“اللعبة الكبرى” لا زالت مستمرة
هل بدأت الأزمة الإيرانية - الأمريكية تخرج من بوتقتها الثنائية لتصبح صراعاً جماعياً دولياً مكشوفاً؟
قد يكون الأمر كذلك في سياق ما يمكن تسميته “اللعبة الكبرى” الجديدة التي انطلقت مؤخراً في منطقة قزوين – الخليج النفطية الإستراتيجية.
هل بدأت الأزمة الإيرانية – الأمريكية تخرج من بوتقتها الثنائية لتصبح صراعاً جماعياً دولياً مكشوفاً؟
أجل، وبامتياز أيضاً، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن دخول القوة الإقليمية الإسرائيلية على خط المجابهة عبر “قمة” رؤساء الوزراء السابقين، والتي جاءت مباشرة بعد لقاء بنيامين نتنياهو وديك تشيني، ولا عن تحرّك بعض الدول العربية لتطويق إيران عبر أحاديث “الأهلة الشيعية والسنّية”، ولا حتى أيضاً عن توحيد الجهود الأوروبية – الأمريكية إزاء إيران، بل عما هو أهم: “اللعبة الكبرى” الجديدة التي انطلقت مؤخراً في منطقة قزوين – الخليج النفطية الإستراتيجية.
ما طبيعة هذه اللعبة، وما مقوماتها؟
بداية، يتعيّـن التذكير بأن مثل هذه اللعبة ليست بالأمر المستجد. فمنذ أن بدأت اللحظة الإمبريالية البريطانية في هذه المنطقة أواخر القرن التاسع عشر، باتت كل الأطراف المحلية فيها مجرّد أطراف ثانوية في مجابهات بين الدول الكبرى فوق لوحة شطرنج جيو – إستراتيجية.
وكما هو معروف، بدأت “اللعبة الكبرى” (وهو تعبير صكّه البريطاني أرثر كونولي، ثم إستخدمه الروائي روديارد كيبلينغ في كتابه” كيم”)، مع مطالع القرن التاسع عشر بصراع بين الإمبراطوريتين، البريطانية والقيصرية الروسية، حول السيطرة على آسيا الوسطى.
كان الهدف حينها: حماية الهند “جوهرة تاج” الاستعمار الإنجليزي من التهديدات الروسية المتمددة آنذاك. كانت أفغانستان الساحة الرئيسية لهذا الصراع الذي شمل العديد من الدول الأوروبية، لكنه لم يتحول إلى صدام مباشر بينها.
وفي عصرنا هذا، أحيى زبغنيو بريجنسكي مفهوم “لوحة الشطرنج”، وجعله عنوان كتاب أصدره عام 1997 بعنوان “لوحة الشطرنج الكبرى: التفوق الأمريكي ومستلزماته الجيو – إستراتيجية”.
ثم ما لبثت إدارة بوش أن تبنّـت مقولات هذا الكتاب بالكامل وحوّلته إلى سياسة هدفها إحكام الخناق على موارد النفط في أسيا الوسطى – قزوين والخليج، وبقية مصادر النفط في العالم (بما في ذلك حتى النفط الروسي نفسه).
الآن إيران، وليس أفغانستان، هي الساحة الرئيسية للعبة الجديدة، وهذا لسببين: الأول، أن السيطرة على موارد النفط، وليس الهند، بات هو الهدف. وثانياً لأن إيران في هذا الإطار، هي جغرافياً الدولة الوحيدة التي تحد كلاً من الخليج وبحر قزوين في آن واحد، والتي تشرف أيضاً على مضيق هرمز، ومن يسيطر على هذه “الساحة”، يسمح لملكته بإحكام قبضتها على كل رقعة الشطرنج.
فأمريكا على سبيل المثال، يمكنها حينذاك تحقيق ثلاثة إنجازات دفعة واحدة: إزالة تهديد رئيسي لهيمنتها على منطقة الخليج، فتح ثاني أكبر احتياطي من النفط والغاز الذي تملكه إيران مجدداً أمام شركاتها، وتقليص النفوذ الروسي والصيني إلى حدّ كبير في منطقة النفط الكبرى.
وفي المقابل، إذا ما نجحت بكين وموسكو في “إنقاذ” إيران، سيكون هذا أهم إنجاز جيو – إستراتيجي لهما في لعبة الشطرنج الكبرى هذه.
رد موسكو وبكين..
كان الأمريكيون هم المبادرين إلى شن “اللعبة الكبرى” الجديدة، ليس الآن فحسب، بل حتى منذ نهاية الحرب العالمية وبداية الحرب الباردة، حين حلّـت واشنطن مكان لندن بوصفها القوة العالمية الأولى، وحين عمدت إلى توكيد نفوذها في الشرق الأوسط بهدف السيطرة على نفطه، واحتواء الإتحاد السوفياتي، وتأمين المداخل إلى الموارد الطبيعية والجغرافية الإستراتيجية الأخرى.
لكن التصعيد الأمريكي لهذه اللعبة وصل إلى ذروته في أوائل القرن الحادي والعشرين، حين اغتنمت إدارة الرئيس بوش “فرصة” أحداث سبتمبر 2001 والتماهي الروسي معها آنذاك، لاجتياح كل منطقة آسيا الوسطى – قزوين بهدف السيطرة على مواردها النفطية واستخدامها كرأس جسر لغزو أفغانستان وإحكام القبضة على إيران.
الرد الروسي، ومن ثم الصيني على هذا التوغل الإستراتيجي الأمريكي واسع النطاق، كان بطيئاً لكنه لم يتأخر كثيراً، وتجسّـد، أولا وأساساً، في تفعيل معاهدة شنغهاي، التي بدأت قراراتها غير المعلنة تظهر تباعاً خلال الأيام الأخيرة على النحو الآتي:
– الدعم الروسي والصيني القوي لجهود إيران لعقد قمة قريباً في طهران لدول بحر قزوين الساحلية، تحت شعار “مجابهة التدخلات الأجنبية في آسيا الوسطى”.
– إعلان الرئيس بوتين بصراحة أنه يريد أعلى درجات التعاون مع طهران لتحقيق السيطرة على إمدادات الطاقة إلى “دول ثالثة”، وبالطبع المقصود هنا أوروبا وحليفتها واشنطن.
– تشديد مسؤول صيني رفيع على أن “إقتصادات الصين وإيران باتت مرتبطة بشكل وثيق ببعضها البعض”، وتأكيده على الاستثمارات الصينية ستتدفق بكثافة على قطاعات النفط والغاز ومشاريع البتروكيماويات الإيرانية.
– والاهم: تزايد المؤشرات على قرب ضم طهران كعضو كامل العضوية في معاهدة شنغهاي.
هكذا جاء رد موسكو وبكين على الصعيد الإيراني. أما على مستوى المنطقة، فهو تجسّـد في: طرد القوات الأمريكية من أوزبكستان ووقف تقدم جحافل واشنطن الإستخبارية والتجارية في أذربيجان وكازاخستان وطاجيكستان وزرع بعض الأنياب في فم معاهدة شنغهاي لتحويلها إلى حلف أطلسي صغير، والأهم اتخاذ سلسلة إجراءات متصلة لحماية إيران من الغضبة الأمريكية، سواء في مجلس الأمن أو خارجه.
بالطبع، لم تقف واشنطن مكتوفة الأيدي، وهي تحركت للرد على جبهات عدة: الخروج سريعاً من المستنقع العراقي بهدف التفرّغ للمجابهة مع إيران والحرص الشديد على ضم أوروبا إليها في الصراع الجديد بكل ما يوفره ذلك لها من طاقات اقتصادية وجيو – إستراتيجية هائلة ومواصلة العمل على اختراق دول الإتحاد السوفياتي السابق، خاصة أذربيجان وكازاخستان وجورجيا وأوكرانيا وتشجيع النزعات الانفصالية في الشيشان وبقية أنحاء الإتحاد الروسي، وأخيراً، ضخ كل القدرات العسكرية الإسرائيلية التقليدية والنووية إلى لعبة موازين القوى الجديدة.
الحرب وشيكة؟
كما هو واضح، ساحة الصراع بين الدول الكبرى الثلاث تدور في رقعة جغرافية شاسعة. لكن الجزء الأهم فيها كان، وسيبقى، إيران التي تشكّل (كما أشرنا) واسطة عقد منطقة قزوين – الخليج الكبرى. فهل ستنجح موسكو وبكين في مواصلة توفير الحماية لها؟
على المدى القصير نعم، خاصة إذا ما تمكّـنت العاصمتان من إقناع حلفائهما الإيرانيين بإبداء الليونة إزاء الملف النووي لتجنب الضربة العسكرية الأمريكية. لكن، وكما يقول الكاتب البريطاني مايكل كلير، وعن حق، “الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر طويلاً، برغم الحمى الدبلوماسية الراهنة، لأن أمريكا لن تتخلّـى عن هدفها بتغيير النظام الإيراني أو على الأقل منعه من التحوّل إلى قوة إقليمية، ناهيك بأن يصبح قوة نووية”.
لا بل يتوقع كلير، الذي أصدر مؤخراً كتاباً مهماً بعنوان “الدم والنفط: مخاطر ومضاعفات الاعتماد الأمريكي المتزايد على البترول المستورد”، أن ترد واشنطن على جهود موسكو وبكين لتطويل عمر النظام الإيراني عبر تمديد آجال المفاوضات الدبلوماسية، بالقيام بعمل عسكري ضده قبل نهاية العام الحالي.
هل ثمة مبالغة ما في هذا التوقع؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، خاصة إذا ما وضعنا الأزمة الإيرانية – الأمريكية في إطارها الصحيح كجزء (مجرد جزء) من “اللعبة الكبرى” الدولية الأشمل في منطقة قزوين – الخليج، إذ حينها سيمكننا رؤية الصورة الكاملة لغابة الشطرنج الكاملة المختفية وراء أكمة البيدق الإيراني.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.