكان وموعد الانعقاد الفعلي لاحقا، تقييما خاصا في سياق القمم العربية.
فالإطار الزمني للقمة والتحديات التي كانت معروضة عليها، سواء كقضايا بنيوية ذاتية أو ضغوط خارجية، وتصورات تحمل روح الاستجابة الرسمية، فضلا عن حجم التطلع الذي ساد الشارع العربي لمعرفة كيف سيخرج القادة العرب من مفترق الطرق الذي يواجههم ويواجه الأمة العربية بأسرها وبشكل غير مسبوق، جعل القمة مُحمّـلة بالكثير من الترقب وبعض من الآمال الكبيرة، والتي تحولت إلى مزيج من الصدمة والإحباط العام بعد قرار التأجيل.
نماذج من الفشل
تاريخيا، هناك الكثير من القمم التي فشلت بعد انعقادها رسميا بجلسة أو اثنتين، والمثلان البارزان هنا، قمة الرباط عام 1969، حين خرج الرئيس عبد الناصر من جلستها الثانية محتجّـا على نوع النقاش الذي دار، ورأى فيه إحجاما عن الوقوف وراء مصر في حربها ضد العدو الصهيوني الجاثم على أرضها، في الوقت الذي كانت مصر تخوض ما يُـعرف بحرب الاستنزاف على الجبهة العسكرية والاقتصادية معا، يرافقها في الزمن نفسه محاولات ومساعي سياسية لدى المنظمة الدولية والقوى الكبرى لضبط العدوانية الإسرائيلية، وهى المساعي التي رأت فيها دول عربية عديدة في ذلك الحين نوعا من النكوص عن قرارات قمة الخرطوم، واتباعا لمنهج سلمي يقبل بنتائج الهزيمة.
أما القمة الثانية الشهيرة التي رُفِـعت جلساتها لتأمين فترة أخرى من الحوار والنقاش، فكانت قمة فاس الأولى عام 1981، والتي أعيد عقدها بعد عام كامل في المدينة نفسها لتصدر ما عُـرف في حينه بمبادرة السلام العربية التي بُـنيت على مقترحات ذات ثمانية بنود عرضها ولي العهد السعودي آنذاك، والملك تاليا فهد بن عبد العزيز، وفي كلا المثلين، كان هناك انعقاد للجلسات ومباحثات وأخذ ورد بين القادة العرب وبعضهم البعض.
لكن قمة تونس الأخيرة تأجّـلت قبل أن تُـعقد أي من جلساتها للقادة، بينما كان وجود وزراء الخارجية العرب ومناقشاتهم وخلافاتهم وسعيهم للتوصل إلى بيان نهائي، يعني قانونيا وعرفيا أن القمة قد بدأت أعمالها رسميا، فبدا وكأن التأجيل جاء لجلسات القادة.
تفرد غير مسبوق
وبينما لا يعد تأجيل القمم السابقة أو رفع أعمالها قرارا سياديا للدول المضيفة، باعتبار أن القمة هي قرار توافقي بين القادة العرب جميعهم، فضلا عن كونه تطبيقا لبروتوكول قد تم اعتماده قبل عامين، فإن الحالة التونسية تحجز لنفسها نوعا من التفرد غير المسبوق، تماما شأن ردود الأفعال العربية التي تولّـدت عن هذا القرار.
فبينما برز اتجاه عربي قوي لتجاوز حالة التأجيل لأجل غير مسمى إلى العودة للإعداد للقمة سريعا، كانت هناك مظاهرات شهدتها عدد من الجامعات الإقليمية المصرية تنادى بعقد القمة، وأن يصدر عنها ما يشفى صدور الأجيال الشابة الأكثر شعورا بالإحباط وانسداد الأفق، والأكثر رغبة أيضا في الاستبشار بشيء من الأمل إزاء المستقبل، وهي مظاهرات لم تشهدها سوى قمة وحيدة سابقة، وهي قمة أغسطس 1967 في الخرطوم، والتي كانت بمثابة رد على العدوان الإسرائيلي في يونيو من العام ذاته.
وحينها، جاءت المظاهرات من جماهير السودان لتُـعلن بأن الرجل العادي في الوطن العربي لن يقبل الهزيمة، ويؤيد ما اتخذ في القمة من قرارات تضمنت 3 “لاءات” شهيرة: لا للعدوان، ولا للتفاوض، ولا للهزيمة. فيما يمكن القول أن مظاهرات الشباب في جامعات مصر الإقليمية كانت تقول “لا .. لانفراط عقد القادة العرب”. فبالرغم من كل شيء، يظل توحدهم واتفاقهم، ولو على الحد الأدنى، صمام أمان غير مقبول التفريط به، لاسيما في ظل هذه الظروف العويصة.
مفترق طرق
تاريخيا، يمكن القول أن جميع القمم العربية منذ الأولى في أنشاص المصرية في مارس 1946، وحتى قمة تونس المفترضة التي تم تأجيلها، سواء كانت قمة عادية أو طارئة، كان كل منها يمثل مفترق طرق حقيقي، بعضها نجح بامتياز في اجتياز الاختبار وفقا لظروف المرحلة التي عقدت فيها القمة، والآخر لم يكن له نصيب من النجاح، سوى مجرد الانعقاد والاحتفاظ بشعرة معاوية بين القادة العرب وبعضهم من جانب، وبينهم وبين شعوبهم من جانب آخر.
أما قمة تونس المؤجلة فيصعب وضعها في أي الفئتين. فهي تمثل نموذجا بذاتها لم يحدث من قبل، على الأقل من زاوية الطريقة التي تم بها التأجيل، أي قرار سيادي لم يكن محلا لتشاور مسبق مع القادة العرب. لكنها في الآن ذاته تشترك مع كل القمم العربية السابقة في خصائص وسمات يبدو أنها باتت تخص القمم العربية وحدها، من قبيل الحجم الهائل من التشكيك الذي يسبق أي قمة عربية، هل تعقد أم لا؟ وفي جدوى الانعقاد، والتهوين مسبقا بقيمة القمة حتى قبل أن تعقد، والتلويح في صورة التأكيد بأن النتائج الذي ستنتج عن القمة ليست على مستوى الأحداث والتحديات والطموحات العربية، ناهيك عن الضغوط التي تأتي من الخارج دائما وتهدف إلى استقطاب القمة نحو سلوك معين.
أما السمة الأبرز، فهي تراجع العديد من القيادات العربية عن حضور مؤتمرات القمة لأسباب بعضها القليل معقول، وأغلبه ضعيف وبلا سند، أو ربما كانت له أسبابه الذاتية التي لا يعرفها إلا أصحابها.
وبينما نرى في كل القمم الدولية أو التابعة لتكتلات دولية، سواء في أوروبا أو آسيا، أن حضور قيادات البلدان الأعضاء هو شيء مقدس واجب الاحترام، مهما كان الاختلاف في الآراء والمواقف والتطلعات، وأن الموعد والمكان المُـتفق عليه لا بديل لهما، فإن الأمر عربيا يبدو وكأنه مصمم لكي يكون الأصل هو الامتناع عن الحضور والترفع عن لقاء القادة الآخرين، ومن ثم التنصل من أية قرارات يتم اتخاذها، وبالتالي تجاهلها واعتبارها بلا قيمة.
ومن هنا باتت الاعتذارات التي عادة ما تأتي مباغتة، تُفهم وتفسر بأنها موجهة بالأساس إلى الدولة المضيفة أولا، والعمل العربي المشترك ثانيا. والمؤكد، أن كثيرا من هذه السمات التاريخية قد أحاط بقمة تونس المؤجلة، لكن القرار سابقا كان دائما تطبيقا لقاعدة الاستجابة من جنس التحدي، وحد أدنى من التضامن أفضل من لا شيء البتة.
فرز بين رؤيتين
وبينما كانت القمم السابقة تفرز تيارا أساسيا في الحياة السياسية العربية يستند إلى القرارات المعلنة مع بعض هوامش للاختلاف تتعلق بتفسير تلك القرارات أو التعليق على مدى أهميتها وقدرتها على مواجهة التحديات المطروحة، فإن القمة المؤجلة أفرزت تداعيات من جنس آخر.
فثمة فرز بين رؤيتين: الأولى، تعنى بالتمسك بالقمة كآلية لحسم القضايا العربية المُعلقة حول الإصلاح في الداخل وإصلاح هياكل النظام العربي. والثانية، لا ترى في عقد القمة ضرورة ملحة، وأن لكل بلد طريقته الخاصة في الخروج مما يعانيه من مآزق ومعضلات، أو على الأقل يمكن ترحيل القمة ومعها المواقف العربية الجماعية إلى زمن آخر، ليس بالضرورة قريب أو عاجل، وهو فرز يصب في فرز آخر يتعلق بمضمون ما يمكن اتخاذه عربيا على الصعيد الجماعي.
فالذين يرون ضرورة التماهي مع المتغيرات الخارجية باعتبارها البديل الوحيد، قابلهم من يرون أن لهذا التماهي حدودا وأن المقبول أن يكون هناك تماهي مسبق مع تطلعات الناس وطموحاتهم ومنظومات قيمهم التي لا يمكن الضرب بها عرض الحائط في ضربة واحدة.
والظاهر أن مفاجأة التأجيل وما تلاها من دعوة لعقد القمة في دولة المقر بعد التشاور مع القادة العرب، ومع احتفاظ تونس بحق رئاسة القمة، كما هو مرتب ومتفق عليه عربيا، قد أعطى زخما غير معتاد للمناصرين للقمة في موعدها، باعتبارها الآلية التي بيدها لملمة الوضع العربي، وتجاوز بعضا مما يعانيه.
كما منحت الصدمة زخما آخر للذين يعتقدون أن إصلاح العرب لن يتم إلا بأيديهم ووفق رؤية نابعة من الذات أولا وأخيرا، وأنه مهما كان بريق الكونيات، فستظل كونيات قادمة من مجتمعات وتجارب تاريخية أخرى، ليست بالضرورة تحمل الخير، أو حتى بعضا منه لبلادنا وشعوبنا المقهورة، وما يجرى في العراق خير دليل.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.