الكبار يسحقون الصغار في الانتخابات العراقية
يتوجه العراقيّون يوم الخميس 15 ديسمبر إلى صناديق الاقتراع للمرة الثالثة خلال عام لاختيار 275 عضوا لمجلس النّوّاب (وهو الاسم الجديد للجمعية الوطنية) ولمدّة أربع سنواتٍ.
الحملة الإنتخابية كانت مكلفة وحامية كما شهدت سجالات واتهامات متبادلة بين مختلف القوائم المشاركة ..
في 30 يناير من هذا العام انتخب العراقيّون أعضاءَ الجمعيّة الوطنيّة الانتقاليّة. وكانتْ إحدى مسؤوليات هذه الجمعيّة هي كتابة مشروع دستورٍ دائمٍ للعراق. كما صادق العراقيّون بعد مخاض عسير، على مشروع الدستور في الاستفتاء الّذي أُجريَ في 15 أكتوبر الماضي، وهاهم الآن يقتربون من الاستحقاق الانتخابي الأكثر حسما في العهد العراقي الجديد، وهم ينشدون السلم الأهلي المهدد ويتطلعون الى التخلص من مقاسات التغيير من النظام الشمولي الديكتاتوري الى ديمقراطي بديل، التي فصلت بنظام المحاصصة العرقية والطائفية!.
ولأن مجلس النواب الجديد سيكون معنيا باجراء تعديلات في الدستور الراهن، وهو الشرط الذي وضعه الحزب الاسلامي “السني” للمشاركة لصالح المصادقة عليه، فان هذه الانتخابات تكتسب أهمية استثنائية بالنسبة للسنة الرافضين للفيدرالية (وأشياء أخرى) وأيضا للعلمانيين الباحثين عن دور أكبر للمرأة وللحريات على النمط الغربي، وبهذا تكون المعركة الانتخابية قد تمحورت بين الاسلاميين الشيعة والاسلاميين السنة والعلمانيين، دون التقليل من الأطياف الأخرى وتأثيرها على المعادلة القادمة.
الشيعة يريدون تعزيز نفوذهم لكنهم لايتوقعون حصة الأسد التي حصلوا عليها في الانتخابات السابقة بسبب الانقسامات التي طرأت على الائتلاف العراقي الموحد وانشطاره الى قوائم عدة، ولأن حكومة الدكتور ابراهيم الجعفري، بكل انجازاتها رغم كل التحديات التي واجهتها، لم تقدم للناخب ما كان يأمله منها.
أما السنة العرب فيحلمون بالحصول على عدد من المقاعد يؤهلهم الدخول في تحالفات مع باقي الفائزين، للاجهاض على مشروع الفيدرالية في الوسط والجنوب، وتحقيق ما يصبون له في المعادلة بعيدا عن التهميش والتغييب الذي أوقعوا أنفسهم فيه.
أما العلمانيون فانهم يبذول المستحيل بدعم إقليمي ودولي، لكي يمنعوا الائتلاف العراقي الموحد من فرض إرادته لاختيار رئيس الوزراء المقبل، والحيلولة دون امساكهم بالوزارات السيادية خصوصا الداخلية والدفاع والنفط والمالية.
إذن فان هذه الانتخابات يشارك فيها المتعاونون مع المشروع الأنجلو أمريكي لاسقاط النظام السابق (الذين شاركوا في مؤتمر لندن منتصف عام 2002، وماتلاه في صلاح الدين بكردستان العراق) ومعظم الذين حضروا مؤتمر الوفاق والحوار (الذي عقد شهر نوفمبر الماضي في القاهرة، على نفس الأساس الذي أرسيت دعائمه في لندن وصلاح الدين)، وهو نظام المحاصصة الذي يكرس واقعا جديدا فرض على العراقيين، ويمكن أن يقود البلاد الى التقسيم إذا لم تتحقق المصالحة الوطنية الشاملة، بمشاركة الجميع عدا من أوغل في دماء العراقيين.
منافسة بين “إسلاموية” و “علمانية”
الحملة الانتخابية للكيانات السياسية والائتلافات العراقية داخل العراق وخارجه، دشنت حتى قبل تأريخ الترشيح الذي بدأ في 20 نوفمبر الماضي، وتستمر الى اليوم السابق مباشرة ليوم التصويت (أي إلى يوم الأربعاء 14 ديسمبر). ولم تلتزم هذه الكيانات والائتلافات بقواعد اللعبة التي وضعتها المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات خاصة عندما يتعلق الأمر بالشعارات القومية أو الدينية أو الطائفية أو القبلية أو الاقليمية.
ومنذ انتخابات يناير الماضي، باتت الأحزاب الرئيسة التي شاركت في المشروع الانجلو أمريكي منذ بدايته، هي من يرسم المشهد السياسي، بالاضافة الى من جاء بهم الاحتلال واختارهم من المقاعد الخلفية وبرزوا كـ “سياسيي” العهد الجديد، ومعظمهم ممن لم يتلق “كفا” في ظل النظام السابق، أو لم يضطهد، ولم يكن أصلا معارضا، كما لم يمتهن العمل السياسي في حياته.
هؤلاء جميعا ممن بنى لنفسه كيانا سياسيا، مستغلا الامكانات الهائلة التي وضعت بتصرفه منذ دخوله “مجلس الحكم” وما تلاه من حكومة مؤقتة (كُُـشـف الكثير عن فسادها المالي والسياسي)، يضاف إلى ذلك أن الحكومة الحالية ما عادت تكترث بماضي الأفراد والجماعات، بقدر ما يهمها ما يملك من قاعدة على الأرض، لكسب أكبر عدد من أصوات الناخبين، وهذا هو واقع الحال الذي كشفته الحملة الانتخابية.
وقبلها، فان طريقة تشكيل القوائم الانتخابية والتحالفات، لم تخرج عن هذه المعادلة: الكبار يسحقون الصغار، وهو تعبير استخدمه أحد أقطاب قائمة الائتلاف الاسلامي “الشيعية” المنافسة لقائمة الائتلاف العراقي الموحد”الشيعية”.
وبدا من خروج أحمد الجلبي وعدد آخر من شخصيات الائتلاف “السابق” وتأسيسهم قوائم جديدة، ورفض الائتلاف الموحد ضم “حركة الدعوة الاسلامية” وبعض الشخصيات الأخرى بزعم أنها لاتملك قاعدة شعبية كبيرة، واختصار القائمة بحزب الدعوة الاسلامية والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية ومنظمة بدر والتيار الصدري وحزب الفضيلة مثلا، أن المنافسة الحقيقة ستكون في الانتخابات القادمة بين تيارين بكل مايمثلان من قيم متعارضة لم تتفق الا أيام المعارضة لاسقاط نظام صدام، ولم يحصل ذلك الا بـ”رعاية” أمريكية مباشرة.
نعم المنافسة ستكون بين العلمانية والاسلاموية، وبين هذا وذاك تضيع قوائم وتسحق أسماء وهذا الأمر دفع بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الى أن يغير من موقفه ويعمل على دعم القائمة الشيعية الممثلة بالائتلاف العراقي الموحد، على حساب بقية القوائم الشيعية الأخرى.
صحيح أن السيستاني لم يسم قائمة بعينها، الا أن البيان الصادر عن مكتبه وجه الناخبين ممن ينتمون الى التيار الاسلامي أو يصفقون له، أو يسعون للتدثر بعباءته، الى القائمة الكبرى “لتفادي تشتت الأصوات”، وهي لفتة ذكية من مرجع قاد العملية السياسية الجارية في العراق منذ اليوم الأول للاحتلال، ودفع البوصلة باتجاه الانتخابات رغم أنف المحتل.
الحوزة العلمية في النجف الأشرف التي تخضع بالكامل لمرجعية السيستاني والمرجعيات الرديفة الأخرى (وهم آيات الله:اسحق فياض، وبشيرالنجفي، ومحمد سعيد الحكيم، ومحمد اليعقوبي) عطلت دروسها وأرسلت الطلبة من حجج الاسلام وثقاته، إلى المدن والقرى والأرياف للتبليغ لفائدة قائمة الائتلاف العراقي الموحد، ويبدو أن صوتها قد غطى على اصوات الذين رفعوا في دعاياتهم شعار “المرجعية مع الانتخابات ولكنها لاتدعم قائمة محددة”.
عنف وممارسات غير ديمقراطية
“قائمة الائتلاف الاسلامي” التي أعلنت عن وجودها بعد أن رُفض انضمامها الى الائتلاف، ورفعت الشعار السايق أضافت لها أنها “القائمة الوحيدة المدعومة من مرجعيتين” وهما آية الله صادق الشيرازي، ومحمد تقي المدرسي، ولكنها نسيت أو تناست، أن معركتها الانتخابية ستكون محصورة بين مدرستي النجف وكربلاء بكل تفاصيل التأريخ، التي أفرزت حزب الدعوة الاسلامية وحلفاءه الحاليين تحت خيمة السيستاني وباقي مراجع النجف، ومنظمة العمل الاسلامي ومرادفاتها في ظل رعاية الخط الشيرازي بكل مفرداته.
الائتلاف الموحد رفع سقف شعاراته الانتخابية السابقة وضم لها باصرار واضح الدعوة إلى إقامة فدرالية في الجنوب والوسط، وسخن من شعاره السابق في رفض البعثيين واجتثاثهم.
العلمانيون ضمتهم أيضا “القائمة العراقية” بقيادة رئيس الوزراء السابق أياد علاوي، وهذه وجدت نفسها في زاوية حرجة إزاء النفوذ الاسلامي الشيعي، فحاولت التحالف مع الاسلاميين السنة، ولم تفلح الا في ضم كل من يعارض الائتلاف العراقي الموحد، ورفعت شعار “التدخل الايراني”، والتحذير ممن تسميهم بالشيعة الصفويين، وصرفت من الأموال الكثير الكثير على القنوات الفضائية، للترويج لـ “رجل المرحلة” الذي يقول في دعايته إنه غير مهتم بما تريده الدول، وفي مقابلاته يصرح علنا أنه حصل على دعم وتأييد من أمريكا وبريطانيا ودول الخليج ومصر والاردن و… لاطلاق “جبهة في مواجهة الاسلامية الشيعية”.
علاوي كشف المزيد من أوراقه حول مصير البعثيين لكسبهم الى صفه في العملية الانتخابية، وحاول مناغمة الوجدان الشيعي بزيارة ضريح الامام علي عليه السلام في النجف الأشرف، الا أنه فوجيء بما سماها خصومه “انتفاضة النعال” حين قذف بالأحذية والنعال من طرف البعض، وكعادته فقد صوابه ونسي أنه في حملة انتخابية، وأطلق تهديدات تسيء الى صورته بين الشيعة ليبراليين وإسلاميين.
باختصار فان الحملة الانتخابية شهدت المزيد من العنف، والممارسات غير الديمقراطية، وهو أمر طبيعي في بلد تحول عن طريق الاحتلال العسكري المباشر، من نظام ديكتاتوري شمولي الى نظام يبشر بالديمقراطية.
شروط الكبار .. واندثار الصغار
وكشفت الحملة الانتخابية أيضا عن “تحرر” العراقي عن “المواطنة” وتمسكه أكثر فأكثر بانشطارات طائفية (حتى داخل الطائفة الواحدة) أو قومية أو عرقية. كما حصلت خروقات عدة وتبادل اتهامات، الأخطر فيها ما وجه الى علاوي من طرف خصومه بشأن التحضير لانقلاب عسكري أثناء قيامه باستعراض عسكري لاحدى وحدات الجيش (التي أسست في عهده).
الحكومة أعلنت أنها تقف على الحياد وأن مهمتها تنحصر في حماية الحملة وتوفير الاجواء المناسبة لاجراء الانتخابات بشفافية وأمان. ولم تسخر أجهزة الاعلام الرسمية للقائمة التي تنتمي إليها، وقامت وسائل الاعلام الرسمي خصوصا قناة “العراقية” بتنظيم ندوات نقاش بين ممثلي القوائم، كما أعطي الجميع فرصا متكافئة لشرح برامجهم السياسية، وفي هذا السياق، انتقد البعض الحكومة ووجه لها اتهاما بارتكاب تجاوزات لم تكن مقتصرة على تمزيق ملصقات القوائم الاخرى ولافتاتها أو تشويهها، وأعلن آخرون أن بعض منتسبي الشرطة والميليشيات غير الرسمية قام بعمليات تمزيق البوسترات، أو تعليق لافتات قائمة محددة بعينها دون الاخريات.
لقد أنفقت في الحملة الانتخابية أموالا طائلة، وكشف النقاب أن واشنطن تدفع أموالا لصحف وقنوات فضائية كي تروج لمرشحين محددين وتمكينهم من فرض سيطرتهم على الانتخابات القادمة، مدفوعة بمخاوف من أن إيران قد تستخدم المال والنفوذ للتأثير على الانتخابات العراقية لكي تأتي لصالحها، ولهذا سمحت واشنطن لسفيرها في بغداد زلماي خليل زاده باجراء اتصالات مع طهران، وهذه رفضتها لأنها كشفت الأهداف.
وبماأن كل كيان سياسي أو ائتلاف انتخابي مصادق عليه من طرف المفوضية العليا للإنتخابات يتحمل لوحده مسؤولية توفير تكاليف حملته الإنتخابية أو ترتيبات دعمها، ونظرا لأن المفوضية العليا لن تتحمل مسؤولية أية تكاليف، فان “الكبار” وحدهم ومن يملك سلطة المال (ولا يهم هنا من أين أتى) سيحددون مستقبل الانتخابات القادمة، وأما “الصغار” بشتى تلويناتهم ومختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم….. فلهم الله.
نجاح محمد علي – دبي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.