مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الوزارة العراقية.. حقل ألغام ومهمات صعبة

وزير الصحة العراقي الجديد خضر عباس أثناء أدائه لليمين يوم 3 سبتمبر الماضي في بغداد Keystone

برغم كل الانتقادات التي أثيرت لدى تشكيل مجلس الحكم الانتقالي العراقي، لم يواجه تشكيل الوزارة العراقية الجديدة عاصفة من الاعتراضات.

ولهذا الموقف أسبابه لدى القوى السياسية، ومبرراته لدى الشارع العراقي.

إذا كان إعلان تشكيل مجلس الحكم الانتقالي العراقي قد حاز اعتراضات السنة والشيعة، كما حاز على غضب مجموعات الداخل وأحزاب وجماعات الخارج التي أدمنت المعارضة لنظام الحكم السابق في البلاد، وربما وحدهم أكراد العراق الذين لم يبدو اعتراضات جوهرية عليه لسبب واحد بسيط وهو أنه (وبصرف النظر عما يراه البعض حصولهم على نسبة مرتفعة بأكثر من استحقاقهم في تشكيلة مجلس الحكم) يخدم مشروعهم المُـعلن في إنشاء نظام حكم فدرالي ضمن عراق متعدد الطوائف والأعراق.

فإذا كان الأمر كذلك، نجد الحال مختلفا مع التشكيلة الوزارية التي قابلها العراقيون بقدر من الارتياح والتفاؤل ممزوجا بأقدار من الترقب والقلق.

ومع أن مجلس الحكم الانتقالي العراقي كان سبّـاقا إلى ما تندّر البعض بتسميّته “استنساخا سياسيا” حين عمد إلى استنساخ نفسه في الوزارة الجديدة، حيث أن البعض من أعضاء المجلس لجأ إلى تعيين ابن أو شقيق أو صهر أو قريب في الوزارة، إلا أن ذلك لا يُـلغي حقيقة أن التشكيلة الوزارية الجديدة حفلت بعدد لا يستهان به من الخبرات والكفاءات في شتّـى الميادين، ضم عددا لا بأس به من عناصر الداخل العراقي.

ومن الواضح أن استقبال الشارع العراقي للإعلان عن التشكيلة الوزارية الجديدة بقدر لا بأس به من القبول يعود بالدرجة الأساس إلى حاجة المواطن العراقي لقدر من الهدوء وسعيه إلى تلمس بوادر اطمئنان في ظل ما يسود حياته اليومية من عوامل الريبة والخشية والقلق.

ومن المؤكّـد أن أعضاء الحكومة الجديدة يواجهون وضعا لا يحسدون عليه. فالمواطن العراقي الذي يعاني كثيرا من انعدام الخدمات وفقدان الأمن سيجعل الوزراء الماثلين أمامه – وهو يرى ويتابع أداء كل منهم في إطار مناخ من التعدد الإعلامي لم يعهده من قبل – هدفا سهلا يتعلم من خلال التصويب عليه دروسا في الديمقراطية وممارسة النقد.

هذا المناخ الجديد تساهم في بلورته أكثر من 100 صحيفة ومجلة تجد طريقها كل صباح إلى أيدي المواطن العراقي، إضافة إلى ما يستقبله عبر عشرات القنوات الفضائية (سواء كان لها مراسلون دائمون في بغداد أم لا) المعنية – بأقدار متفاوتة – بتوفير مادة لمشاهديها من خلال اقتناص الأخطاء والسلبيات قبل تعداد المزايا والإيجابيات.

حقل ألغام

ويشعر كثير من الوزراء أنهم يسيرون في حقل ألغام، على حد تعبير الدكتور مهدي الحافظ، الذي تسلّـم مؤخرا منصبه كوزير للتخطيط في الحكومة. وحقل الألغام الذي يشير إليه يعود إلى صعوبة المهام ومحدودية الصلاحيات والازدواجية في القدرة على اتخاذ أهم القرارات وأكثرها استراتيجية.

فالعراقي الخارج توا من أتون الحروب والحصار والتدمير النفسي والجسدي، يحتاج إلى الكثير وعلى كافة الأصعدة، فيما سيجد الوزراء العراقيون أنفسهم عاجزين، شاءوا أم أبوا، عن توفير الحد المناسب الذي يُـرضي مواطنيهم، سواء كان ذلك على صعيد الخدمات الأساسية أو على صعيد الأمن الذي باتت قضية توفيره ملحة جدا.

ولا يعود عجز أعضاء الحكومة إلى أسباب ذاتية تتعلق بهم وبقدراتهم، وإنما بأسباب موضوعية متداخلة لجهة محدودية الإمكانيات والصلاحيات من ناحية، ولجهة ضخامة المسؤوليات الملقاة عليهم من ناحية ثانية. وهنا، تجدر الإشارة إلى الغموض المحيط بالتداخل غير المفهوم بين الصلاحيات الممنوحة للوزراء، والصلاحيات والمهام الحقيقية لقوات الاحتلال.

يقول الدكتور مهدي الحافظ في حديث خاص لسويس انفو، إن هذا الأمر جزء من الصيغة التي أُنشئ بها مجلس الحكم الانتقالي بموجب القرار 1483 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، وهي بالطبع صيغة استثنائية لمرحلة الاحتلال الأجنبي للبلاد.

ومع أنه لا يُـخفي تحفظاته على ذلك، إلا أن السيد الحافظ يعتقد أن هذه المرحلة مؤقتة ولابد أن تنتهي بانتهاء مهمات العملية السياسية في البلاد، أي عند استكمال مراحل العملية الانتخابية والدستورية.

ويؤكد وزير التخطيط وجود نوع من الازدواجية في بعض المجالات، ولاسيما في الجوانب الأمنية والشؤون العسكرية، حيث ثمة تداخل كبير بين الجانبين، وخاصة فيما يتعلق بالشؤون الأمنية التي يُـصر العراقيون على تولّـي زمام أمرها، فيما تزال قوات الاحتلال هي المسيطر الحقيقي على هذا الجانب، برغم بعض الشكليات التي رافقت منح مهمات حماية بعض المناطق إلى جهات عراقية، سواء من قوات الشرطة أو من الميليشيات العشائرية التي تم تسليحها في الآونة الأخيرة.

تداخل

ومن أهم الإشكاليات المثارة في هذه المرحلة، عدم وجود سلطة مستقلة لرئاسة الوزراء، حيث يتولى الرئيس الدوري لمجلس الحكم الانتقالي مهمة رئاسة الوزراء، وهو ما يعني عدم الفصل بين السلطتين التشريعية (التي يمثلها رئيس مجلس الحكم)، والتنفيذية (التي يمثلها الوزراء الحكوميون).

وهنا تبرز مشكلة أخرى. فأعضاء هيئة الرئاسة في مجلس الحكم يتباينون، إن في المواقف السياسية أو في البرامج، بل قد يكون لبعضهم “برنامج شخصي” يختلف كثيرا عن مشاريع وتوجهات الآخرين.

وقد يعني هذا أن انتقال الرئاسة بشكل دوري بين أعضاء الهيئة “التساعية” سيؤدي، بشكل أو بآخر، إلى حدوث بعض التذبذب في الأداء، وبعض التلكّـؤ في ميدان ما، مقابل تقدم مجال أو مجالات أخرى طبقا لاهتمامات الرئيس الدوري وبحسب أولويات برنامجه الحزبي، وربما الشخصي.

ومن بين القضايا المثيرة للقلق في بعض الأوساط، عدم الانسجام الحاصل بين الوزراء. فلكل وزير مرجعه الأساسي، وهو عضو مجلس الحكم الذي رشَّحه لتبوُّء المنصب الوزاري.

ويتساءل قطاع من الرأي العام، هل سيكون هؤلاء الوزراء، بكل ما يُـثقِـل كواهلهم، قادرين على تخطي هذه “الشخصنة” في التعامل والنظر إلى مصلحة الوطن والمواطن الذي يريد الكثير، وعدم الخضوع للاعتبارات الحزبية والتناقضات السياسية في ظل ما اتّـضح من عدم قدرة البعض على التخلص من “خصوصياته” حتى الآن؟

ويخشى آخرون من أن تعجِـز بعض الأطراف السياسية عن تغليب المصلحة العامة على بقية الاعتبارات الذاتية وأن لا تتمكّـن من الانصهار في البوتقة الوطنية العامة التي يُـفترض أن تضم الجميع على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم، وأن تتعجّـل اغتنام الفرص واقتناص المكاسب، حتى وإن كانت على حساب الآخرين.

الداخل والخارج

وهناك أيضا موضوع الارتباط الوظيفي السابق لدى بعض من الوزراء الجدد، وخاصة لدى أولئك الذين تم استقدامهم من الخارج، إذ كان بعضهم يعمل في مؤسسات وشركات تسعى لنيل المكاسب في العراق الجديد، خاصة وأن عددا منهم يتقلّـد حاليا مسؤولية في ميدان يُـشكّـل امتدادا طبيعيا للشركة التي كان يتولى إدارتها أو التي عمل فيها سابقا، وهو الأمر الذي دفع البعض إلى طرح موضوع النزاهة والأمانة الوظيفية والمطالبة بإنشاء مؤسسة رقابية حقيقية تتولى التدقيق في أداء الوزراء ومحاسبة المقصرين منهم ومراجعة العقود المبرمة وتمحيص مفرداتها.

هناك أيضا موضوع فيتو السيد بريمر. غير أن هذا الفيتو غير ظاهر حتى الآن، بمعنى أنه لم تثر خلال الأسابيع الماضية قضية جوهرية أدت إلى نشوء خلاف بين الطرف العراقي، الذي يضم أطرافا متعددة، والطرف المحتل الذي يمثله الجانب الأمريكي، مما استلزم إصدار فيتو أمريكي بشأنها.

إلا أن هذه المسألة ستظل مثار تساؤلات في صفوف العراقيين الذين يرى بعضهم أن شهر العسل السائد حتى الساعة قد لا يكون بالضرورة دليل صحة وعافية، بل قد يُـؤشّـر على أن القضايا الجوهرية لم تحوّل ملفاتها إلى العراقيين حتى الآن، وهو ما قد يعني أن الوزراء العراقيين ومجلس الحكم أيضا ما زالوا يتولون القضايا الهامشية، فيما يتحكَّم الجانب الأمريكي بالفصل في القضايا الرئيسية ذات الصبغة الاستراتيجية.

البحث عن الإيجابيات

ولا تعني الملاحظات والانتقادات الموجّـهة إلى الحكومة الجديدة أن الصورة سلبية تماما، إذ يحرص المتفائلون على التأكيد أن خطوات جيدة قد تحقّـقت على صعيد منح بعض الصلاحيات للوزراء العراقيين ولمجلس الحكم، رغم بعض الازدواجية القائمة في جوانب معينة.

ويقول الدكتور مهدي الحافظ: “إن الذي حصل هو أن مهمات عديدة وصلاحيات واسعة مُـناطة الآن بمجلس الحكم والوزراء، مما يؤمّـن دورا متناميا للجانب العراقي في رسم وتقرير السياسات العامة، حتى في القضايا الاستراتيجية”.

ومن بين القضايا الإيجابية التي بدأت تجد حضورها في الشارع العراقي، الوجود الذي بدأ يتكثَّـف تدريجيا لرجال الشرطة العراقية بملابسهم الزرقاء الجديدة التي تشبه إلى حد كبير زي رجال الشرطة الأمريكية.

إذ يلاحظ أن الأسبوع الأخير شهد انتشارا متناميا للمفارز الأمنية العراقية التي تقوم بتفتيش السيارات وتمشيط المناطق ومداهمة بعض البؤر بحثا عن مجرمين أو عصابات ترعرعت في ظروف الانفلات الأمني الذي ساد خلال الأشهر الأخيرة.

وهناك أيضا عودة وزارات ومؤسسات حكومية للعمل تدريجيا، حيث بدأت الحياة تعود شيئا فشيئا إلى المباني المهجورة، سواء لإصلاحها أو لمزاولة العمل فيها مجددا، مما يعني أن بعض مستلزمات الحياة اليومية والتعاملات ذات المساس المباشر بحياة المواطنين بدأت تعود شيئا فشيئا. صحيح أنها ما تزال أقل من مستوى تلبية الحاجات الضرورية، لكنها بداية يمكن أن تتوسع تدريجيا.

وعلى هذا الصعيد، يمكن الإشارة إلى أمرين. يتمثّـل الأول في أن بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية قد فقدت مقراتها، سواء بسبب القصف أثناء الحرب أو بسبب ما تلاها من أعمال تخريب متعمدة.

ويتلخّـص الثاني في أن عددا من المؤسسات ذات المساس المباشر بالتعاملات اليومية للمواطنين ما يزال مغلقا ويفتقر إلى المعالجة، مثل دوائر التسجيل العقاري والمرور والبنوك ودوائر الجنسية والأحوال المدنية والجوازات، وهي مسائل تتطلب حسما سريعا.

يُـشار إلى أن عددا من الوزارات تعمل الآن في مبانٍ مؤقتة، ربما لا تكفي لواحدة من أقسامها في السابق، كما هو حال وزارة الخارجية التي تباشر عملها في مبنى المعهد الدبلوماسي بعد أن تضررت مباني الوزارة الرئيسية كثيرا، والأمر نفسه ينطبِق على وزارة التخطيط التي استقرت في مبنى معهد التطوير الإداري التابع لها.

في المقابل، تتقاسم وزارات أخرى مباني مؤسسات حكومية بالاشتراك مع جهات عديدة كما هو حال وزارات الزراعة والري والنقل والاتصالات التي تتقاسم المبنى العائد لوزارة النفط في بغداد، وهو المبنى الوحيد الذي حمته الدبابات الأمريكية عند احتلالها العاصمة العراقية.

وفي كل الأحوال، ومهما تكن الصعوبات والمعوقات، فإن قطاعا واسعا من الرأي العام يرى أن تشكيل الوزارة العراقية بادرة إيجابية وخطوة أولى على طريق طويل، وهذا أمر مهم جدا لأن الخطوة الأولى في طريق الألف ميل يجب أن تبدأ. فهل يمكن القول أنها بدأت فعلا؟

هذا ما ستجيب عنه مفردات الأداء اليومي للوزراء العراقيين الذين يُـنتظر منهم إنجاز الكثير، لكن شريطة أن يُمنحوا الفرصة والقدرة من جانب مواطنيهم ومن طرف الماسكين بزمام القرار الحقيقي في بلد يرزح تحت نير الإحتلال.

مصطفى كامل – بغداد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية