النظام العربي.. غريق يبحث عن حبل نجاة
واحدة من خصائص الأزمات العميقة، أنها تفرز المواقف وتحدد الخطوط وتنشئ المعادلات الكبرى.
وفي الأزمة اللبنانية الراهنة، هناك كل هذه الخصائص. فالباب مفتوح على تغييرات عميقة في النظام العربي من جانب، وامتداده الإقليمي من جانب آخر، والسؤال الضاغط على الجميع، إلى أين يتجه النظام العربي؟
في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الذي عقد على وجه العجلة يوم السبت 15 يوليو الجاري، وبعد ثلاثة أيام من بدء العدوان الإسرائيلي المنهجي على كل لبنان، تبلورت المواقف بين رافض لما وُصف بمغامرات حزب الله اللبناني، باعتبارها تخضع لحسابات إيرانية بالأساس، وتفرض على الجميع مواجهة دون أي استعداد مسبق، وبين مُرحب بالعملية ومُطالب بتأييد عربي للمقاومة، باعتبارها تحرك المياه الساكنة وترسل الإشارات لإسرائيل بأن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، وبين طرف ثالث يذهب إلى تأييد المقاومة من حيث المبدأ، ولكنه يرفض التورط فيما قد تذهب إليه هذه المقاومة من أعمال لم يتم الاستشارة بشأنها.
المواقف على هذا النحو ليست مواقف ساكنة جامدة، ولا تتعلق وحسب بأزمة العدوان الإسرائيلي على لبنان، ولكنها تعكس بدرجة مباشرة حالة النظام العربي وما يموج فيه من تيارات وأطراف اخترقت النظام منذ فترة، تعمل على فرض معادلات جديدة عليه، تعكس موازين القوى التي نشأت في ظل احتلال العراق، إقليما وعربيا. لكن النظام يمانع ويعتبر الأمر يتعلّـق بوجوده.
منطق النظام ومنطق المغامرة
هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، التي يتصادم فيها منطق النظام القائم على السكون والتدرج، وبين منطق التغيير والمغامرة. فأي نظام يتمسّـك بقواعد محدّدة تحافظ على مصالح أطرافه الأساسية، لا يرغب في أن يجد من يتحدى تلك القواعد، وبينما يتّـجه النظام إلى السكون والجمود وعدم القدرة على استيعاب العناصر الجديدة في داخله، كالحركات الشعبية، لاسيما الإسلامية، يبرز على السطح من يتحدى تلك القواعد ويعمد على تجاهلها وتغييرها والإطاحة بها عرض الحائط، وعندها، تبرز الفوارق بين منطق الحكومات ومنطق الشعوب.
وما جرى في الأسابيع الثلاثة الماضية، يفسّـر إلى حد كبير تلك الملاسنات التي جرت بين وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ الذى عقد بمقر الجامعة بالقاهرة، وخُـصص لبحث العدوان الإسرائيلي المفتوح على لبنان، كما يفسّـر أيضا منطق الراغبين على بقاء النظام العربي على حاله، وبين هؤلاء الذين يرون في هذا النظام عجزا وضعفا وتسليما لإرادة خارجية عنه، أو على الأقل أن النظام بصيغته الحالية لا يحتويهم ولا يقدّم لهم ما يُـفيد مشروعهم السياسي على المدى البعيد.
ثلاثة عوامل ضاغطة
وهنا تظهر ثلاثة عوامل، أولها، أن الضعف العربي، نتيجة تراكم سياسات العقود الثلاثة الماضية، قد ولّـد حالة فراغ رسمي، ومن ثم، أفسح المجال أمام قوى إقليمية لكي تسد هذا الفراغ وتفرض نفسها فرضا في معادلات النظام الداخلية كما فى معادلاته الخارجة. والبارز هنا، طرفان هما: إسرائيل وإيران، لهما مصلحة، ليس في سد الفراغ وحسب، بل في إعادة هيكلة بنية النظام بما يتلاءم مع طموحات كل منهما من جانب، وبما يفيد كل منهما في مواجهة الآخر من جانب آخر.
وثانيهما، أن النظام العربي الرسمي يكتفي بتحرك حكومات أعضائه، ولم يجتهد يوما في استكشاف أن البنية التحتية العربية من سكان وتوجهات فكرية وسياسية قد تجاوزت كثيرا الأطر الرسمية التي يعمل فيها النظام العربي ذاته، ولم يجتهد أيضا في التكيف مع هذه التوجهات، بل اعتبرها خارجة عن المألوف ولا مكان للاعتراف بها. ومن ثم، حدث الانفصال والتضارب بين قمة النظام العربي ـ ممثلا فى حكومات الأعضاء ـ وبين بنية النظام من سكان وتوجّـهات سياسية غالبة ومؤثرة.
أما الأمر الثالث، فهو أن القوى الفاعلة في النظام العربي ذات علاقة خاصة بالولايات المتحدة، والتي مصداقيتها محل شك كبير لدى المواطن العربي. والشائع لدى أصدقاء الولايات المتحدة العرب، أن هذه العلاقة الخاصة يمكن أن توظف لصالح القضايا العربية العامة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، غير أن النتيجة المعروفة هي أن الولايات المتحدة لا تعير كثير انتباه لما يقدّمه أصدقائها العرب من أفكار ونصائح، ولا تضع فى حسبانها تأثير ذلك على أدوارهم الإقليمية المختلفة، ولا حتى على علاقاتهم بشعوبهم. ومن هنا، يحدث ضعف أدوار القوى الفاعلة عربيا، وهو ما يعكس نفسه مباشرة على قدرة وفعالية النظام العربي ككل.
غريق يبحث عن حبل نجاة
وحين تجتمع هذه العوامل الممتدة، داخليا وخارجيا، وتتقاطع فيما بينها بصورة صدامية، يُـصبح من الطبيعي أن يظهر النظام كالغريق يبحث عن قشة يتعلّـق بها.
والغريق الباحث عن النجاة بعون خارجي، هو في الأصل غير قادر عن إطلاق مبادرات أو تعديل قواعد اللعبة أو فرض متغيّـرات تعمل لصالحه عاجلا أو آجلا، وكل هذه المعاني تظهر جلية في نتائج اجتماع وزراء الخارجية العرب.
فبالرغم من وضوح الأهداف الإسرائيلية في فرض معادلات قاسية ومهينة على الفلسطينيين واللبنانيين، وفي جزء منها معادلات على النظام العربي ككل، كان الخلاف العربي حول مسؤولية ما جرى، وأن المسؤول عليه أن يتحمّـل الثمن، وبالتالي، يخرج النظام من عباءة المسؤولية السياسية والموضوعية عما يجري بحق الفلسطينيين واللبنانيين.
وكان الخلاف أيضا حول دور المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وحدود الدعم الذى يمكن أن يقدم له، ولما كان الشق الفاعل في هذه المقاومة هو التوجّـه الإسلامي، الخارج أساسا عن مظلة النظام العربي. فقد بدا لكثيرين أنهم غير معنيين بمساندة هذه المقاومة، وأن عليها أن تتحمل مسؤولية أفعالها. وكان الخلاف ثالثا حول آليات التحرّك لمواجهة الأزمة الناتجة عن العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان.
ولما كان النظام العربي غير محدّد البوصلة، فقد وجد المَـخرج في الذهاب إلى مجلس الأمن ليُـعيد النظر في جذر الأزمات التي تعانيها المنطقة ككل، وهي غياب أو بالأحرى ـ على حد قول عمرو موسى أمين الجامعة العربية ـ “موت عملية السلام وتسليمها إلى إسرائيل لتعبث بها وتخدع الناس وتُـضلّـلهم بتواطؤ دولي تقوده الولايات المتحدة، عيانا بيانا بلا ذرّة من خجل”. وكيف يكون الخجل والنظام العربي عاجز عن أن ينصر نفسه في مواجهة المتربّـصين به؟
دلالات اللحظة الجارية
في هذا السياق، يمكن للمراقب أن يلاحظ أمرين: الأول، يتعلّـق بدلالة باللحظة التي يعجز فيها النظام العربي عن إيجاد بديل ذاتي يصحّـح بعض الأمر ولا يفكّـر فيه، بل ويطلب المَـدد من مجلس الأمن، وهو يعلم تماما أن هذا المجلس يعيش مرحلة متدنّـية بكل المعايير، وليس سوى دُمية في يد الولايات المتحدة، لاسيما حين يتعلّـق الأمر بمُـفردات الصَـراع العربي، نصبح أمام مفارقة كبرى، أن تذهب الضحية إلى جَـلاّدها طالبة أن ينقذها، وهذه بالطبع مفارقة العجز التام والانقسام الأفقي والرأسي في آن.
أما الأمر الثاني، فتتعلق بالمواجهة الجارية على الأرض الفلسطينية واللبنانية، وكلتاهما تقومان على أكتاف حركتي مقاومة تجدان السَّـند والمؤازرة من قوة إقليمية خارج النظام العربي، وفقا لمبادئ التضامن الإسلامي بين أبناء الأمة، وهذه بدورها تطرح العلاقة الجدلية بين الاكتفاء بالأمة العربية أم اللجوء إلى الأمة الأوسع، أي الإسلامية، مع الأخذ في الاعتبار أن مفردات الأمة الإسلامية ليست جميعها مؤيّـدة للمقاومة العربية الإسلامية، بل فيها من يتبرّأ منها كما يتبرّأ بعض العرب.
ورغم هذا، فإن المقارنة بين الدّعم من جار إسلامي ـ أي إيران ـ وبين موقف عربي غير فاعل بأي مقياس، ولو فى حدّه الأدنى، ممثلا في وقف الاعتداءات الإسرائيلية الهمجية واللاإنسانية، يكون في صالح الأول على حساب الثاني، وبما يكسبه أرضا جديدة على الصعيد الشعبي العربي، ومن ثم، يتعمّـق الانفصال أكثر وأكثر بين قمة النظام العربي وبين قواعده التحتية.
وحتى المطروح من حلول للأزمة اللبنانية، لا يلغي أبدا أدوار وتدخلات قوى إقليمية أخرى، فيما يعني أن النظام العربي عليه أن يقبل رسميا اختراقات كبرى في بنيته الأمنية، وتلك بدورها مرحلة عصيبة مليئة بتحديات، الكثير منها لم يتبلور بعد، بيد أن النتيجة تصبُّ في شيء كبير من التغيير الدرامي.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.