المســألــة الشيــعيـــة
منذ تحرير الكويت عام 1991، ما فتئت مسألة الشيعة في العراق محل اهتمام إقليمي ودولي.
وتخشى أطراف عراقية وعربية من إمكانية تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، سنية وشيعية وكردية إثر الحرب المحتملة.
تزامن بروز اسم شيعة العراق والمخاوف من التقسيم مع الانتفاضة الواسعة التي شهدتها عام 1991 المحافظات الجنوبية، وبعض المناطق الوسطى وسكانها شيعة في الغالب، والمحافظات الشمالية ذات الأغلبية الكردية، إثر إزاحة القوات العراقية من الكويت.
يوم ذاك، تصاعدت التحذيرات الإقليمية من إمكانية نجاح تلك الانتفاضة، وما يمكن أن تؤدي إليه من تقسيم للعراق يفرز دولة شيعية في الجنوب. وكان الافتراض السائد بأن تلك الدولة ستشكل امتدادا لإيران كاف لإثارة فزع أطراف إقليمية ودولية، لعل أهمها الولايات المتحدة التي كان لها دور محوري وحاسم في تحرير الكويت.
فقد بادرت واشنطن منذ اجتماع صفوان بين العسكريين الأمريكيين والعراقيين في فبراير عام 1991، إلى تقديم الدعم لنظام الرئيس صدام حسين لقمع تلك الانتفاضة في حملة شرسة لم يصل من معلومات عن مدى بشاعتها إلى الرأي العام الخارجي إلا القليل.
وكان الشيعة هدفا صريحا للحملة، إذ يقول العراقيون إن الدبابات الحكومية دخلت مدينة النجف، وهي المركز الديني الشيعي، تحمل شعارات مستفزّة من بينها، “لا شيعة بعد اليوم”، فيما قامت الصحف الحكومية بنشر سلسلة مقالات ضد الشيعة لم يجرؤ أحد من الشخصيات الشيعية في الداخل الاعتراض عليها.
وما وصل إلى الخارج من أخبار التمرد الشيعي خَلَقَ، وبسبب قلة المعلومات المتوفرة عن شيعة العراق، تصورا لدى المتابعين بأن الشيعة في العراق مجرد أقلية متمردة تحاول السيطرة على الحكم لتصبح امتدادا لإيران، التي تعتنق المذهب الشيعي.
وكان أن أدى ذلك إلى بروز تيار بين مثقفي الشيعة وعلماء الدين، منهم من يدعو إلى كسر طوق العزلة المفروضة عليهم، والتحرك باتجاه تصحيح الصورة الرائجة عنهم، والتي كانت برأيهم، سببا في جلب المعاناة المستمرة لهم وآخرها آنذاك، فشل الانتفاضة التي كادت تؤدي بالحكم القائم في العراق.
توضيح الصورة للولايات المتحدة
ومن ثمار ذلك التحرك، لقاء تم في واشنطن بين وفد من شخصيات شيعية عراقية، ومسؤولين في الإدارة الأمريكية على رأسهم وزير الخارجية آنذاك، جيمس بيكر، الذي تسلم مذكرة أعدها الوفد، تشرح حقيقة أوضاع شيعة العراق ومطالبهم ومواقفهم من باقي العراقيين، والاهم إثبات عدم صحة ما يقال عن ارتباطهم بإيران، وهو ما بنى عليه الأمريكيون بعد ذلك مواقفهم تجاه الوضع العراقي.
ولا تتوفر حتى الآن إحصائيات دقيقة عن عدد الشيعة في العراق. إلا أن أقل الأرقام المطروحة يؤكد أنهم يشكلون ما لا يقلُّ عن 65% من مجموع سكان العراق. وقد ذكر تقرير أعدته لجنة فرعية في الكونغرس الأمريكي عام 1991، أن نسبتهم، ربما تصل إلى 73%.
ومع ذلك، فهم يشكون التهميش، ليس في عهد الرئيس الحالي صدام حسين فحسب، بل منذ أن كان العراق جزء من الدولة العثمانية، وخلال مرحلة الانتداب البريطاني، والعهد الملكي، ثم العهود الجمهورية اللاحقة.
تصدى الشيعة عام 1920، وبناء على فتاوى مراجعهم الدينيين، الذين قاد بعضهم المعركة، للإنجليز، فيما عرف بثورة العشرين التي تكبد فيها البريطانيون آلاف القتلى لدى محاولتهم احتلال العراق بدء من جنوبه.
آنذاك، تناسى مراجع الشيعة الاضطهاد الذي مارسته الدولة العثمانية ضدهم، وأفتوا بالجهاد مبررين ذلك بان الهجوم البريطاني يستهدف الدولة العثمانية الإسلامية، وهذا ما جعلهم، عرضة لسياسة تمييز طائفي أرساها البريطانيون انتقاما منهم، حسب ما يقول بعض المفكرين العراقيين الشيعة.
ويبرر هؤلاء المفكرون مواقفهم باستبعاد الشيعة من المناصب المهمة في الدولة، واعتماد نظام تربوي ديني لا يراعي معتقداتهم، وإقرار السنة مذهبا رسميا للدولة.
اضطهاد حقيقي
ومن الأفكار النمطية والمسبقة التي استخدمت ضد الشيعة، اتهامهم المستمر بالتبعية لإيران، والتشكيك في عروبتهم، رغم أنهم قبائل عربية أصيلة معروفة النسب والانتماء، سواء كان ذلك في العراق أو في الجزيرة العربية.
لكن السنوات الثلاثين الأخيرة شهدت تصاعدا في التوتر بين الشيعة والسلطة، التي، يقول الشيعة، إنها أمعنت في انتهاج سياسة تمييز طائفي، والاستحواذ على مقاليد السلطة لدرجة التعامل مع الشيعة على أنهم أعداء السلطة حتى يثبت العكس، رغم أن عددا من الشيعة ظل في مواقع قيادية في حزب البعث الحاكم، وبعض الوظائف الدبلوماسية والوزارات. إلا أن ذلك ظل في نطاق ضيق ومحكوم باعتبارات وقيود عديدة.
بعد عام 1991، ظهر داخل الإدارة الأمريكية من يدعو إلى الالتفات إلى شيعة العراق وإنهاء معاناتهم التي أصبحت جزء مما بات يعرف بالمسألة العراقية. وبالفعل، أقيمت جسور مع بعض السياسيين الشيعة وصلت إلى حدود التعاون.
وبدأ الحديث يتصاعد حول أن الحكم القادم في العراق لن يظل بيد الأقلية السنية، وهو ما أثار مخاوف، ليس للسنة العراقيين فحسب، بل للدول المجاورة للعراق، خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تخشى من تأثير النفوذ الشيعي على أوضاع الأقليات الشيعية في هذه الدول.
الإعداد لما بعد صدام حسين
وعلى مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، شهدت الاوساط الشيعية العراقية نقاشات عديدة انتهت إلى إعلان مواقف تقوم على رفض أية سياسة طائفية في عراق ما بعد صدام حسين، والإجماع على إقامة نظام ديمقراطي يكفل للجميع حقوقهم على أساس المواطنة، وليس الانتماء المذهبي والطائفي.
وآخر ما صدر من مواقف مكتوبة هو الوثيقة التي سميت “إعلان شيعة العراق”، التي أصدرتها أكثر من 100 شخصية شيعية عراقية، لكنها انطوت على نقاط ضعف وثغرات استدعت تنصلا واعتراضا من جانب الكثير من مثقفي الشيعة أنفسهم.
ويقول بعض المفكرين والسياسيين الشيعة، إن الوثيقة التي قدمت للولايات المتحدة عام 1991 من قبل رجل الدين والشاعر العراقي الراحل الدكتور مصطفى جمال الدين، كانت تفوق الإعلان الأخير نضجا وإحاطة بالأمور.
وبالتالي، فهي أفضل مستند لتصحيح صورة الشيعة العراقيين، ومعالجة المغالطات المروّجة حولهم. فهذه الوثيقة تدعو إلى إقامة ديمقراطية تعددية في العراق تحفظ حقوق الجميع، وإلى قيام علاقات طيبة مع دول الجوار وتؤكّد على عروبة العراق مع منح حقوق الأكراد والأقليات الأخرى في إطار عراق موحد ومتآلف.
وكما يُجمع الأكراد على عدم إمكانية العودة إلى عهد مصادرة حقوقهم القومية، فإن شيعة العراق يؤكدون أيضا أن لا عودة في عراق المستقبل إلى التمييز الطائفي ضدهم، وهذا ما يجمع عليه كل من الإسلاميين والليبراليين من الشيعة العراقيين، رغم انقسام هؤلاء بين مؤمن بوعود أمريكية بذلك، ومشكك بهذه الوعود، فيما ظهرت أصوات تنادي بعدم تكرار “خطأ عام 1920” وخطأ عام 1991، عندما تصور الشيعة أن الولايات المتحدة ستدعم انتفاضتهم، لكنها، كما قالوا، خذلتهم.
سالم مشكور – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.