الهجرة من سويسرا وإليها عبر قرنين
في السابق، غادر مئات الالاف من السويسريين بلادهم بحثا عن الثروة والعيش الكريم في مختلف القارات
واليوم تستقبل سويسرا موجات من الأجانب الباحثين عن اللجوء والعمل والإستقرار في الكنفدرالية. معرض في لوزان يضع الظاهرتين وجها لوجه.
في سياق احتفالات كانتون فو (Vaud) هذا العام بمرور قرنين على إنشائه، أنجز المتحف التاريخي لمدينة لوزان معرضا عن الهجرة من سويسرا وإليها في القرنين التاسع عشر والعشرين.
فقد كان عام 1803 الذي شهد ميلاد الكانتون، مفتتحا لقرن عصيب شهدت فيه سويسرا موجات متتالية من الهجرة دفعت بـ 500 ألف من سكان الكنفدرالية (الذين كان عددهم يقدر وقتها بثلاثة ملايين نسمة) إلى مغادرة موطنهم بحثا عن الرزق وهربا من المجاعات التي ضربت البلاد(خاصة في عامي 1816 و 1848) والفقر. وقد استمرت هذه الظاهرة التي طواها النسيان اليوم إلى حدود عام 1914.
أما اليوم فقد تحولت سويسرا – من أرض فقر وبؤس وهجرة – إلى بلد يستقطب المهاجرين من شتى أنحاء العالم ويُعاني مما يستتبع الظاهرة من قوانين وإجراءات وموجات عداء للأجانب واختبارات يومية لقدرة البلد ومواطنيه على إدماج مئات الآلاف من البشر الباحثين عن الأمن والعمل والعيش الكريم في مجتمع وأسلوب حياة سكان الكنفدرالية.
لذلك جاءت فكرة المعرض الذي افتتح في منتصف شهر يونيو الماضي تحت عنوان: “العيش بين عالمين – 1803-2003” لتقيم “مقابلة” أو “مواجهة” بين قرنين من تاريخ كانتون فو وسويسرا وبين حقبتين مختلفتين تماما. بين قرن اضطر فيه مئات الآلاف من السويسريين إلى مغادرة أراضيهم وقراهم ومدنهم وقرن آخر استقبلت فيه سويسرا (ولا تزال) مئات الآلاف من المهاجرين من شتى أصقاع الأرض.
بين الآلام والآمال..
“الهجرة أشد عُسرا من البقاء في الوطن” ، “لا أنصح أحدا بمواجهة مغامرة الهجرة إلا إذا كان صاحب عزيمة قوية وثقة بالنفس وفي المستقبل”.
هذه الأصوات الصادرة عن مهاجري الأمس واليوم تمثل تكرارا شبه حرفي لما قاله سويسريون خاضوا رحلات طويلة وخطيرة بحثا عن الثروة في أمريكا ولما يقوله الآن الوافدون من باقي العالم بحثا عن الثروة في سويسرا.
لم تكن مُصادفة أن اتخذ المعرض شكل “دوامة لولبية”.. ففي إحدى قاعات المتحف التاريخي لمدينة لوزان اتخذت لوحات العرض شكل مجلات حائطية متعددة الأبعاد تغطي كامل المساحة من الأرضية إلى السقف بخليط من الوثائق ومقتطفات من نصوص مخطوطة وصور فوتوغرافية.
وتنطلق الجولة من منتصف القرن التاسع عشر، ففي تلك الفترة قلت الوظائف وتعسر الحصول على عمل وشح الخبز بالتالي في سويسرا وأدى ذلك إلى عبور ما لا يقل عن 500 ألف رجل وامرأة وطفل لحدود الكنفدرالية لخوض رحلة طويلة باتجاه الأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة وكندا.. ومغامرة نحو المجهول بحثا عن حياة جديدة.
وتتخلل “الدوامة” غرف صغيرة مظلمة يمكن للزائر أن يجلس فيها لينصت إلى قراءة (مسجلة بأصوات ممثلين محترفين) لمحتويات الرسائل التي بعث بها مهاجرون سويسريون إلى أقاربهم الذين ظلوا في الوطن.
وتحكي الأصوات شبه الهامسة الجوع والبرد اللذيْن عانوا منهما في “درجة الفقراء” التي سافروا فيها على متن البواخر الضخمة التي شقت بهم عُباب المحيط الأطلسي.. وتصف البؤس واليأس اللذين يشعر بهما من يجد نفسه في أرض غريبة لا يفهم شيئا من لغة سكانها أو عاداتهم .. كما تروي آلام البعاد عن الزوجة أو الأم والآمال بالإجتماع مجددا على الرغم من التسليم بضرورة استمرار الفراق لمدة طويلة.
الحلم .. أمريكي
تقول إحصائيات المعرض أن 17% من سكان كانتون تيشينو (جنوب سويسرا) هاجروا إلى خارج البلاد في الفترة الفاصلة ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين بحثا عن الرزق والعيش الكريم.
وعلى الرغم من أن هذا الرقم لا يمثل إلا نقطة من بحر المهاجرين الأوروبيين الذين وصل تعدادهم إلى 55 مليون شخص ( لم يعد إلا ربعهم إلى أوطانهم)، إلا أن التاريخ السويسري سجل بعض نقاط الإختلاف المثيرة عما حدث في بقية بلدان القارة.
إذ تنقل جدارية المعرض اللولبية أصداء روايات عن “خجل” ظل مرافقا لعدة بلديات تقع وسط سويسرا لم تتردد في تسديد تكلفة سفر الفقراء من سكانها إلى الولايات المتحدة من أجل التخلص منهم، كما تنشر صورا لوجوه نحيفة وعيون متوجسة تُجاورها فقرات مخطوطة مستخرجة من مذكرات شخصية ووثائق رسمية تحولت إلى جزء لا ينفصم عن تاريخ سويسرا ومهاجريها.
ويتوالى شريط الذكريات والمراجعات .. هذه “أليس أيلاند” بوابة الأمل ومفتاح الدخول ومحل “الإنتقاء” إلى أمريكا .. وهذا سجل أسماء الجمعيات السويسرية العديدة التي نشأت فوق الأراضي الأمريكية: سلسلة طويلة من الأسماء والحكايات .. وجوه مشبعة بالأمل ومكتنزة بعد طول انتظار .. وقائمة بعشرات المدن والبلدات التي أطلق عليها المهاجرون السويسريون أسماء “برن” و “لوزان” و “جنيف” في ولايات كانساس ولويزيانا وفلوريدا، مقر إقامتهم الجديد.
واقع سويسرا اليوم
في المقابل يتركز الشطر الثاني من المعرض على الحاضر، أي على ما يُكابده المهاجر الذي يغادر إفريقيا أو يقدم من أقصى الشرق من أجل الوصول إلى الكونفدرالية التي تحولت في الأثناء إلى واحدة من أثرى البلدان في العالم.
وقد اختار مُعدو المعرض استعراض هذه المعاناة عبر تسجيلات صوتية للمهاجرين أنفسهم (مرفوقة بصور التقطها لهم المصور الفوتوغرافي أرلينغ ماندلمان) جاءت مضامينها في معظم الأحيان قاسية ومريرة.
يقول حسّان وهو مهاجر يقدم من الجزائر: “إذا ما فهمتُ جيدا، فان الإندماج عندكم يمر عبر العمل، يعني إذا ما “قتلنا” أنفسنا في أشغال نقوم بها فعند ذلك يُرحب بنا حتى ولم لم نتعلم شيئا عن بلدكم. المهم أن نقبل القيام بالأعمال التي لا تريدون القيام بها وخاصة التنظيف الجيد. وأن لا نطلب في المقابل من الدولة شيئا. عندها نعم تقبلون بنا”.
وفيما عبرت مارينا مارينغو و كلود موراي، وهما الباحثان اللذان أشرفا على إنجاز المعرض عن مشاعر الصدمة بسبب “التشابه القائم بين تجارب مهاجري اليوم والأمس”، يُـفاجئ زوار المعرض بافتقاره إلى النصوص والصور والأرقام التي تكشف عن حجم وتنوع المصاعب التي تواجه من يبحث عن بناء حياة جديدة في سويسرا هذه الأيام.
“طريق ثالث”؟
إذ لا يشتمل المعرض على الإحصائيات المفصلة المتعلقة بظاهرة هجرة الأجانب إلى سويسرا أو على الدراسات العديدة التي أنجزتها في الفترة الماضية مؤسسات بحث علمي وجمعيات ومنظمات متخصصة في هذه القضايا. وقد يكون مرد ذلك تركيز الباحثين اللذين أشرفا على إعداده على متابعة حالات شخصية من خلال حوارات مطولة أجروها مع مهاجرين إيطاليين وإسبان وبرتغاليين ويوغوسلاف استقدمتهم سويسرا في الستينيات من القرن الماضي لسد احتياجات سوق العمل.
لكن الأمتار الأخيرة من المعرض تضمنت جملة قاسية جدا جاء فيها على لسان أحد المهاجرين “إن سويسرا تقسم العالم إلى جزأين غير متساويين. فهناك أوروبا من جهة وبقية العالم من جهة أخرى الذي لا حظ له إلا اللجوء أو الإقامة غير المشروعة”.
لكن يبدو أن “طريقا ثالثا” في طريقه للبروز مثلما يروج كتيب صادر عن المكتب الفدرالي لشؤون اللاجئين وُضع على رف يعترض الزائر فور مغادرته للمعرض يتحدث عن “الدعم الفدرالي للعودة”، وهو مشروع حكومي يرمي لإعادة “الأشخاص غير المرغوب فيهم” إلى بلدانهم الأصلية.
إلا أن المزعج هنا هو أن هذه “الخاصية” السويسرية الحديثة أدت إلى توجيه انتقادات للكونفدرالية في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2003.
سويس إنفو
عنوان المعرض : “العيش بين عالمين، 1803-2003”
يستمر المعرض إلى يوم 2 نوفمبر 2003
من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين هاجر:
55 مليون من سكان القارة الأوروبية
500 ألف سويسري
17% من سكان كانتون تيشينو (المتحدث بالإيطالية)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.