المحافظون الجدد بين “الإنتكاسة” و”الرحيل”
كان من الملفت للنظر في ذكرى مرور ثلاثة أعوام على شن الحرب الاستباقية الأمريكية على العراق والتي روج لشنها صقور الحرب من المحافظين الجدد، اختفاء تلك الوجوه من ساحة العمل السياسي والعسكري الأمريكي.
لكن هل يعني اختفاء رموز المحافظين الجدد البارزين أن زمانهم قد ولى في المسرح السياسي الأمريكي؟
كان من الملفت للنظر في ذكرى مرور ثلاثة أعوام على شن الحرب الاستباقية الأمريكية على العراق والتي روج لشنها صقور الحرب من المحافظين الجدد، اختفاء تللك الوجوه من ساحة العمل السياسي والعسكري الأمريكي من أمثال بول وولفوفيتز مساعد وزير الدفاع الذي “كافأه” الرئيس بوش على أخطائه الاستراتيجية بمنصب رئيس البنك الدولي، ودوجلاس فايث وكيل وزارة الدفاع السابق للشئون السياسية وكذلك ريتشارد بيرل مستشار وزارة الدفاع السابق الملقب بـ “أمير الظلام”.
لكن هل يعني اختفاء رموز المحافظين الجدد البارزين أن زمانهم قد ولى في المسرح السياسي الأمريكي؟
يجيب الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في كتابه الجديد بعنوان “القيم الأمريكية المعرضة للخطر” فيقول إن اختيار الرئيس بوش لجون بولتون كسفير للولايات في الأمم المتحدة يعكس تبني حكومة بوش لفلسفة المحافظين الجدد والتي تعتمد على تبني التدخل الاقتحامي المنفرد في الشئون الخارجية لإعلاء شأن الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والعسكرية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.
ويحتل بعض المحافظين الجدد مراكز مرموقة ومناصب كبيرة في الحكومة الأمريكية وهم مصممون على فرض الهيمنة الأمريكية على العالم بأسره ولا مانع لديهم في اللجوء إلى الحروب الاستباقية لتحقيق هذا الهدف الإمبريالي. وقال الرئيس كارتر إن ريتشارد تشيني شرح تلك الفلسفة في تقرير أعده قبل ثمانية أعوام من توليه منصب نائب الرئيس بعنوان”استراتيجية الدفاع لعقد التسعينات” واختار هو وزملاؤه من المحافظين الجدد العراق كهدف رئيسي لتطبيق تلك الفلسفة وخدمة لأمن إسرائيل ولتحويل العراق إلى قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ونبه الرئيس كارتر إلى خطورة تلك الفلسفة على صورة أمريكا وقيمها الثقافية والسياسية في العالم. وأشار الرئيس السابق إلى أن ما يزيد الطين بلة هو توافق أجندة المحافظين الجدد مع أجندة متطرفة أخرى هي أجندة الأصوليين في اليمين المسيحي الأمريكي وتأثيرهم على السياسة الخارجية الأمريكية خاصة في الشرق الأوسط حيث انضموا إلى صقور المحافظين الجدد في الزج بأمريكا نحو شن الحرب في العراق والتزام الصمت إزاء التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية. ويؤمن هؤلاء بأن من واجبهم التعجيل بعودة السيد المسيح إلى الأرض لتحقيق نبوءة الكتاب المقدس “بشن حرب على المسلمين في العراق والاستيلاء على كل الأرض المقدسة”.
انتقادات لاذعة
وكان مركز الحوار العربي في واشنطن نظم في الآونة الأخيرة ندوة تحدث فيها الباحث السياسي علاء بيومي مدير الشئون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية استعرض خلالها خلاصات عدد من أهم الكتب الأمريكية عن المحافظين الجدد ومن بينها كتاب المرشح السابق لانتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2000، بات بيوكانن بعنوان: “أين أخطأ اليمين؟” والذي حذر فيه من المصير الذي آلت إليه الامبراطوريات الكبرى في العالم وكيف أنها انهارت بسبب الإفراط في شن الحروب الخارجية.
ويتهم بيوكانن وهو من المحافظين التقليديين في كتابه مجموعة المحافظين الجدد بأنهم اختطفوا السياسة الخارجية في عهد الرئيس بوش وغيروا أفكاره من انتقاده لفكرة أن تلعب الولايات المتحدة دور الشرطي في العالم إلى اتباع سياسة شن الحروب الاستباقية الإجهاضية لدعم إسرائيل ومن أجل نشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي وإعادة تشكيلهما، وهو أمر سيصل بالولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى الدخول في صراع لا نهاية له وحرب تلو الأخرى لفرض الديمقراطية العلمانية والثورة الاجتماعية على العالم الإسلامي.
وخلص بيوكانن في كتابه إلى أن أيديولوجية المحافظين الجدد تنطلق من مبدأ أساسي وهو تطابق مصالح أمريكا مع إسرائيل، وبالتالي فهم يدفعون الولايات المتحدة إلى محاربة أعداء إسرائيل ولذلك دفعوا أمريكا إلى شن الحرب على العراق وكانت حسب رأي بيوكانن “أكبر خطأ استراتيجي أمريكي خلال أربعين عاما”، واستخدموا لتبرير تلك الحرب مقولة أنها حرب على الإرهاب بينما هي حرب للسيطرة على الشرق الأوسط وهي سيطرة لن تقدم حلا لمشكلة الإرهاب بل كانت وستكون سببا للإرهاب.
قوة اليمين في امريكا
إثر ذلك انتقل الباحث علاء بيومي إلى عرض كتاب آخر بعنوان: “أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا” والذي ركز فيه الكاتبان إدريان ولدريدج وجون مايكل ثويت على أن تيار المحافظين الجدد هو “تيار ظهر في أمريكا ليرضي نزعات أطياف مختلفة من اليمين تشكل نسيج الأمة الأمريكية من الناحية السياسية”، وقال إن اليمين الأمريكي ينقسم من حيث الأداء الوظيفي إلى مجموعتين:
أولا: “مراكز الأبحاث اليمينية” التي تركز على إصدار الدراسات التي تنطوي على أفكار وطروحات لإدارة السياسة العامة في الولايات المتحدة والسعي لإقناع الإدارة والكونجرس بتبني هذه السياسات وتتزعم هذه المجموعات مراكز بحثية مثل معهد أمريكان إنتربرايز ومؤسسة هيريتدج ومعهد كاتو للأبحاث العامة.
ثانيا: “المجموعات اليمينية على المستوى الجماهيري” ومهمتها حشد أصوات الناخبين اليمينيين وربطها بالقضايا والسياسات والترويج لساسة معبرين عن مصالح اليمين الأمريكي ويمثل هذا التيار منظمات مثل التحالف الأمريكي المحافظ والتحالف المسيحي.
وأوضح الباحث علاء بيومي كيف أن أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن آندرو باسيفتش رأي سببا مختلفا لنفوذ المحافظين الجدد عبر عنه في كتاب بعنوان: “النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة” فأعرب عن اقتناعه بأن من أحد أهم أسباب تنامي النزعة العسكرية الأمريكية ظاهرة المحافظين الجدد الذين تميزوا منذ نشأتهم في الستينيات من القرن الماضي بإيمانهم القوي بوجود قوى للشر في العالم وبدور أمريكا في محاربة ذلك الشر كقائدة للعالم وباستخدام مختلف الأساليب وعلى رأسها القوة العسكرية. وشرح الباحث كيف أن الجيل الثاني من المحافظين الجدد والذي ظهر في التسعينات من القرن العشرين تميز بجرأة أكبر في الترويج للجوء إلى القوة.
وخلص من قراءته لكتاب “النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة” إلى أن مؤلفه يفرق بين جيلين من المحافظين الجدد الجيل الأول جاءت أفكاره كرد فعل للظروف الدولية والتحديات الداخلية التي واجهتها أمريكا في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى حتى نهاية حرب فيتنام في منتصف السبعينات من القرن العشرين من الكساد الكبير إلى صعود النازية وتراجع دور أمريكا واقتناع هذا الجيل بأن صعود الشر مرهون بالتواني عن مقاومته وأن القوة العسكرية هي أداة قهر قوى الشر. لكن ذلك الجيل ترعرع في فترة خيم فيها الشعور بعدم الثقة في القوة وفي السياسة الخارجية الأمريكية بسبب ما حدث في فيتنام.
أما الجيل الثاني من المحافظين الجدد فقد ظهر بعد فوز أمريكا في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي الذي وصفه الرئيس ريجان بإمبراطورية الشر، ثم جاءت عملية عاصفة الصحراء وما أظهرته من قدرة القوات الأمريكية على تحقيق نصر كاسح بأقل قدر من الخسائر لتغير المعايير ولتفتح شهية أمريكا للنزعة العسكرية وتزيد الطلب على خدمات الجيش في شن الحروب الخارجية.
ولذلك اعتنق الجيل الثاني من المحافظين الجدد خمسة أفكار أساسية:
أولا: أن العالم يبحث عن قائد وأن أمريكا هي القائد الحتمي ولذلك يتعين على الغرب وغيره من دول العالم أن يتوحد تحت القيادة الأمريكية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.
ثانيا: أن فشل أمريكا في استغلال فرصة قيادتها المنفردة للعالم حاليا لإعادة تشكيله سيؤدى إلى الفوضى.
ثالثا: أن قوة أمريكا العسكرية هى أداة رئيسية لنجاحها في قيادة العالم وأن السلام الحقيقي هو الذي يأتي كنتيجة للانتصار في الحرب، ولذلك يجب استخدام هذه القوة في مشاريع حاسمة وطموحة لصناعة نظام عالمي تسيطر عليه الولايات المتحدة.
رابعا: ضرورة الالتزام المطلق بدعم القوة العسكرية الأمريكية وتحديث وتطوير وتسليح القوات الأمريكية لخدمة أهداف كبرى مثالية في العالم.
خامسا: رفض الساسة الواقعيين مثل هنري كيسنجر والساسة المترددين مثل كولن باول باعتبار أن الواقعية والتردد يمثلان مرضين خطيرين يحولان دون قيادة أمريكا للعالم.
مستقبل المحافظين الجدد
وكان الكتاب الأخير الذي استعرضه الباحث السياسي علاء بيومي في مركز الحوار العربي في واشنطن بعنوان: “ثورة المحافظين الجدد: المثقفون اليهود وتشكيل السياسة العامة” للكاتب والمؤرخ اليهودي الأمريكي موري فريدمان وهو متعاطف مع أفكار المحافظين الجدد ليس كما يشاع عنهم كعصابة غامضة قليلة العدد سعت إلى اختطاف السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش، وإنما كتيار يضم أعدادا كبيرة من الأمريكيين الذين تحولوا إلى محافظين جدد نتيجة لتوجههم اليميني وكذلك للظروف التي مر بها المجتمع الأمريكي خلال القرن العشرين.
وشرح الباحث في ندوة مركز الحوار كيف أن الكاتب فريدمان ينظر إلى تيار المحافظين الجدد على اعتباره تجسيد لصراع بين اليهود الأمريكيين الليبراليين واليهود الأمريكيين المحافظين من أجل السيطرة على أيديولوجية اليهود الأمريكيين.
وبين البيومي كيف أن غالبية قيادات المحافظين الجدد هم من المثقفين اليهود الأمريكيين الذين سعت مجلة كومينتاري التي بدأت في الصدور عام 1945 عن اللجنة اليهودية الأمريكية إلى ربطهم ببعض ثم ساعدت الحركات الفكرية والسياسية الكبرى التي مر بها المجتمع الأمريكي خلال الخمسينات والستينات على تشكيل ما وصفه ببيئة خصبة لنمو أفكار المحافظين الجدد ومن أهم هذه التحولات:
أولا: تلاقي المحافظين الجدد مع الجماعات اليمينية المحافظة على أرضية معاداة ثقافة اليسار الأمريكي الجديد ومواقفه الاجتماعية والأخلاقية.
ثانيا: ربط المحافظين الجدد بين الشيوعية والنازية بعد بروز وحشية ستالين مع الأقليات الدينية بما فيها اليهود السوفييت وتصعيد الاتحاد السوفييتي لصراعه مع الغرب، وسعي المحافظين الجدد للبحث عن حلفاء أمريكيين أكثر رغبة في المواجهة مع المعسكر الشيوعي.
ثالثا:هزيمة اليمين الأمريكي التقليدي في الانتخابات خلال الخمسينات وأوائل الستينات وظهور جيل جديد من الناشطين المحافظين سعى لتطوير الخطاب اليميني الأمريكي بشكل يقرب بين المحافظين الجدد واليمين الأمريكي الجديد في بداية السبعينات.
رابعا: نمو التيار الأمريكي المحافظ داخل الجامعات والمؤسسات الفكرية والبحثية الأمريكية من خلال تعاون اليمين الأمريكي المعتدل مع المحافظين الجدد في بناء شبكة واسعة من الجماعات الفكرية النشطة داخل الجامعات ومؤسسات الأبحاث في أمريكا.
خامسا: تقرب المحافظين الجدد إلى اليمين الأمريكي من خلال طرح فلسفة اقتصادية واجتماعية متميزة وظهرت قوة ذلك التقارب في تصويت الجانبين معا وبقوة لصالح رونالد ريجان بل وتمكن المحافظين الجدد من العمل في إدارته.
وردا على سؤال لسويس إنفو عن تصوره لمستقبل المحافظين الجدد في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية خاصة في الشرق الأوسط قال الباحث السياسي علاء بيومي: “يجب أن نتوقف عن تحويل المحافظين الجدد إلى شماعة لتبرير أخطاء السياسات الخارجية الأمريكية خاصة في الشرق الأوسط وأن نبدأ في فهم أعمق لحقيقة أن المحافظين الجدد ليسوا قوة مهيمنة على صانع القرار السياسي في الولايات المتحدة وإنما هم إحدى مجموعات عديدة مؤثرة من تيار عارم لليمينيين في الولايات المتحدة يضم كذلك أبرز القادة المسيحيين المتشددين في أمريكا، تمكنت من استغلال أحداث سبتمبر للترويج لمبدأ وجود قوى للشر في العالم وأن القوة العسكرية والحروب الاستباقية هي الحل الوحيد لمواجهة تلك القوى. وبالتالي يجب ألا نقع في خطأ توهم أن الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية في العراق مثلا ستجبر المحافظين الجدد على التسليم بالهزيمة والإنزواء.”
ونقل البيومي عن وليام كريستول محرر مجلة ويكلي ستاندرد والمدير السابق لمكتب دان كويل نائب الرئيس الأسبق جورج بوش الأب (والذي يعد الأب الروحي للجيل الحالي من المحافظين الجدد) قوله: “إنه لا مفر أمامنا من إثبات قدرتنا على النجاح في العراق لأن فشل المشروع الأمريكي في العراق سيشكل انتكاسة كبرى للمحافظين الجدد، ولكنهم لن يختفوا من المسرح السياسي الأمريكي”.
من ناحيته نبه الرئيس كارتر في كتابه: “القيم الأمريكية المعرضة للخطر” إلى أن المحافظين الجدد الذين روجوا لفكرة أنه إما أن تكون معنا أو أن تصبح ضدنا أصبحوا بفلسفتهم الإمبريالية يشكلون أكبر خطر على سمعة الولايات المتحدة في العالم.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.