المحكمة الجنائية الدولية أصبحت حقيقة
لا يساور أحد الشك في أن الحدث تاريخي بكل المقاييس لكن الولادة القيصرية لما يمكن أن يعتبر "عدالة كونية" في لاهاي تثير مخاوف كثير من المتشائمين والواقعيين على حد السواء..
فالفاتح من شهر يوليو- تموز المقبل، وطبقا لخصوصية قانونية مضمنة في قانونها الأساسي، سيكون غرة أول شهر يلي انقضاء مهلة الستين يوما على موعد مصادقة الدولة الستين على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وهو اليوم الذي يصادف الخميس الحادي عشر من أبريل نيسان من عام ألفين واثنين!
ففي هذه المناسبة سيقام احتفال خاص في مقر الأمم المتحدة في نيويورك للإعلان رسميا عن بدء التعداد العكسي لانطلاق عمل المحكمة بعد أن وقع على معاهدة إنشائها مائة وتسعة وثلاثون دولة إلى حد الآن، لم تصادق منهم عليها إلا ستون دولة فقط.
باستثناء هذه الخصوصية الإجرائية الطريفة، فإن الحدث جلل بكل المقاييس. فللمرة الأولى في التاريخ الإنساني، تنبعث هيئة قضائية دولية ذات اختصاص كوني يتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية والسياسية يحق لها تتبع ومحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي عمليات الإبادة والجرائم الموصوفة بأنها ضد الإنسانية.
ولعل المتفحص في نص القانون الأساسي للتعريف الدقيق الذي جاء فيها لقائمة الجرائم التي يحق للمحكمة الجنائية الدولية تتبّع مرتكبيها، يدرك الأبعاد الهائلة لبروزها على مسرح الأحداث في العالم.
فمن بين الجرائم التي أوردها المؤسسون نجد عمليات إبادة المدنيين وممارسات التعذيب والإغتصاب والاسترقاق والإضطهاد لأسباب عرقية أو إثنية أو دينية إضافة إلى جرائم الترحيل والميز العنصري. وهي جرائم ستفتح بلا شك ملفات لا حصر لها لمجرمين تحصّنوا طويلا وراء مبررات السيادة الوطنية ومنطق المصالح العليا للدول وضمان الأمن للإفلات من المحاسبة القانونية والعقاب.
غياب القوى الرئيسية
الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الذي قال في معرض الترحيب بالتوقيع على معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية عام ثمانية وتسعين: “إنها خطوة عملاقة باتجاه كونية القانون وسلطان القانون”، لم يكن مجانبا للحقيقة، لكنه يبدو متفائلا جدا من الناحية الواقعية.
فبعد أربعة أعوام من وضع حجر الأساس، لا زالت القوى الرئيسية في العالم أي الولايات المتحدة وروسيا والصين ضمن الدول الممسكة عن التصديق على المعاهدة. أما فرنسا التي كانت من المبادرين إلى التوقيع والمصادقة فقد نجحت في إضافة بند في نص المعاهدة يتيح لأفراد قواتها المسلحة الإفلات من مشمولات نظر المحكمة طيلة سبعة أعوام.
أما إسرائيل التي وقعت عليها في موفى عام ألفين، فلم تقدم بعد على اتخاذ خطوة المصادقة لخشية المسؤولين فيها مما سيترتب على الإلتزام بها مستقبلا في ضوء الملاحقات القضائية الدولية التي يتعرض لها رئيس الوزراء الحالي أرئييل شارون المتهم بالضلوع في مجازر مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان عام اثنين وثمانين.
في المقابل، لم تصادق على المعاهدة أي دولة عربية إلى حد الآن باستثناء المملكة الأردنية الهاشمية التي كانت ضمن الدول الثلاث الأخيرة التي سمحت مصادقتها باستكمال النصاب القانوني لبدء العمل بها. وبلغ عدد الدول العربية التي وقعت عليها إلى حد الآن آثنتي عشرة دولة وهي، بحسب ترتيب تاريخ التوقيع، جيبوتي والأردن (في 7 ديسمبر 1998) والكويت والسودان والمغرب (في 8 سبتمبر 2000) وسوريا ودولة الإمارات العربية المتحدة (في موفى نوفمبر 2000) وأخيرا سلطنة عمان والبحرين ومصر واليمن (في الأيام الأخيرة من عام ألفين).
ويخشى المراقبون هذه الأيام من آحتمال إقدام الإدارة الأمريكية الحالية على سحب توقيعها من المعاهدة بعد أن أعلنت بوضوح عن رفضها تحويل “دولار واحد” من ميزانية الأمم المتحدة لتمويل المحكمة الجنائية الدولية. بل ذهب بعض الأعضاء المؤثرين من الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري مؤخرا إلى تقديم مقترحات ترمي إلى حظر أي تعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والمحكمة الجنائية الدولية في المستقبل.
أمل حقيقي لكنه بعيد المنال
وعلى الرغم من المفارقة القائمة بين موقف واشنطن المتوجس من المحكمة وتحمّس عدد من أقرب الحلفاء الغربيين إليها إلا أن المبررات الأمريكية واضحة وصريحة. فلا يوجد سياسي أمريكي واحد على استعداد للقبول، على الرغم من كل الإحتياطات الواردة في بنود القانون الأساسي للمعاهدة، باحتمال تعرض جندي أمريكي للملاحقة القضائية من طرف محكمة “لا تمثل الضمانات اللازمة لتجنب تسييس العدالة” على حد قول بيار ريشار بروسبير، السفير الأمريكي المتجول المختص بقضايا جرائم الحرب.
من جهة ثانية، اتهم الأمريكيون منذ البداية نوايا الجهات الداعية إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. واعتبروا أنها ليست أكثر من محاولة لإقرار عدالة دائمة تتجاوز الدول والسلطات الوطنية في بلدان العالم تكون لديها القدرة بالخصوص على محاكمة جنود أمريكيين شاركوا في عمليات عسكرية خارج الولايات المتحدة.
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن “الآباء المؤسسين” لهذه المحكمة التي بدأ الحديث عنها منذ محاكمات مجرمي الحرب النازيين في نورمبرغ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد حرصوا على تشديد الضوابط مثل عدم رجعية الملاحقات (أي أن المحكمة لن تستطيع محاكمة المسؤولين عن جرائم ارتكبت قبل قيامها رسميا) أو الربط الوثيق بين تدخل المحكمة الجديدة وصلاحيات المحاكم الوطنية في كل بلد (أي أن ملاحقة المتهمين لن تكون ممكنة إلا إذا ما كانت الهيئات القضائية الوطنية في البلد المعني غير قادرة أو غير مستعدة لتتبع مرتكبي الجرائم).
لكن كل هذه الترسانة من الاحتياطات والضوابط الصارمة لم تقنع بعد الولايات المتحدة بضرورة المصادقة على هذه المعاهدة. وهو ما قد يعطل انطلاقة المحكمة الجنائية الدولية التي ربما تتحول إلى “نمر من ورق” على حد وصف أحد القانونيين. لذا فإن الهدف النهائي لقيامها، المتمثل في “عدم إمكانية انتهاك حقوق الإنسان في أي مكان من العالم من طرف أي مسؤول، وأية دولة وأية طغمة وأي جيش بدون عقاب” على حد قول السيد كوفي أنان، سيظل هدفا بعيد المنال في المرحلة الأولى على الأقل.
كمال الضيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.