المأزق الرهيب في سجن أبو غريب
جاءت فضيحة إساءة معاملة الأسرى والمساجين العراقيين لتشكّـل لطمة جديدة وعنيفة لمصداقية إدارة الرئيس بوش.
وتجسد الفضيحة الجديدة تعثّـر السياسة الأمريكية في العراق، وبداية انهيار خرافة إقامة الولايات المتحدة لنموذج ديمقراطي في بغداد يكون نموذجا تُـحاكيه العواصم العربية الأخرى..
وفي خطوات غير مسبوقة، حاولت إدارة الرئيس بوش احتواء الضرر الذي خلّـفته تلك الفضيحة بالنسبة لمصداقية الولايات المتحدة في العالم العربي مع توالي الكشف عن المستور من الفضائح السياسية والعسكرية في العراق.
وفي يوم واحد، تحدث الرئيس بوش بنفسه إلى المشاهدين العرب عبر قناة العربية، وكذلك من خلال قناة الحرة التي تُـموّلها الولايات المتحدة، وفي المقابلتين تعهّـد الرئيس بوش بتقديم المسؤولين عن انتهاكات حقوق الأسرى العراقيين للمحاكمة، وحاول إقناع الرأي العام العربي بأن الطريقة التي عُـومل بها السجناء لا تعكس طبيعة الشعب الأمريكي، وأنها مُـخزية ومقززة وغير مقبولة، ولكنه لم يعتذر للشعب العراقي عن تلك الانتهاكات، ورفض المقارنة بينها وبين الممارسات القمعية لنظام صدام حسين في سجن أبو غريب.
ولما تيقّـن البيت الأبيض من أن المقابلتين التليفزيونيتين أخفقتا في تخفيف الغضب الشعبي العارم في العالم العربي، عاد الرئيس بوش في اليوم التالي ليقدّم اعتذارا للشعب العراقي عن إهانة الجنود الأمريكيين للسجناء العراقيين وإذلالهم.
كما أعربت مستشارة بوش للأمن القومي كوندليزا رايس عن أسف الولايات المتحدة العميق لإساءة معاملة القوات الأمريكية للسجناء العراقيين، وأدانها كذلك وزير الخارجية كولن باول. غير أن السناتور جوزيف بايدن، ثاني أكبر المسؤولين في لجنة العلاقات الخارجية يرى أن إدارة الرئيس بوش لم تُـعالج الضرر الذي أحدثته فضيحة سجن أبو غريب بالقدر الكافي من الأهمية، وقال “إن ما حدث سيُـلحق أبلغ الضرر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، بل وسيكون له أثر سلبي واسع النطاق على الأمن القومي الأمريكي”.
واتفق معه في ذلك التحليل، نائب وزير الخارجية الأمريكية ريتشارد آرميتاج فقال “إن ما حدث في سجن أبو غريب ألحق ضررا طويل الأمد بالعلاقات العربية الأمريكية، وسيمر وقت طويل قبل أن يُـمكن التغلب علي تلك الصور”.
وسرعان ما اضطرت الخارجية الأمريكية إلى تأجيل إصدار تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان في دول العالم باعتبار أنه سيثير من جديد اتهامات للولايات المتحدة بانتهاج معيار مزدوج في تقييم حقوق الإنسان في وقت أظهرت فيه فضيحة سجن أبو غريب انتهاكات أمريكية فاضحة لحقوق السجناء العراقيين.
الغضب ينتقل إلى الكونغرس
وفيما يتزايد الشك في أن إدارة الرئيس بوش كانت ستتستّـر على تلك الفضيحة لولا نشر صور إساءة معاملة السجناء العراقيين، يتزايد غضب أعضاء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري إزاء مسلك وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفلد الذي لم يُـبـلغ الرئيس ولا الكونغرس بحقيقة وجود تحقيقات منذ يناير الماضي في انتهاكات الجنود الأمريكيين لحقوق المساجين العراقيين، رغم أنه كان يطلع أعضاء الكونغرس على الوضع في العراق في جلسة مغلقة قبل يوم واحد من نشر صور إساءة معاملة السجناء العراقيين. وطالب السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن بضرورة حصول الكونغرس على إجابات شافية عما حدث وتحديد المسؤولية عنها، واستقالة وزير الدفاع إذا ثبتت مسؤوليته عنها.
وأعرب السناتور الجمهوري جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي عن قلقه الشديد إزاء الضرر الذي ألحقته تلك الفضيحة بصورة أمريكا في العالم العربي، ودعا إلى إجراء تحقيق كامل لتحديد حجم الانتهاكات والمسؤولين عنها، وطالب بمثول رامسفلد أمام اللجنة.
كما أعرب السناتور الجمهوري البارز جون ماكين عن أسفه لتستّـر البنتاغون على فضيحة الأسرى العراقيين رغم علمه بها منذ يناير الماضي. أما السناتور الديمقراطي كارل ليفين، ثاني أكبر مسؤول في لجنة القوات المسلحة، فأكد أن الفظائع التي ارتكبها بعض الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب تُـعرض أمن العسكريين الأمريكيين للخطر، بل وتُـعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، وأعلن اعتزام اللجنة إجراء تحقيق مكثف في الفضيحة.
وطالب السناتور توم داشل، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ بأن يُـصدر المجلس قرارا يعبّـر فيه عن استنكاره لتلك الانتهاكات وضرورة تمسك القوات الأمريكية بالقوانين المعمول بها في مجال حقوق الإنسان.
كما أكّـد السناتور بيل فريست، زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ أن إهانة الأسرى العراقيين على أيدي جنود أمريكيين تستوجب الإدانة الكاملة، وصوّت مجلس النواب بأغلبية ساحقة على قرار يشجُـب ما حدث في سجن أبو غريب ويطالب وزير الدفاع باتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة ضد كل من تثبت إدانته من الجنود الأمريكيين، إلا أن القرار لم يطالب بإجراء الكونغرس لتحقيق في تلك الفضيحة.
ودعا المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأمريكية السناتور جون كيري الرئيس بوش إلى الاعتذار للعالم عن انتهاكات سجن أبو غريب، وإظهار استعداد الولايات المتحدة لتصحيح أخطائها وتحمُّـل المسؤولية عما حدث. واتهم السناتور كيري وزير الدفاع رامسفلد ورئيس الأركان الأمريكية الجنرال مايرز بالإخفاق في الرد المبكّـر على تلك الانتهاكات فور علمهما بها.
وقد طالب مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية الكونغرس بإجراء تحقيق في فضيحة سجن أبو غريب وملاحقة النموذج المتكرر لانتهاكات حقوق المسلمين المحتجزين لدى القوات الأمريكية، سواء في العراق أو في أفغانستان أو في قاعدة غوانتنامو في كوبا، وهذا ما طالب به أيضا السناتور جي روكيفيلر، نائب رئيس لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ الأمريكي.
هل سيُـمكن احتواء الضرر؟
يُـجيب الدكتور أنتوني كوردسمان، خبير الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن فيقول: “إن الانتهاكات التي ارتكبها الجنود الأمريكيون في سجن أبو غريب ستُـذكي المزيد من مشاعر الكراهية وأعمال العنف ضد الجنود الأمريكيين في العراق، وستُـسفر عن مئات من القتلى والجرحى منهم، وصحيح أن استخدام العنف في استجواب المساجين في زمن الحرب يحدُث رغم مخالفة ذلك لقوانين الحرب، وسبق للقوات الأمريكية في فيتنام أن مارست تلك الانتهاكات، إلا أن ما حدث في سجن أبو غريب يُـظهر مدى الحاجة إلى تدريب الجنود الأمريكيين على الإلمام بحقوق الإنسان والالتزام بقواعد الانضباط، بالنظر إلى أنه أصبح من السهل جدا أن يتنافس الجنود الأمريكيون في إلحاق الأذى بأشخاص عراقيين، يعتقد أولئك الجنود أنهم أعداء للولايات المتحدة واقعون تحت سيطرتهم، مما سيخلق مناخا مُـغريا للمزيد من إساءة المعاملة وانتهاك الحقوق”.
فيما يرى خبراء آخرون أن مصداقية الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط تُـواجه بعد فضيحة سجن أبو غريب ضررا مزدوجا، خاصة مع ربط الرأي العام العربي بين الممارسات القمعية للقوات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومساندة بوش لشارون ولخطته الأحادية، بل وتبرع الرئيس بوش بما يصفه العرب بوعد “بلفور” الثاني من خلال إنكاره لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وبين ممارسات قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، كما ظهرت في الفلوجة والنجف على الصعيد العسكري، وفي فضيحة سجن أبو غريب على الصعيد الإنساني.
ويتساءل السفير أندرو كيلغور، سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى قطر (والذي تبنّـى جمع توقيعات أكثر من ستين دبلوماسيا أمريكيا سابقا على خطاب عاجل للرئيس بوش لتغيير سياسته في الشرق الأوسط) عن المبرر وراء سلسلة الأخطاء التي وقعت فيها السياسة الأمريكية في العراق، وقال لسويس إنفو: “لقد جرّنا الرئيس بوش بعد أن خضع تماما لتأثير المحافظين الجدد إلى حرب في العراق بدون مبرر. فقد زعم أن قرار الحرب يستند إلى حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثم لم يتمكّـن من العثور على تلك الأسلحة، وادعى أن الرئيس العراقي كان على علاقة بتنظيم القاعدة، فيما يُـدرك الجميع أن توجهات صدام العلمانية لا يمكن أن تلتقي مع التوجهات الدينية المتطرفة التي يتبناها بن لادن وتنظيم القاعدة، ثم انزلقت القوات الأمريكية في العراق إلى مأزق سجن أبو غريب الذي عرّض سمعة الولايات المتحدة لضرر قد يستمر لسنوات قادمة، ووصل بسمعة أمريكا في العالم العربي إلى الحضيض”.
واستبعد السفير كيلغور أن تتمكّـن جهود الدبلوماسية العامة الأمريكية، رغم مئات الملايين من الدولارات التي تُـنفق عليها، من الفوز بقلوب وعقول العرب، وفسّـر ذلك بأن نجاح الدبلوماسية العامة في تحقيق ذلك الهدف يعتمد على المضمون، ولذلك، لا يمكن الفصل بين ما تتبنّـاه إدارة الرئيس بوش من سياسات خاطئة في الشرق الأوسط، وبين تقبّـل المواطن العربي لما تُـحاول الدبلوماسية العامة نقله للمواطن العربي الذي لن يقبل أي إعلام دعائي، ويستطيع التعرف على “البروباغندا” في أقل من دقيقة واحدة.
وقال السفير المخضرم “إن الدبلوماسية العامة تهدف في النهاية إلى أن تعكس فحوى السياسة الأمريكية، وطالما أن السياسات الأمريكية إزاء الشرق الأوسط مرفوضة في أوساط الرأي العام العربي، فلن يصلح العطّـار في شكل وسائل الدبلوماسية العامة ما أفسدت السياسة الأمريكية وممارساتها الخاطئة في المنطقة.
وخلص السفير كيلغور إلى أن استقالة مارغريت تاتوايلر، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الدبلوماسية العامة من منصبها قبل أيام، ربما يكون إدراكا منها للمهمّـة المستحيلة التي أوكلت إليها.
وقال كيلغور، إن الرسالة التي بعث بها الدبلوماسيون الأمريكيون السابقون إلى الرئيس بوش استهدفت التأثير على الرأي العام الأمريكي، وتنبيه الرئيس بوش إلى مغبّـة السياسات الخاطئة التي يتّـبعها إزاء الوضع في العراق أو إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، والتي وصلت بمشاعر الكراهية للولايات المتحدة في العالم العربي إلى مستويات خطيرة تجعل من الصعوبة بمكان على الدبلوماسيين الأمريكيين ممارسة جهودهم والعمل في منطقة الشرق الأوسط، وتلحق أبلغ الضرر بمصداقية الولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.