المعالجة الأمنية للهجرة السرية سياسة خاطئة!
استضافت تونس من 30 مايو إلى 1 يونيو ندوة إقليمية حول مشاكل الهجرة في دول حوض البحر الأبيض المتوسط.
وطغت مسألة الهجرة السرية وشبكات تهريب المهاجرين والمتاجرة بهم على أعمال هذه الندوة.
اسمه “شكري”، تجاوز عمره عشرين عاما بقليل. توفي والده مبكرا ليجد نفسه مسؤولا عن والدته وأشقائه، لكنه فارق مقاعد المدرسة قبل أن يصلب عوده أو يتحصل على شهادة ما.
يعمل مرة واحدة في العام لفترة لا تتجاوز الشهرين، ويبقى ينفق من ذلك المال بقية أيام السنة. وذات يوم، أبلغه بعض رفاقه أنهم “سيحرقون”، لكن لم يكن يملك سوى بضعة دنانير وسوار من ذهب لشقيقته، في حين أن “تعريفة” الهجرة السرية لا تقل عن 500 دينار وتبلغ في معظم الأحيان ألف دينار.
وكم كانت فرحته عارمة عندما قبل البحار منه ذلك القدر “الزهيد”. وبعد يومين من رحلة هادئة، هاج الموج، وأحدث ثقبا في القارب القديم، وحاصرهم الموت من كل جهة، ولولا سفينة نفط أجنبية أنقذتهم قبل دقيقتين من غرق القارب، لكانوا طعما للأسماك.
كانت تلك شهادة أحد الشبان التونسيين، ارتجلها أمام المشاركين في ندوة نظمتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من 30 مايو إلى غرة يونيو عن “رهانات الهجرة الجديدة في حوض البحر الأبيض المتوسط”.
وذكر رئيس الرابطة أن فكرة الندوة فرضتها الصدمة التلفزيونية التي تلقاها التونسيون، عندما شاهدوا في سبتمبر الماضي جثث عدد من أبناء وطنهم وقد قذفها البحر نحو الشواطئ الإيطالية بعد مغادرتهم قراهم الواقعة بالقرب من مدينة المهدية. يومها، اهتز الرأي العام المحلي أمام قسوة ظاهرة الهجرة السرية التي خلفت عددا لا يزال مجهولا من الضحايا في دول المغرب العربي.
مأساة المهاجرين في دول الجنوب أيضا
ذكر الأمين العام للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، إدريس اليازمي، أن ثلاثة أزمات انضافت إلى الأزمتين الفلسطينية والكردية، لتعطي حجما معقدا لظاهرة الهجرة، وهي الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب الخليج، وحرب البلقان.
لكنه لاحظ أن المسألة لا تقتصر على الوضعية الصعبة للمهاجرين في دول الشمال، ولكن الأمر قد يكتسب أبعادا جد مأساوية داخل دول الجنوب نفسها. واستعرض في هذا السياق، وضعية الفلسطينيين في لبنان.
فبحجة التمسك بحق العودة، يمنع عليهم امتهان سبعين مهنة، ويحرم عليهم إدخال مواد بناء إلى المخيمات، وتتفشى البطالة في صفوفهم، ويعيش الكثير منهم بدون هوية، وقد جرد الآلاف منهم مؤخرا من الجنسية التي حصلوا عليها من قبل.
الظاهرة مرشحة للتفاقم
وتوقع الخبراء المشاركون في الندوة أن تشهد المرحلة القادمة تصاعد الحرب على المهاجرين السريين، حيث تستعد الحكومات الأوروبية والغربية لتشديد الخناق بجميع الوسائل على حركة تنقل البشر في عصر العولمة، وتهاوي الحدود أمام سلطة رأس المال.
وانتقد المشاركون في الندوة الإجراءات الأمنية ودور الشرطي الحارس لحدود دائرة دول “شنغن”، والذي أوكله الأوروبيون لحكومات جنوب المتوسط. فأوروبا تعتبر أنها مهددة بـ “زحف خطير” من أهل الجنوب.
وقد بين الجامعي المغربي، عبد الكريم بن كندوز، كيف هيمنت المعالجة الأمنية منذ سنة 1992 على قضية الهجرة، حين تخلت أوروبا عن معالجة المسألة وفق رؤية شاملة يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ملامح المهاجر السري
لكن، ما هي ملامح هذا المهاجر، الذي يقرر فجأة مواجهة الموت في سبيل الانتقال إلى الضفة الشمالية من المتوسط؟ الدراسة التي أنجزها عالم الاجتماع، المهدي مبروك، وشملت 60 حالة موزعة بين منطقتين، إحداهما ريفية والأخرى حضرية، مكنته من اختراق العالم السري لهؤلاء “الحارقين”.
تجمعهم البطالة، والانقطاع المبكر عن الدراسة، رغم تزايد عدد المتحصلين على البكالوريا، أو حتى أصحاب الشهادات الجامعية. كما ينحدر الكثير منهم من عائلات فقيرة، معظمها يعاني من التفكك الاجتماعي، وجميعهم مصاب بما أسماه، “تَـورُّم الخيال”، حيث يسيطر عليهم حلم “الجنة الأوروبية”، التي تجمع بين المال والجمال.
وتستبد بهم ثقافة التباغض والمحاكاة، وتمثل الهجرة لديهم حرقا للماضي بكل ما يشمله من انتماء، وفرصة وحيدة لتهريب الذات القلقة والمعذبة. ويرى كثير منهم في الهجرة “استراتيجية” لإنقاذ ذاته من عالم الجريمة.
كما كشفت الدراسة أن الهجرة السرية في تونس لا تزال فردية، وليست عائلية أو جماعية، شبابية، حيث تتراوح الأعمار بين 19 و35 عاما. كما أنها “ذكورية” مع وجود مؤشرات على كونها مرشحة لكي تؤنث في المستقبل، وأن ثلاثة أرباع الحارقين يبحثون عن عمل. أما البقية، فهم موزعون بين دوافع سياسية، أو هاربون من جرائم تم ارتكابها، خاصة تلك المتعلقة بالمخالفات المالية.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.