الوضع في العراق.. يثير في أمريكا الشقاق
إذا كان المثل العربي يجد عُـذرا لخطإ يمكن أن يقع فيه الإنسان بالقول أن "لكل جواد كبوة"، فإن للرئيس بوش كبوات متلاحقة..
لكن أكثرها خطورة على ما تبقى من فترته الرئاسية، بل وعلى مستقبل الحزب الجمهوري الذي يمثله، هي الوضع في العراق.
طبقا لأحدث استطلاع لآراء الأمريكيين أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، وصلت شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق.
فقد أعربت نسبة 29% فقط من الأمريكيين عن رضاهم عن أداء الرئيس بوش لمهمته كرئيس، مما يجعله أحدث عضو في نادي أقل الرؤساء الأمريكيين شعبية في التاريخ الأمريكي الحديث مع كل من والده بوش الأب بنسبة 29% عام 1992 بعد حرب تحرير الكويت، والرئيس جيمي كارتر بنسبة 28% عام 1979 بعد أزمة الرهائن في إيران، والرئيس نيكسون بنسبة 24% عام 1974 بعد فضيحة ووتر غيت، والرئيس هاري ترومان بنسبة 23% عام 1951 بعد الحرب الكورية، وهم فئة الرؤساء الذين وصف الشعب الأمريكي فتراتهم الرئاسية بالفشل.
ويؤكد ستيفن هيس، كبير خبراء دراسات شؤون الحكم في معهد بروكنغز في واشنطن، أن التاريخ السياسي في أمريكا يظهر أنه عندما تتدهور شعبية الرئيس، فإن حزبه يُـعاني في الانتخابات التشريعية ويفقد كثيرا من مقاعده في الكونغرس بمجلسيه.
ويتفق جون زغبي، رئيس مؤسسة زغبي لبحوث الرأي العام مع هذا التحليل ويقول “إن الشعب الأمريكي يشعر بالقلق وبنفاد الصبر إزاء تدهور الوضع في العراق، وأصبحت الحرب في العراق بمثابة القضية الرئيسية التي تقوض مصداقية وشعبية الرئيس بوش”.
ويتوقع جون زغبي استمرار تدنّـي شعبية الرئيس بوش بسبب كبواته الأخرى، سواء في الإخفاق في التعامل مع إعصار كاترينا أو عجزه عن مواجهة الارتفاع الحاد في أسعار البنزين وتفاقم العجز في الميزانية الفدرالية بسبب الحرب في العراق وغيرها، مما يجعل المواطن الأمريكي يشعر بأن كل الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.
العراق السبب الرئيسي
من جهة أخرى، توصّـل استطلاع آخر للرأي العام الأمريكي أجرته شبكة سي إن إن إلى أن أكثر من نصف غير الراضين عن أداء الرئيس بوش لمهمته كرئيس قالوا “إن فشله في العراق هو السبب الرئيسي في عدم رضاهم عنه”.
كما أن نسبة متزايدة من أعضاء الحزب الجمهوري بدءوا ينأون بأنفسهم عن تأييد الرئيس بوش في إطار من الخوف على مستقبل مقاعد الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم، حيث يمكن أن يؤدّي عدم الرضى الشعبي عن الرئيس بوش إلى أن يفقد الجمهوريون أغلبيتهم في الكونغرس.
ويتفنن الديمقراطيون حاليا في كيل الاتهامات بالفشل للرئيس وحزبه الجمهوري، خاصة فيما يتعلق بالعراق وما أدّت إليه الحرب من نفقات باهظة وخسائر وإصابات بين الجنود الأمريكيين.
وتعهدت النائبة نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب بأن يعمل الحزب الديمقراطي، في حال تمكّـنه من الفوز بأغلبية مقاعد الكونغرس بمجلسيه، على إنهاء الحرب في العراق وتوفير مئات آلاف الملايين من الدولارات المهدرة في تلك الحرب والتوقف عن تمويل الإنفاق بالاستدانة والعجز، غير أنها لم تتعهد بالانسحاب الأمريكي الفوري من العراق وقالت “إن عام 2006 يجب أن يكون عام الحسم في نقل مهمة حفظ الأمن وإدارة شؤون العراق إلى العراقيين أنفسهم”.
وكان جوزيف ستيغليتز، أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا الأمريكية والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد قد قدّر تكاليف الحرب في العراق بما يتراوح بين تريليون وتريليونين من الدولارات، حيث أنه بعد مرور ثلاثة أعوام على الغزو الأمريكي للعراق، لا زال هناك أكثر من مائة وأربعين ألف جندي أمريكي في بلاد الرافدين، وزادت أعداد المصابين منهم عن 16 ألف جندي تتراوح إصاباتهم بين فقد الأطراف وإصابات في المخ أو العمود الفقري.
وطبقا لتقديرات الخبير الاقتصادي الأمريكي، سيلزم إنفاق 122 مليار دولار على تعويضات العجز عن العمل للجنود المعاقين بسبب العمليات العسكرية في العراق، كما ستصل نفقات علاج العائدين المصابين إلى 92 مليار دولار، حيث سيتطلّـب علاج المصابين بإصابات في المخ وحدهم من بين الجنود الأمريكيين 35 مليار دولار لأنهم سيحتاجون العلاج طوال حياتهم. كما يرى البروفيسور ستيغليتز أن تكاليف الرعاية الصحية لجنود آخرين مصابين بأمراض نفسية من جرّاء أهوال ما شاهدوه ومرّوا به في العراق، ستستمر لعشرات السنين.
وتشير دراسة نشرتها مجلة نيو إنغلند الطبية إلى أن نسبة تتراوح بين 15 و17% من الجنود الأمريكيين العائدين من العراق يُـعانون من اضطرابات نفسية حادّة ترقى إلى درجة الاكتئاب والإحباط، وتقول إدارة المحاربين القدامى إن 35% من الجنود العائدين من العراق دخلوا عيادات نفسية للعلاج من الاضطرابات النفسية المختلفة التي يعانون منها. وأغرب ما حدث، هو أن بعض الجنود الذين ثبت أنهم مصابون باضطرابات وأمراض نفسية من الخدمة في العراق تم إرسالهم إلى العراق من جديد بعد تسلمهم لأدوية مضادة للاكتئاب.
وكشف مكتب المحاسبة الحكومي التابع للكونغرس النقاب عن أن إدارة المحاربين القدامى دأبت منذ بدء الحرب في العراق على تقديم طلبات ميزانيتها، ليس وفقا لتقديراتها للاحتياجات الواقعية التي تراها، ولكن وفقا للحدود التي طلبها البيت الأبيض، مما دعا النائب الديمقراطي لين إيفانز إلى وصف تلك التقديرات بأنه تم تلفيقها على طريقة شركة إنرون التي زيفت أرقام أرباحها لتبدو جيدة على الورق!
تجميل الوضع العراقي
وإزاء المأزق الذي وقع فيه الحزب الجمهوري على أيدي إدارة بوش في مشروع العراق الفاشل، تتركز جهود الإنقاذ حاليا في سلسلة من الخطابات التي يحاول الرئيس بوش فيها تجميل الوضع في العراق بتصوير أن مجرد قرب تشكيل نوري المالكي لحكومة عراقية بعد أكثر من أربعة شهور من المحاولات التي لم تنجح عقب انتخابات ديسمبر، سيكون العصا السحرية التي ستوقف المقاومة والتمرد، وستجعل من اليسير على قوات الأمن العراقية أن تتحمل بشكل متسارع مسؤولية الأمن والنظام في أنحاء العراق.
ولدعم هذا الزعم، شاهد الجميع مسرحية وصول وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفلد معا فجأة إلى العراق لحث القوى السياسية العراقية على المُـضي قُـدما في التوصل إلى اتفاق على من سيكلَّـف بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، ومن جانب آخر لإظهار الاتفاق بين الخارجية والدفاع بعد أن كانت رايس قد ألمحت إلى وقوع وزارة الدفاع في مئات من الأخطاء الإستراتيجية في التخطيط للحرب في العراق.
ويهدف هذا السيناريو إلى إيهام الناخبين قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم بأنه سيمكن البدء في سحب تدريجي للقوات الأمريكية من العراق قبل إجراء تلك الانتخابات، أملا في كسب أصوات الناخبين لصالح الحزب الجمهوري الذي يحاول الحزب الديمقراطي سحب البساط من تحته على خلفية المأزق الأمريكي في العراق، لعله يستطيع اكتساب ستة مقاعد في مجلس الشيوخ وخمسة عشر مقعدا في مجلس النواب تقلب موازين القوى في الكونغرس، وتعيد الأغلبية للديمقراطيين بعد أن أظهرت أحدث استطلاعات الرأي العام أن غالبية الأمريكيين باتوا يعتقدون بأن الديمقراطيين سيمكنهم التعامل بشكل أفضل مع الوضع في العراق، وأن أعضاء الكونغرس من الجمهوريين أكثر عُـرضة للوقوع في حبائل الفساد من زملائهم الديمقراطيين.
وأكثر ما يخشاه الجمهوريون من تلك النتيجة، هو أن الحزب الديمقراطي الذي يروِّج لفكرة أن الحزب الجمهوري قد خلق “ثقافة الفساد”، قد يسارع بتشكيل لجان للتحقيق في الأخطاء التي وقع فيها الجمهوريون برئاسة الرئيس بوش في العراق. ومما يزيد الطين بلة بالنسبة للرئيس بوش، هو أن هناك تراجعا في نسبة المحافظين الذين يوافقون على الطريقة التي يدير بها الرئيس شؤون البلاد.
ويخشى المحللون السياسيون في واشنطن من أن الإخفاق الأمريكي في العراق قد يدفع الرئيس بوش وكبار مساعديه إلى مغامرة عسكرية جديدة قبل انتخابات نوفمبر القادم، بهدف إنقاذ الحزب الجمهوي، ويعتقد المحللون أن هجمة خاطفة ومبهرة على المفاعلات النووية الإيرانية قد تساعد في إذكاء حمية الشعور القومي لدى الأمريكيين الذين أشبعتهم التصريحات الأمريكية فزعا من الرعب النووي الذي يشكله امتلاك آيات الله في إيران للقدرات النووية.
ويتساءل هؤلاء المحللون: هل يعرف أصحاب هذه الفكرة اليائسة ما الذي ستتمخض عنه مثل هذه المغامرة العسكرية؟ أقل ما يقال أنها سوف تدفع بسعر برميل البترول إلى ثلاثة أمثال سعره الحالي، وستكون النتيجة الحتمية في انتخابات نوفمبر هزيمة ساحقة لحزب الرئيس الجمهوري.
أما بدء الانسحاب التدريجي من العراق قبل تلك الانتخابات، فيحذر منه الخبراء العسكريون الذين يؤكدون أن القوات العراقية لن تكون مستعدة في القريب لتحمّـل المسؤوليات الأمنية، وسيؤدي بدء الانسحاب إلى تقوية شوكة المقاومة والتمرد ودفع العراق نحو حافة حرب أهلية.
ويخلص هؤلاء المحللون إلى أن البديل الوحيد لمواجهة الأثر السلبي للمأزق الأمريكي في العراق على الحلبة السياسية المحلية هو تصعيد البيت الأبيض لطنطنة إعلامية خلال الشهور القليلة القادمة حول التخطيط للانسحاب، فيما تواصل الولايات المتحدة استعداداتها لإبقاء قوات أمريكية في قواعد عسكرية مستديمة في العراق، وهو ما سيفرض على من يخلف بوش في البيت الأبيض مواصلة سياسات الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط.
محمد ماضي – واشنطن.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.