مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

المعارضة التونسية تراوح مكانها

تدل كل المؤشرات الحالية على أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في تونس (24 أكتوبر 2004) ستكون حدثا بلا مفاجآت! swissinfo.ch

لم تعد تفصل التونسيين عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة سوى أربعة أشهر بعد أن استعدت السلطة والحزب الحاكم لهذا الموعد الهام قبل حوالي أربع سنوات.

في المقابل، تريد أطراف المعارضة أن تجعل منه مناسبة تخرجها من حالة الضعف والتهميش وتجعل منها طرفا مسموعا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

تشهد الحالة السياسية والمدنية (نسبة إلى المجتمع المدني) منذ أشهر، بداية حراك لافت للنظر، وهو حراك، إذا ما استمر ولم ينتكس كما حصل في مرات سابقة، يمكن أن يشكل مدخلا لديناميكية جديدة.

ويجدر في هذا السياق، الإشارة إلى عدد من المؤشرات التي قد يراها البعض محدودة، حيث غضت السلطات الطرف طيلة الأشهر الماضية عن اللهجة النقدية القوية أحيانا التي ميزت خطاب بعض صحف المعارضة (“الموقف” و”الطريق الجديد”).

كما لم تعترض الحكومة على عودة عدد من المعارضين، وفي مقدمتهم الوجه الديمقراطي (خميس الشماري)، رغم محافظته على استقلاليته وخطابه الاحتجاجي، وتمت في نفس السياق تسوية ملفات بعض المنتمين سابقا لحركة النهضة الذين عاد بعضهم إلى البلاد، كما سمحت السلطات بعقد عدد من الاجتماعات التي نظمتها المعارضة في أماكن عامة، وتنازلت لها عن تنظيم مسيرة دعت إليها للتضامن مع الشعبين الفلسطيني والعراقي.

ولم تلجأ الأجهزة الأمنية إلى استعمال القوة لمنع تجمعين عُـقدا لأول مرة أمام مبنى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، كما تسلمت السلطات ملف تكوين “الجمعية الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين”، وتقبلت بصعوبة الإعلان عن تكوين “نقابة مستقلة للصحفيين”.

في المقابل، لم يمنع ذلك من حدوث مؤشرات معاكسة، مثل حظر اجتماع مشترك دعت إليه بعض أحزاب المعارضة، مما دفعها إلى إصدار موقف جماعي للتأكيد على حقها في استعمال الفضاءات العمومية، أو توجيه تحذير لإدارة صحيفة “الموقف”، ودعوة المشرفين عليها إلى مراجعة خطها التحريري والسياسي، أو الاستمرار في تجاهل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومنعها من التمتع بالتمويل الذي حصلت عليه في كنف الشفافية من الاتحاد الأوروبي.

غياب موقف موحد

وفي هذا السياق السياسي العام المتميز برغبة واسعة في تغيير قواعد اللعبة بين الدولة والمجتمع مقابل حرص رسمي على الاستمرار في الانفراد الكامل برسم حدود الحركة الاجتماعية، تتنزل الحركية المحدودة التي أفرزتها الاستعدادات المتواصلة لتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة.

وإذا كانت السلطة بأجهزتها الإدارية والحزبية والأمنية والإعلامية قد ذهبت أشواطا في تهيئة الظروف المناسبة لجعل هذه الانتخابات مناسبة أخرى لتكريس هيمنة الحزب الحاكم في البلاد منذ عام 1956 على السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإن وضع المعارضة مختلف تماما.

فأول ما يلاحظ في هذا السياق، غياب موقف موحد من الحدث في حد ذاته. فالأحزاب التي تربطها بالسلطة علاقات تعاون عبّـرت عن حرصها في المساهمة لإنجاح هذا الموعد الهام بعيدا عن أشكال المصادمة والتشكيك في مشروعية الانتخابات القادمة. وإذا كانت قيادة “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين” لم تُـبد حتى الآن أي رغبة في دخول حلبة المنافسين المفترضين للرئيس بن علي، فإن حزب الوحدة الشعبية يهيئ نفسه لترشيح أمينه العام محمد بوشيحة لتجديد الكرة بعد أن سبق لسلفه محمد بلحاج عمر أن قام بنفس المهمة خلال الانتخابات الرئاسية الفارطة في نوفمبر 1999.

أما فيما يتعلق بحزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي، فإنه لا يزال يعاني من أزمة هيكلية خطيرة بعد اعتقال مؤسس الحزب عبد الرحمان التليلي والحكم عليه بتسع سنوات سجنا في قضية من شأنها أن تنسف مستقبله السياسي برمّـته، حسب اعتقاد الكثيرين. ورغم أن المحامي منير الباجي قد أعلن عن نيته في الترشح منذ أشهر، غير أن الأزمات المستمرة داخل الحزب الإجتماعي التحرري أفقدت ذلك الإعلان أية أهمية سياسية.

مبادرة .. وجدل

بالنسبة للأحزاب التي اختارت الخطاب الاحتجاجي، فقد تباينت مواقفها، فبعد تقارب وجهات نظرها حول مسألة مراجعة الدستور، وجدت نفسها منقسمة بشكل حاد حول مبدإ المشاركة في الانتخابات وطريقة المشاركة.

فحزب المؤتمر من أجل الجمهورية (محظور) الذي يقوده الدكتور منصف المرزوقي وحزب العمال الشيوعي التونسي (محظور) قرّرا مقاطعة الانتخابات باعتبارها “لا دستورية وغير شرعية”.

أما حزب “التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” الذي يترأسه الدكتور مصطفى بن جعفر، فيميل نحو المقاطعة، لكنه يبقى مستعدا لتعديل موقفه، إذا ما توفرت بعض الشروط السياسية التي يراها ضرورية، حتى تكتسب الانتخابات شيئا من المصداقية.

ونظرا لضعف الأحزاب، وصِـلتها المحدودة جدا بالجماهير الواسعة، فإن الدعوة للمقاطعة قد تبقى صرخة في وادي مهجور.

انسحاب هذه الأحزاب من اللعبة قبل بدايتها جعل ما تبقى من الساحة الديمقراطية في تونس يخوض جدلا مُـضنيا حول مبادرتين أثارتا الكثير من الحبر والنزاع.

المبادرة الأولى سابقة من حيث الزمن، يدافع عنها الحزب الديمقراطي التقدمي ورئيسه نجيب الشابي، الذي أعلن منذ فترة طويلة عزمه الترشح للرئاسيات، رغم أن نسخة الدستور المعدلة تحرمه من ذلك. إذ من بين الشروط التي تم التنصيص عليها في التنقيح الأخير أن يكون المرشح مسؤولا في حزب معترف به له عضو على الأقل في البرلمان.

وهو شرط غير متوفر في الشابي الذي يعتقد أن الرهان القادم يجب أن يكون سياسيا وليس انتخابيا، وبالتالي، عمل على إقناع الكثيرين بأهمية الالتفاف حول مبادرته للدفاع عن مبدإ الحق في الترشح، ومن ثم شن هجوما قويا على النظام، وإثبات “بطلان الانتخابات القادمة”. فمبادرته تهدف إلى تسليط الأضواء على آليات احتكار الحكم من خلال التحرك خارج قواعد اللعبة.

وخلافا لما كان متوقعا، فإن مبادرة الشابي لم تحظ بالإجماع ولم تلق التأييد الواسع، سواء من بقية الأحزاب “الصديقة” أو في أوساط المستقلين الذين لا يزال يشغلهم الشأن العام، والذين لم يميزوا حتى الآن – في غالبيتهم – الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

وفي المقابل، طرح المحامي الشاب “عياشي الهمامي” مبادرة مختلفة سرعان ما وجدت من يسندها ويدافع عنها بحماس شديد. لقد اقترح أن تلتف الأوساط الديمقراطية حول مرشح واحد يتمتع بالحق القانوني وذلك باستثمار الفجوة الصغيرة التي فتحها الدستور المنقح في استفتاء 26 مايو 2002.

وبما أن ذلك لا يتوفر في شخص نجيب الشابي، مع الإقٌرار بأنه حرم من ذلك عن قصد وسبق إضمار، فإن الهمامي يعتبر بأن الطرف السياسي الوحيد الذي يتمتع بهذه الإمكانية هو مرشح “حركة التجديد”، وبالتالي، على المعارضة أن تستثمر هذه “الفرصة” وتُـبلور برنامجا سياسيا مشتركا تخوض على أساسه تجربة جماعية قد تمكنها من إنجاز خطوة نحو بناء “القطب الديمقراطي المنشود”.

تبنت “حركة التجديد” المبادرة التي وفرت لها صيغة “نموذجية” لتجاوز التداعيات السلبية للمرحلة السابقة حين راهنت لسنوات عديدة على إمكانية إقامة تحالف سياسي براغماتي مع السلطة.

وبعد تنافس دام أشهرا بين أحمد بن إبراهيم أحد الكوادر النشيطة السابقة بالحزب الشيوعي التونسي المنحل، وبين الجامعي أستاذ الفلسفة علي الحلواني رئيس المجلس التأسيسي لحركة التجديد، حُـسـمـت المسألة لصالح هذا الأخير الذي لم يكن شيوعيا وحافظ على استقلاليته قبل أن يشارك في عملية تأسيس الحركة التي خلفت الحزب الشيوعي التونسي في عام 1993.

وفي مؤتمر صحفي عقد يوم 14 يونيو اعتبر محمد حرمل، الذي أعلن عن تخليه عن قيادة حركة التجديد مع حلول موعد المؤتمر القادم بأنه “لأول مرة سيدخل منافس جدي ومعارض غمار الإنتخابات الرئاسية من أجل تكريس التنافس الإنتخابي في هذه الإستحقاقات التي أرادتها السلطة تعددية”.

حركية محدودة وأمل .. بعيد!

مثلما كان الشأن بالنسبة للمبادرة الأولى، لم يتحقق الإجماع حول الثانية. لقد رفضت كل الأحزاب الاحتجاجية تزكيتها، خاصة “الحزب الديمقراطي التقدمي” و”التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات”، وهو ما أضعفها كثيرا.

غير أنها من جهة أخرى تحمس لها في البداية عدد من الشخصيات السياسية المستقلة من بينهم محمد الشرفي وخميس الشماري ومحمود بن رمضان والسفير السابق أحمد ونيس والصحفيان البارزان عبد اللطيف الفراتي وعمر صحابو، وهو ما شكل مفاجأة للكثيرين.

وقد تم في هذا السياق صياغة نص مشترك حاول أصحابه تأصيل المبادرة ضمن أرضية سياسية ديمقراطية واسعة، مع رفض مصادرة الحق في الترشح إلى رئاسة الجمهورية من قبل السلطة، والدعوة إلى خوض الإنتخابات التشريعية القادمة التي ستتم في نفس التاريخ بقائمات مشتركة بين جميع أحزاب المعارضة الإحتجاجية.

كما حاول بعض هؤلاء إقناع الأحزاب الأخرى (خاصة حزبي الشابي وبن جعفر) بجدوى هذه المبادرة والتوصل معها إلى إرساء أرضية مشتركة. لكن جهودهم لم تسفر عن أي نتيجة إيجابية، وهو ما جعل شخصا مثل محمد الشرفي يفضل فيما يبدو البقاء بعيدا خارج ما سمي باللجنة الوطنية للمبادرة الديمقراطية. كما رفضت “النساء الديمقراطيات” وعديد الناشطات النسويات دعم المبادرة بشكل علني وجماعي رغم طابعها الديمقراطي العلماني.

في المقابل، تلقت المبادرة دعما من مجموعة سياسية صغيرة انشقت قبل فترة عن “حزب العمال الشيوعي”، وتطلق على نفسها اسم “الشيوعيون الديمقراطيون” إلى جانب بعض اللائكيين الراديكاليين.

هكذا تتجه أحزاب المعارضة نحو الاستحقاق السياسي القادم، مشتتة وضعيفة، مما يُـفوّت عليها فرصة لتعزيز حضورها والاقتراب من هدف طالما رفعته وأثبتت عجزها عن تحقيقه، ألا وهو “بناء قطب ديمقراطي”.

وبقطع النظر عن الحركية المحدودة التي قد تخلقها هذه المبادرة أو تلك، فإن كل المؤشرات تدل على أن الانتخابات القادمة ستكون حدثا بلا مفاجآت. لكن هذه الديناميكية المحدودة يمكن أن تتطور وتستقطب اهتمام الرأي العام المحلي والدولي لو تعززت خلال الأشهر الأربعة المتبقية بإجراءات سياسية نوعية ينتظرها الكثيرون في الداخل والخارج منذ سنوات، مثل إطلاق سراح المساجين السياسيين وعودة المغتربين ورفع القيود عن حرية الصحافة والتعبير. أما عن احتمال التوصل إلى مرشح وحيد للأوساط الديمقراطية الإحتجاجية التونسية فإن الأمل في ذلك لا يزال ضعيفا جدا.

صلاح الدين الجورشي – تونس

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية