الورطة بوشية، والمستنقع شرق أوسطي
هل بدأ العد العكسي التنازلي لمشروع الرئيس الأمريكي بوش في الشرق الأوسط الكبير؟
كان هذا السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه على المحللين الشرق أوسطييين هذه الأيام بعد سلسلة الفضائح والنكسات والورطات المتلاحقة التي تعرّضت لها السياسة الأمريكية في المنطقة.
على رأس الفضائح، تربّعت بالطبع الصور المريعة التي نشرتها وبثتها أجهزة الإعلام الأمريكية، المقروءة والمسموعة، حول عمليات التعذيب والإذلال التي تعّرض لها السجناء العراقيون في سجن أبو غريب.
وبرغم أن الرئيس بوش حرص على التوجّه مباشرة إلى الرأي العام العربي عبر تلفزيوني “العربية،” السعودي و”الحرة” الأمريكي لإدانة هذه العمليات، وللتعهد بمعاقبة مرتكبيها، إلا أن الضرر الذي لحق بسمعة أمريكا وصدقيتها في العالمين العربي والإسلامي وقع بالفعل، وسيكون من الصعب “غسله” مهما بذلت واشنطن من جهود، لا بل أكثر: إن هذه الفضيحة أدت إلى فتح ملف الممارسات الأمريكية في “المعتقلات السرية” في أفغانستان وغوانتانامو في كوبا والعديد من الدول الاخرى، حيث تتواتر معلومات عن ممارسات تعذيب مماثل للأسرى العرب والإسلاميين.
هذه اللطخة السوداء التي ارتسمت على جبين دولة عظمى تدّعي أنها جاءت إلى الشرق الأوسط الكبير لنشر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ترافقت مع ورطتين إستراتيجيتين كبيرتين يعيشهما حاليا المشروع الأمريكي الطموح في الشرق الأوسط.
الأولى، هي إنفجار الوضع الأمني والسياسي العراقي في وجهها، واحتمال فشل كل الجهود التي يبذلها المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي لإيجاد حل داخلي يسمح لواشنطن ببلورة “إستراتيجية خروج” مشرّفة من العراق.
والثانية، وهي الأهم، تورّط الرئيس بوش مع أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في خطة تهدد بزعزعة كل نفوذ وصدقية واشنطن؛ ثم ارتطام هذه الخطة المتطرفة أصلا في تجاهلها لحقوق الفلسطينيين، بجدار أكثر تطرفا تمثّل في رفض غالبية حزب الليكود لها.
معروف أن بوش تعّهد لشارون في رسالة خطية برفض عودة اللاجئين الفلسطييين إلى ديارهم التي شُـرّدوا منها عام 1948، ودعم احتفاظ إسرائيل بشكل دائم بكتل إستيطانية ضخمة في الضفة الغربية، إضافة إلى تبنيه مقولة كون إسرائيل “دولة يهودية”، الأمر الذي يُـهدد مستقبل مليون فلسطيني يعيشون الآن في الدولة العبرية. فكيف يمكن لبوش أن يخرج من ورطته الفلسطينية هذه؟
عناد.. وتبرير
أول رد فعل من البيت الأبيض على تعثر خطة شارون، التي بنى عليها بوش رسالة تعهداته، كان العناد. فهو أصّر على القول بأنه “لا يزال يدعم هذه الخطة، لأنها خطوة في اتجاه السلام ولحظة تاريخية للعالم”.
لكن المراقبين يعتقدون أن موقف بوش ليس أكثر من إنقاذ لماء الوجه. فالخطة الشارونية الأصلية لم تعد قائمة أصلا، وكل المؤشرات تدل على أن الخطة البديلة التي يعدّها الآن رئيس الوزراء الإسرائيلي، ستتضمن حتما تعديلات تستهدف نيل رضى المستوطنين ومعهم وزراء اليمين المتطرف، وستتضمن، كما أشار الكاتب الأمريكي وليام سافاير المقرّب من شارون، إبقاء بعض المستوطنات والمواقع العسكرية في غزة، وتقليص عدد المستوطنات التي سيتم سحبها من الضفة من أربع الى إثنتين.
والسؤال في هذا الحال هو: هل ستبقى رسالة بوش حول الضمانات سارية المفعول بعد إعلان هذه الخطة المعدّلة التي ستكرّس هذه المرة إحتلال غزة بعد الضفة؟
إذا ما كان الجواب بالسلب، فهذا سيكلّف الرئيس الأمريكي كثيرا في الداخل، حيث سيجد نفسه في مواجهة اللّـوبي اليهودي القوي في خضم معركة إنتخابية رئاسية قاسية.
وإذا ما كان الرد بالإيجاب، فهذا سيكلفه كثيرا في الخارج، حيث ستذوب حينها تماما الفروقات بين أمريكا وإسرائيل في أذهان العرب والمسلمين.
الإنقلاب الشامل
إن ورطة بوش مع شارون كانت واضحة حتى قبل أن يتعرّض هذا الأخير إلى الهزيمة في استفتاء الليكود، وهذا عبّر عن نفسه في المحاولات التي بذلها أركان حربه في البيت الأبيض للتخفيف من وطأة إنحيازه للإستيطان اليهودي.
فقد قال مسؤول رفيع، (يعتقد أنها كوندوليزا رايس) أن كل العالم “لم يفهم كلام بوش جيدا، فهو لم يغيّـر موقفه إزاء المستوطنات والدولة الفلسطينية، ولم يقل إن المستوطنات ستبقى، بل شدّد على أن مصيرها سيتقرر في مفاوضات الحل الدائم”.
وأيّـد هذا الرأي كبير المفاوضين الأمريكيين السابق دنيس روس، الذي كتب في “لوس أنجيليس تايمز”: “رسالة بوش إلى شارون توضح بجلاء أن أي اتفاق حول الوضعية النهائية، لن يتم إلا على أساس التغييرات المتفق عليها، والتي تعكس الحقائق الجديدة على الأرض”. وتحفظ روس الوحيد على صفقة بوش- شارون كان في “عدم استشارة الفلسطينيين حولها”.
في حين كان بعض المسؤولين العرب الموالين لواشنطن يعربون عن الاعتقاد في مجالسهم الخاصة بأن موافقة الرئيس الأمريكي على خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي حول إخلاء غزة وإبتلاع الضفة، ما هو إلا تكتيك انتخابي آني، سرعان ما ستبدده المصالح الاستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى في الشرق الأوسط الكبير. بيد أن هذه التحليلات “الباردة” (أو التي تدّعي البرود)، لم تكن في محلها.
فرسائل بوش وتصريحاته بعد القمة مع شارون، لم تكن تقل عن كونها “وعد بلفور” جديدا، هدفه هذه المرة تقسيم فلسطين – 67 وزرع الأعلام الإسرائيلية فوق كل جسدها في شعاع يمتد من مستوطنة أرئيل في وسط الضفة إلى مستوطنة كريات أربع في أسفلها قرب البحر الميت.
كما أنها (وهنا الأهم)، تحيل إلى متاحف التاريخ الموقف القانوني الأمريكي الذي صدر في سبعينيات القرن الماضي، والذي اعتبر المستوطنات “غير متطابقة مع القانون الدولي”، وهذا يعني أن الولايات المتحدة انحازت بشكل نهائي إلى مبدإ القوة على حساب مبإأ الشرعية في فلسطين، وهو انحياز تم، على أي حال، الإفصاح عنه بوضوح في التعابير التي استخدمها الرئيس الأمريكي مثل “الحقائق الجديدة على الأرض” (التي فُـرضت بقوة الاحتلال) و”المراكز السكانية الإسرائيلية الكبيرة” (بدل استخدام تعبير المستوطنات)، و”عدم واقعية العودة إلى حدود عام 1967″ (برغم أن هذه الواقعية تستند إلى القرار الدولي رقم 242 الذي صُـنع في أمريكا).
هذه المعطيات أعطت مواقف بوش سمة الانقلاب الشامل بدون أن يعني ذلك أنها كانت مفاجئة، كما أوحت بذلك تصريحات الرئيس حسني مبارك والحكومة السعودية.
لماذا؟ لأنه (الانقلاب) جاء متطابقا مع التوجهات العامة للإستراتيجيات العامة لإدارة بوش، فهي:
– كرستّ (كما أشرنا) تفوّق القوة على الشرعية في السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما في كل أنحاء العالم.
– وحققت رغبة المحافظين الجدد الأمريكيين في نسف عملية السلام وإحلال عملية موازين القوى مكانها، كما خطط لذلك بول وولفوفيتز وريشارد بيرل منذ أوائل التسعينات.
– وأخيرا، أوضحت بجلاء أن النظام الإقليمي الجديد الذي ستقيمه الامبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير، سيكون في العمق “كوندومينيوم” (أي حكم مشترك) أمريكيا – إسرائيليا تضيع فيه الفوارق إلى حد التلاشي بين طموحات واشنطن ومطامع تل أبيب.
انتخابات.. انتخابات
بالطبع، كل هذه الاعتبارات الاستراتيجية لا تُـلغي أهمية الحسابات التكتيكية الأمريكية. فالرئيس بوش في حاجة ماسة بالفعل الى أصوات اليهود، خاصة في “الساحل الذهبي اليهودي” في فلوريدا، الذي قد يحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر المقبل. كما أنه في حاجة ماسة أكثر إلى الأموال اليهودية في مناطق رئيسية مثل لوس انجيليس، وسان فرانسيسكو، وشيكاغو، وميامي، ونيويورك.
ثم يجب ألاّ ننسى أن الولايات الأمريكية التسع التي تتضمن وجودا يهوديا مُهمّـا، تمتلك 212 صوتا انتخابيا من الأصوات الـ 270 الضرورية للوصول إلى عرش البيت الأبيض.
وعلى أي حال، ما يحدث الآن لا يقل عن كونه تطابقا بين الرؤية الاستراتيجية البوشية لفلسطين والشرق الأوسط والعالم، وبين التكتيكات البوشية في الداخل الأمريكي.
وهذه، كما هو معروف، معادلة خطرة للغاية، دفعت وودرو ويلسون في أوائل القرن العشرين إلى وضع مبادئه المثالية في خدمة الوطن القومي اليهودي على حساب الوطن القومي الفلسطيني، وهي تدفع الآن جورج بوش في أوائل القرن الحادي والعشرين إلى تمديد هذا الوطن اليهودي إلى ما تبقى من فلسطين.
ومع مثل هذه المعادلة، لا مجال للتخفيف من وطأة الانقلاب التاريخي البوشي، كما حاول المسوؤل الأمريكي وبعض المسؤولين العرب. فالجروح العميقة لا تُـعالَـج بالمسكّـنات الخفيفة، والمضمون لا يبدّله تغيير الشكل. فمضمون سياسات بوش وشكلها متطابقان كليا هذه الأيام.
العد العكسي
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ببساطة، أن بوش سيبقى متورطا في إسرائيل ومعها لأسباب داخلية وانتخابية وخارجية إستراتيجية.
وإذا ما أضفنا الى ذلك فضيحة تعذيب السجناء، والورطة الأمنية – السياسية في العراق، لتوصّـلنا إلى الاستنتاج بأن السؤال حول ما إذا كان العد العكسي التنازلي لمشروع بوش في مستنقع الشرق الأوسط الكبير قد بدأ، لم يعد سؤالا، إنه أصبح الجواب.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.