ذوبان الأنهار الجليدية في سويسرا … يكشف أسرار بكتيريا تلتهم البلاستيك وتعالج الأمراض
يتسبب ذوبان الأنهار الجليدية الناجم عن الاحتباس الحراري في الكشف عن بكتيريا وفيروسات غير معروفة في الطبيعة إلى وقت قريب. ويمكن أن تساعدنا هذه الكائنات الحية الدقيقة في معالجة بعض المشكلات العالمية الكبرى، مثل التلوث البلاستيكي، ومقاومة المضادات الحيوية. ولأول مرة، يُخضع فريق بحثي هذه الكائنات للدراسة في الأنهار الجليدية السويسرية، لما تحمله من إمكانات علمية كبيرة.
يتغيّر المسار المؤدي إلى النهر الجليدي فجأة، ليغدو درباً مليئاً بالتحديات، يستدعي خطوات واثقة وأعصاباً متماسكة. ويتحوّل ما بدأ نزهة هادئة على ضفاف بحيرة جليدية ساكنة، إلى صعود شاق عبر صخور متناثرة ومرتفعات وعرة.
المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
وبينما نتقدم بخطى حذرة فوق تضاريس مضطربة، تزداد انزلاقاً مع تيارات المياه المنسابة من أعالي الجبل، يكسر صوت مدوٍ من بعيد سكون المكان، وتهوي صخرة أخرى في انحدار مهيب. فيتمتم مرشدنا بيت فراي بصوت مفعم بالقلق: “الوضع يثير الرهبة حقا”.
وقفنا أمام نهر الرون الجليدي في قلب جبال الألب السويسرية، نطل على مشهد يخفي بين طياته أثر الزمن؛ منطقة كانت قبل خمسة عشر عاماً فقط غارقة تحت طبقة سميكة من الجليدرابط خارجي، والآن تكاد تعريها الطبيعة تماماً.
وأشار فراي، من المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية (WSL)، إلى شق عرضي حديث التكوين، كأنه جرح غائر عبر سطح النهر الجليدي. سيختفي جزء آخر من هذا العملاق الأبيض قريباً.
لكن لا يتوقّف اختفاء النهر الجليدي على فقدان الجليد فحسب. إذ يقول فراي: “النهر الجليدي لا يذوب وحده، بل يأخذ معه الكائنات الحية التي يحتويها أيضا”، مضيفاً أن ضياع هذا الإرث البيولوجي يحرمنا من فرصة ثمينة لفهم آليات تكيّف هذه الكائنات مع الظروف الباردة القاسية عبر الزمن.
تتقلّص الأنهار الجليدية حول العالم بوتيرة مقلقة تنذر بالخطر بسبب الاحتباس الحراري، مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر وانخفاض توفر المياه في بعض المناطق.
ووفقاً لدراسةرابط خارجي حديثة أجراها المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، وجامعة بروكسل الحرة في بلجيكا، قد يفقد أكثر من 200،000 نهر جليدي على الكوكب (باستثناء تلك الموجودة في جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية)، ما يصل إلى 29% من حجمها بحلول عام 2100 في ظل سيناريو انخفاض الانبعاثات. بينما قد تصل هذه النسبة إلى 54% في ظل سيناريو استمرار الانبعاثات المرتفعة.
وتُعد الأنهار الجليدية في جبال الألب من أكثر الأنهار الجليديّة عرضة للخطر، وقد تختفي تماماً بحلول نهاية هذا القرن. فقد فقدت هذه الأنهار في سويسرا وحدها، ويقارب عددها 1400 نهر، نصف حجمها بين عامي 1931 و2016، وتراجع حجمها بنسبة 12% إضافية بين عاميْ 2016 و2021.
وفي خطوة من شأنها زيادة الوعي بالأهمية الحيوية للأنهار الجليدية والجليد والثلوج في نظام المناخ العالمي، أعلنت الأمم المتحدة عام 2025 السنة الدولية لحماية الأنهار الجليدية. وتسلّط هذه المبادرة الضوء على دورها في الحفاظ على التوازن البيئي والمناخي على كوكب الأرض.
آلاف الكائنات الدقيقة غير المعروفة في الجليد والتربة
يُعد بيت فراي من الأوائل في مجال البحث الموثّق لأشكال الحياة من الأنهار الجليدية، والتربة دائمة التجمد، أو ما يسمى بـ”البيرمافروست” في جبال الألب. وقد قاده مشروع رائد آخر رابط خارجي قبل سنوات قليلة، إلى البحث في أعماق الكائنات الدقيقة الموجودة في بيئات القطب الشمالي القاسية.
في البداية، اعتقد فريقه أن البيئات المتجمدة غير صالحة للحياة لانخفاض درجات الحرارة وندرة الضوء والمغذيات، لكن سرعان ما قادته اكتشافاته إلى إثبات العكس.
ويعبّر فراي عن دهشته قائلاً: “لم أتوقع أبداً وجود هذا الكم من التنوع البيولوجي. فدائماً ما تظهر اكتشافات غير مألوفة في الجليد والبيرمافروست”. وقد كشفت الأبحاث في منطقة البيرمافروست بشرق جبال الألب السويسرية عن عشرة أنواع غير معروفة من البكتيريا، ونوع فريد من الفطريات.
كما يتم التوصّل إلى اكتشافات مماثلة في أماكن أخرى حول العالم. فقد حدّد فريق بحث صينيّ مؤخّرا، أكثر من 10،000 نوع من الفيروساترابط خارجي التي يحتويها الجليد في هضبة التبت.
“ويتسبب الاحتباس الحراري الآن في إطلاق الكائنات الحية الدقيقة التي ظلت محبوسة في أعماق الجليد لقرون، في الطبيعة. وتحمل هذه الكائنات سواء كانت بكتيريا، أو فيروسات، أو فطريات، أسراراً غامضة لم تكشف عنها الطبيعة من قبل. وغالبا ما تفتح العينات الجليديّة المُجمَّعة، بعد إخضاعها للدراسة في المختبرات، آفاقاً علمية جديدة وغير مسبوقة، ما يوقظ شغف الفريق، ويحفز حماسه لاستكشاف المزيد.
يقول فراي: “توجد آلاف الأنواع من الكائنات الدقيقة في التربة المتجمدة والجليد. لكننا لا نعرف الكثير عنها، أوعن طبيعتها، أوعن دورها في النظام البيئي”.
ويهدف فراي إلى توثيق التنوع الميكروبي في جبال الألب السويسرية قبل أن يتلاشى. ويركز مشروعه الجديدرابط خارجي لأوّل مرّة، على دراسة الأنهار الجليدية، بما فيها “مورتراتش” (Morteratsch، في كانتون غراوبوندن)، و”رون” (Rhone، فاليه)، و”تسانفلورون” (Tsanfleuron، فاليه وفو). وتمتد هذه الأنهار على محور شرق-غرب عبر سويسرا، ما يجعلها ممثّلة للتنوع الميكروبيولوجي للأنهار الجليدية في جبال الألب.
أدوية جديدة مستخلصة من البكتيريا والفيروسات التي تعيش في الجليد
تمثّل الكائنات الدقيقة، باعتبارها من أقدم أشكال الحياة على الأرض، مصدراً ثميناً لفهم تطور المناخ عبر العصور. ويقول جون بريسكورابط خارجي، الباحث في جامعة ولاية مونتانا بالولايات المتحدة، وأحد أبرز الخبراء والخبيرات في التنوع الميكروبي داخل النظم الجليدية: “تحمل هذه الكائنات بين ثناياها توثيقاً فريداً وشاملاً للتغيرات المناخية التي شهدها كوكب الأرض على مر الزمن”.
فيمكّن تحليل المجتمعات الميكروبية المحبوسة في الجليد مثلا، من الكشف عن تغيّرات في درجات الحرارة، والرطوبة، والتيارات الجويّة عبر العصور. وتتمتّع بعض أنواع هذه البكتيريا بالقدرة على إنتاج الميثان، أحد الغازات الدفيئة القوية، ما قد يجعلها تلعب دوراً في تفاقم ظاهرة التغير المناخي من خلال تعزيز الاحتباس الحراري.
“توجد آلاف الأنواع من الكائنات الدقيقة في التربة المتجمدة والجليد. لكننا لا نعرف الكثير عنها، أوعن طبيعتها، أوعن دورها في النظام البيئي”.
بيت فراي، المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية (WSL)
وتحمل هذه الكائنات الدقيقة التي لا يتجاوز حجمها جزءاً من المليمتر، إلى جانب تأثيرها في المناخ، إمكانات هائلة في مجالات الطب والتكنولوجيا الحيوية. فقد تكون مصدراً لاكتشاف أدوية جديدة تسهم في مكافحة الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، كما يُعدّ الاكتشاف الأخير للبكتيريا والفطريات التي يمكنها أن تحلل البلاستيكرابط خارجي في درجات حرارة منخفضة، واعداً ويقدم حلاً بيئياً محتملاً لمشكلة التلوث البلاستيكي.
ويقول بيت فراي، وهو يُخرج معدات التسلق من حقيبته: “تتمثّل رؤيتنا طويلة المدى في إيجاد حلول لبعض المشكلات العالمية (المتعلقة بالتغير المناخي والتحديات البيئية والصحية)”.
ها قد وصلنا الآن إلى حافة النهر الجليدي. وقد ركّب فريق البحث في المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية، على بعد مئات الأمتار من هذا المكان، معدات لجمع الكائنات الدقيقة من الجليد. ويختبر الفريق طريقة ترشيح جديدة طُورت في سويسرا، ويمكن استخدامها في مناطق أخرى أيضاً.
وها نحن نربط معدات التسلق بأحذيتنا، ونتقدم نحو سطح الجليد.
نهر الرون: مثال حي على تراجع الأنهار الجليدية في جبال الألب
وبينما نتسلق نهر الرون الجليدي، أشار بيت فراي إلى الغطاء الثلجي الذي كاد يختفي تماماً، وكأنه صفحة بيضاء تُطوى ببطء. ورغم تساقط كميات كبيرة من الثلوج خلال الشتاء الماضي، فقد أذابت حرارة الصيف المرتفعة معظمها. إذ سجّلت درجات الحرارة في أواخر أغسطس، عند ارتفاع 2300 متر فوق مستوى سطح البحر، حوالي 14 درجة مئوية. (متجاوزة متوسط شهر أغسطسرابط خارجي في الفترة بين 1991 و2020، التي بلغت فيها 10 درجات مئوية).
ويُعد نهر الرون الجليدي، بطوله الذي يصل إلى ثماني كيلومترات ومساحته الممتدة على نحو 15 كيلومتراً مربعاً، أحد أكبر الأنهار الجليدية في جبال الألب السويسرية. كما يمثّل مصدر نهر الرون الرئيسيّ، الذي يُعتبر شرياناً حيوياً في غرب أوروبا، حيث يمثل مصدراً رئيسياً للمياه العذبة التي تعتمد عليها مناطق واسعة للري والشرب. كما يدعم التنوع البيولوجي، ويوفر الطاقة الكهرومائية، ويُعد طريقاً ملاحياً هاماً للنقل التجاري بين الدول الأوروبية.
لكن، يجسّد هذا العملاق الجليدي آثار ظاهرة الاحتباس الحراري بشكل صارخ. فقد أصبح كهف الجليد الشهير، الذي لطالما كان جزءاً متصلاً بالنهر الجليدي ورمزاً سياحياً بارزاً، منفصلاً تماماً عن الكتل الجليدية المحيطة به. ويُغطى الكهف خلال الصيف بأقمشة بيضاء عاكسة لأشعة الشمس، في محاولة يائسة للحد من سرعة الذوبان. ورغم هذه الجهود المضنية، يبدو أن اختفاء النهر الجليدي بات وشيكاً.
لقد فقدت الأنهار الجليدية السويسرية، ومنها الرون، منذ عام 1850 أكثر من 60% من حجمها. وسجّل معدّل الذوبان بين عامي 2023 و2024، ارتفاعاً بنسبة 2،5%، وتفوق هذه النسبة متوسط معدلات الذوبان المسجلة في العقد الماضي بوضوح. وتشير الدراسات العلميةرابط خارجي إلى توقّع اختفاء معظم الأنهار الجليديّة في جبال الألب تماما بحلول نهاية القرن الحالي، ما لم تشهد انبعاثات الغازات الدفيئة انخفاضا كبيرا في السنوات المقبلة، مما سيؤدي إلى خسارة بيئية كبيرة تتمثل في تدهور النظم البيئية المعتمدة على الجليد، وفراغ جغرافي يتمثل في اختفاء معالم طبيعية وتاريخية لا يمكن تعويضها.
مئة كيلوغرام من الجليد في المختبر
“كم لتراً لدينا”؟ يطرح بيت فراي هذا السؤال على زملائه وزميلاته من فريق علماء الأحياء الدقيقة، حين الوصول إلى موقع جمعها المؤقت على قمة نهر الرون الجليدي. ويضخّ بيت شتيرلي، موظّف في المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية، المياه الذائبة من بركة طبيعية صغيرة داخل الجليد، ويجمعها في كيس بلاستيكي.
ويشرح قائلاً: “إن تركيز البكتيريا والفيروسات في المياه الذائبة منخفض جدا، مما يتطلب منا ضخ كميات كبيرة من المياه للحصول على عينات كافية لتحليلها واكتشاف أي كائنات دقيقة ذات أهمية”.
وتُخزن المياه الذائبة في حاويات خاصة لتصفيتها على مرحلتين باستخدام فلاتر دقيقة؛ الأولى لفصل الكائنات الأكبر حجماً مثل البكتيريا والفطريات (الكائنات الدقيقة الأكبر حجماً)، والثانية لفصل الفيروسات الأصغر حجماً. وتعني عملية التصفية استخراج هذه الكائنات الدقيقة من المياه عن طريق تمريرها عبر مرشحات متخصصة.
>> البكتيريا والفيروسات في الجليد: يُظهر الفيديو التالي كيف يجمع الباحثون والباحثات الكائنات الدقيقة من الأنهار الجليدية، وما أهميّة الحفاظ عليها.
وعند سؤاله عن سبب عدم جمع المياه الذائبة من قاعدة النهر الجليدي لتبسيط العملية، كما فعل غيره من الباحثين والباحثات، رابط خارجيوضّح فراي إمكانية تلوث هذه العينات بجزيئات أو كائنات دقيقة قادمة من مياه الأمطار أو مصادر خارجية، ما قد يؤثر على دقة التحليل.
ولضمان نقاء العينات، تتطلب عملية التصفية المباشرة على سطح النهر الجليدي اتخاذ احتياطات إضافية، مثل ارتداء القفازات الواقية لتجنب التلوث، وحفظ الفلاتر في حاويات معقمة. وتبقى هذه العملية رغم صعوبتها، أكفأ من الطريقة التقليدية المعتمدة على نقل كتل كبيرة من الجليد إلى المختبر. كما يقول فراي: “نقل حاويات صغيرة تحتوي على الفلاتر، أسهل بكثير من نقل مئة كيلوغرام من الجليد في كل مرة”.
ولا تقتصر فعالية هذه التقنية على جبال الألب فقط، بل يمكن استخدامها أيضاً في مناطق نائية مثل غرينلاند، وأجزاء أخرى من القطب الشمالي.
هل يمكن أن “تستيقظ” مسببات أمراض قديمة من الجليد؟
يأمل فراي في العثور على كائنات دقيقة تحمل خصائص قد تفيد البشرية، مثل تطوير علاجات طبية أو تقنيات بيئية مبتكرة. ومع ذلك، لا يستبعد إمكانية العثور على كائنات دقيقة غير مرغوب فيها، قد تكون خطيرة إذا أُطلقت في البيئة، أي تحمل مسببات أمراض قديمة، أو خصائص تهدد التوازن البيئي، أو الصحة العامة.
ويحذررابط خارجي بعض العلماء والعالمات من احتمال استئناف الفيروسات التي كانت مجمدة لآلاف السنين في التربة المتجمدة في سيبيريا “نشاطها”، والبدء في الانتشار مجدداً بسبب الاحتباس الحراري. فقد كشفت عام 2020، عينات بيئية من أرخبيل سفالبارد في القطب الشمالي النرويجي، عن وجود بكتيريارابط خارجي يمكن أن تسبب بعض الأمراض.
اقرأ واقرئي: هل سيخرج وباء جديد من أعماق الجليد؟
اتّبع فراي عندما باشر أبحاثه حول التربة المتجمدة قبل نحو 15 عاماً، نهجاً حذرا جدا في عمله. لكنه لم يصادف أية كائنات مهدِّدة للصحة مطلقا. وأكّد أن خطر انبعاث مسببات أمراض من الجليد الذائب أو التربة المتجمدة في جبال الألب، احتمال ضئيل.
وتتسم الكائنات الدقيقة في الأنهار الجليدية بقدرتها الفائقة على التكيف مع البرودة الشديدة، لكنها غالباً ما تكون غير قادرة على البقاء في الظروف الأكثر دفئاً. ورغم احتمال انتقالها إلى كائنات أخرى في بيئتها المحيطة، مثل الكائنات الدقيقة أو النباتات التي تعيش في نفس الظروف القاسية، لا يُعدّ البشر والحيوانات الكبيرة من بين مضيفيها الطبيعيين أو المعتادين.
“قد تكون بعض هذه الكائنات الدقيقة ذات فوائد كبيرة لصحة الإنسان”
أروين إدواردزرابط خارجي، مدير مركز الأبحاث البيئية متعددة التخصصات في جامعة أبريستويث في ويلز
ولئن انخفض هذا الخطر، فلا يمكن استبعاده تماماً عند التعامل مع كائنات دقيقة غير معروفة. كما يشير أروين إدواردزرابط خارجي، مدير مركز الأبحاث البيئية متعددة التخصصات (Interdisciplinary Research Center in Environmental Microbiology) في جامعة أبريستويث في ويلز غير المشارك في المشروع السويسري، إلى أنّ احتمال حدوث تأثيرات غير متوقّعة ضعيف، لكنه قائم. فيقول: “قد تكون بعض هذه الكائنات الدقيقة ذات فوائد كبيرة لصحة الإنسان”.
600 لتر من مياه الجليد الذائبة في ثلاثة أيام
وبحلول منتصف الظهيرة، اكتست السماء بالسحب الكثيفة التي غطت ظلالها النهر الجليدي، فيما ذكّرتنا الرياح الباردة بمدى تقلب الأحوال في الجبال.
وبدا بيت فراي راضياً وهو يراقب فريقه الذي عمل على ضخ 200 لتر من المياه الذائبة، وقد تحقّق الإنجاز نفسه في اليومين الماضيين. إذ يبذل العلماء من الرجال والنساء هذه الجهود، للحفاظ على جزء من الكنز الميكروبيولوجي النادر والمهدد في جبال الألب.
ومع ذلك، تعتمد إمكانية تحديد احتواء هذه المياه على بكتيريا أو فيروسات ذات قيمة علمية، على إجراء المزيد من التحليل داخل المختبر.
من البرودة إلى الصقيع
وحذّر بينيدكت غرونتز، قائلا: “سيكون الجو باردا قليلا”. فرغم وجودنا داخل مبنى، لم تتجاوز درجة الحرارة في الغرفة 4 درجات مئوية، فبدت أكثر برودة من الأجواء التي كان الفريق يعمل فيها على نهر الرون الجليدي.
وينهمك غرونتز، باحث شاب، في تحليل عينات صيفية جمعها الفريق بعناية وتركيز؛ بين يديه أنبوب اختبار صغير يحمل بقايا مستخلصة من مياه الجليد الذائبة، وكأنها أسرار دفينة من عصور مضت تنتظر فك طلاسمها، ويعمل بحذر ودقة على استخراج الحمض النووي، ساعيا إلى تحديد أنواع الفيروسات الكامنة في هذه العينات. وما إن ينهي، يرسل المادة الجينية إلى شركة متخصصة في تسلسل الحمض النووي لتصنيف الكائنات الدقيقة والتعرف عليها. ويتطلع الفريق بشغف في أجواء يغمرها الحماس، إلى اكتشاف إن كانت هذه العينات تخبئ بين طياتها مئات الأنواع من الفيروسات التي لم يسبق للعلم أن اكتشفها.
سلاح ضد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية
ويركز غرونتز أبحاثه على العاثيات، الفيروسات المتخصصة في إصابة البكتيريا، التي تؤدّي دوراً هاماً في تنظيم تجمعاتها. ويشير إلى أن تلك المستخرجة من بيئات قاسية، مثل الأنهار الجليدية، قد توفر حلولاً علاجية مبتكرة لمواجهة العدوى البكتيرية التي أصبحت مقاومة للمضادات الحيوية التقليدية.
اقرأ واقرئي: سلاح ضد البكتيريا الخارقة من نهر الراين.
تمثل مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية أزمة صحية عالمية خطيرة، إذ تُسجل أكثر من 1،2 مليون وفاةرابط خارجي سنوياً نتيجة لهذه المشكلة، متجاوزة أعداد الوفيات الناتجة عن أمراض مثل الإيدز والملاريا. وقد وصفت الأمم المتحدة هذه الأزمة بـ”الجائحة الصامتة”، لأنها من أخطر التحديات الصحية التي تواجه البشرية.
ورغم محدوديّة استخدام العاثيات في المجال الطبي بعد، تشير النتائج الأولية إلى إمكاناتها الواعدة. فقد نجح مستشفى جامعة جنيف عام 2023، في استخدامها لأول مرة لعلاج مريضرابط خارجي يعاني من عدوى بكتيرية مزمنة في الرئة، ما فتح آفاقاً جديدة للعلاج.
>> البكتيريا والفيروسات في الجليد: يُظهر الفيديو التالي كيف تصيب العاثية البكتيريا وتدمرها.
بنك حيوي سويسري مميز
يُخزّن المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية، الكائنات الدقيقة من بكتيريا وفطريات تُجمع من الأنهار الجليدية والتربة المتجمّدة، في مجمّد خاص بدرجة حرارة دون 80 درجة مئوية. ويُعد هذا البنك الحيوي رابط خارجيبمثابة “أرشيف حي”، يضم نحو 1200 نوع من البكتيريا و300 نوع من الفطريات، منها عينات من مناطق نائية مثل جرينلاند، وروسيا، وجزر سفالبارد النرويجية.
وتؤكد أنجا ويرتز، مديرة البنك الحيوي، قائلة: “قد يكون هذا المرفق الوحيد في العالم الذي يحتوي كائنات دقيقة متكيفة مع البيئات الباردة، مما يجعله مصدراً فريداً للأبحاث العلمية والاكتشافات البيولوجية”.
بكتيريا واعدة لتطوير علاجات طبية مبتكرة
ولا يهدف المشروع إلى الحفاظ على التنوع الميكروبي في الأنهار الجليدية والتربة المتجمدة فحسب، بل يسعى لاستكشاف قدراتها الفريدة ودراسة خصائصها أيضا. وقد تنتج بعض أنواع البكتيريا المكتشفة، وفق أنجا ويرتز، جزيئات بخصائص مضادة للسرطان، أو مضادات حيوية جديدة، أو مضادات أكسدة، مما يجعل منها بكتيريا مرشحة لتطوير أدوية مبتكرة قادرة على مواجهة تحديات صحية معقدة، إلى حدّ كبير.
كما يركز العلماء والعالمات في المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية، على دراسة البروتينات والإنزيمات التي تمنح البكتيريا القدرة على البقاء في الظروف القاسية للبيئات الباردة جدا. فقد أظهرت بعض هذه الإنزيمات إمكانات واعدة في مكافحة مقاومة المضادات الحيوية، ما وصفه بيت فراي بـ”إنجاز علمي مميز”. وتبرز من بين هذه الكائنات المرشحة، بكتيريا من جنس “ستربتوميسس“ (Streptomyces)، المعروفة بقدرتها على إنتاج المضادات الحيوية، كمصدر رئيسي لتطوير علاجات طبية جديدة لفعاليّتها في مكافحة البكتيريا المسببة للأمراض.
البكتيريا التي تقضي على البلاستيك
وفي اكتشاف علمي واعد، عُزلت أنواع من البكتيريا من جبال الألب السويسرية والقطب الشمالي، قادرة على تحليل نوعين من البلاستيك، البولي يوريثين والبولي بيوتيلين أدبابت تيريفثاليت، في درجات حرارة منخفضة تصل إلى 15 درجة مئوية. ويُستخدم هذان النوعان من البلاستيك في منتجات يومية مثل إسفنجات التنظيف، الأحذية الرياضية، والأكياس القابلة للتحلل، ما يجعل هذا الاكتشاف خطوة كبيرة نحو الحد من التلوث البلاستيكي.
ووفقًا لبيت فراي، يمكن استغلال إنزيمات هذه البكتيريا في مفاعلات حيوية، الأجهزة التي تستخدم الكائنات الدقيقة لتحليل الروابط الكيميائية في البلاستيك لتحويله إلى مكونات صغيرة قابلة لإعادة التدوير. كما يمكن أن تساهم هذه الإنزيمات العاملة في درجات حرارة منخفضة، في توفير استهلاك الطاقة في العمليات الصناعية، ما اعتبره فراي “حلاً مبتكراً يتماشى مع الحاجة العالمية إلى الحد من استهلاك الطاقة”.
“نحن مجرد علماء ميكروبيولوجيا”
يعمل العلماء والعالمات في المعهد الفدرالي السويسري لأبحاث الغابات والثلوج والمناظر الطبيعية حاليا، على تحليل العينات المخزنة في البنك الحيوي، في محاولة لتحديد أنواع البكتيريا القادرة على تفكيك البوليمرات التي يتكون منها البلاستيك. وتتمثّل الخطوة التالية في تحديد الإنزيمات المسؤولة عن هذه العملية، ما يتيح إنتاجها مخبرياً بكميات كبيرة.
فيقول فراي: “إذا كُلّلت جهودنا بالنجاح، يمكننا دمج هذه الإنزيمات مباشرة في البلاستيك أثناء تصنيعه، مما يسهل عمليّة تحلله. لكن يقتصر دورنا على توفير المعرفة الأساسية، أما تحويل هذه الاكتشافات إلى تطبيقات عملية، فهو موكول إلى الفرق العاملة في مجال الصناعة”.
ويحتفظ المعهد ببنك حيوي يضم نحو 1200 نوع من البكتيريا، و300 نوع من الفطريات المُجمَّعة من الأنهار الجليدية والتربة المتجمدة، وسيُنقل في المستقبل إلى مجموعة المستنبتات السويسرية (CCOS)رابط خارجي، لضمان حفظ هذه الكائنات الفريدة في بيئة آمنة للاستفادة منها لعقود مقبلة.
ومع استمرار ذوبان الأنهار الجليدية بفعل التغيرات المناخية، يبدو أن الحد من استخدام الوقود الأحفوري ما زال بعيد المنال. وتتواصل مع ذلك الجهود العلميّة لاستكشاف هذا الجليد المتلاشي، على أمل إيجاد حلول للأزمات البيئية والصحية الكبرى. وفي حين يمثّل ذوبان الجليد خسارة بيئية، تأمل فرق البحث أن يكون إرثه العلمي بمثابة بارقة أمل لمستقبل أكثر استدامة.
تحرير: صابرينا فايس
ترجمة: جيلان ندا
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
المزيد
ذوبان الأنهار الجليدية يعنينا جميعا. لماذا؟
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.