الوفاق الفلسطيني الصعب
جددت السلطة الفلسطينية دعمها للحوار بين الفصائل الفلسطينية الذى كان متوقعا أن يُـستأنف تحت الرعاية المصرية بالقاهرة يوم الثلاثاء 4 فبراير لكنه تأجل إلى ما بعد إجازة عيد الأضحى.
لكن جملة من الصعوبات حالت دون التوصل إلى اتفاق أو تصور مشترك يُـرضي كافة الأطراف المشتركة فيه، إضافة الى الجهة الراعية له.
واجه الحوار الفلسطيني الذى بدأ في القاهرة تحت رعاية مصرية جملة من الصعوبات التى حالت دون التوصل إلى اتفاق أو تصور مشترك يٌـرضى كافة الأطراف المشاركة فيه، إضافة إلى الجهة الراعية له.
وربما جاء التأخير المتفق عليه بشأن إصدار بيان يحدد نتائج الحوار حتى القيام بجولة أخرى بعد عطلة عيد الأضحى، ليعكس مدى ارتباط طبيعة ما سيتم بلورته بصورة شبه نهائية من جهة، مع نتائج الانتخابات الاسرائيلية من جهة أخرى، والتى أعطت الليكود نوعا من التفويض بالسير فى طريق التصلب السياسى والأمنى إلى نهايته.
ويفسر هذا التأخير تباعد المواقف بين الفصائل الفلسطينية، كما يعطي انطباعا بقدر من الفشل. لكن القضايا الجوهرية التى هي موضوع الحوار مع غياب ضمانات بأن التنازلات التى سيقدم طرف فلسطينى أو آخر قد تقابلها ضمانات أخرى تبرر تلك التنازلات، فضلا عن ازاحة القضية الفلسطينية من أعلى سلم الأولويات الإقليمية والدولية. كل ذلك جعل من “الحذر والانتظار” أمرا متفقا عليه من دون ان يُنظر إليه كفشل تام، خاصة وأن معظم هذه الفصائل قد شاركت فى حوارات سابقة ولم تصل إلى صيغة موحدة، وتعتبر نفسها فى حال تواصل سياسى وحوار شبه دائم.
ويكفى أن هذا الحوار الذى رعته القاهرة، جمع 12 فصيلا فلسطينيا لم تجتمع من قبل. وثمة فرصة لاستكمال الحوار، وإن كانت غير مضمونة بعد. واستنادا الى هذه العوامل معا، يمكن اعتبار جولة الحوار نوعا من التغيير غير المكتمل فى الاداء السياسى الفلسطينى، الذى يظل بحاجة الى ما يشبه عملية نقد ذاتى كبرى من كل أطرافه.
قضايا جوهرية بين شد وجذب
وبالرغم من أن المعالجات الإعلامية ركزت على الاقتراح المصرى بوقف العمليات العسكرية الفلسطينية لمدة عام من طرف واحد، فيما سٌُـمي بالهدنة الطوعية غير المشروطة بالموقف الاسرائيلى، باعتبارها القضية الأهم والأكثر سخونة، وربما السبب المباشر ـ كما فى التحليلات الاعلامية ـ فى تأخر التوصل الى نتائج محددة، فإن باقى القضايا التى كانت محلا للحوار لا تقل أهمية وتأثيرا على المستقبل الفلسطينى من العمليات العسكرية نفسها.
فهناك ثلاث قضايا رئيسية أخرى يفترض أنها نقاط للشد والجذب بين الفصائل الفلسطينية، كالرؤية السياسية المشتركة، وتنظيم التفاعلات السياسية الفلسطينية أو البناء الداخلى الفلسطينى، وأشكال النضال وآليات تنفيذ ما يتفق بشأنه، إضافة الى بيان الدور المصرى فى كل ذلك، او فى بعضه على الأقل. وكل من هذه القضايا تمس الحاضر والمستقبل الفلسطينى معا فى جوانبه المتعلقة بعلاقات الفصائل الفلسطينية بعضها ببعض، لا سيما من ينضوون تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية أو الذين يصرون على ان يبقوا خارجها.
وبالمرجعية السياسية العليا بعد تحديد مواصفاتها، والتى تقترب ـ فى طرحها النظرى الاولي ـ من فكرة تشكيل قيادة سياسية من كل الفصائل تمثل صيغة تنظيمية مرنة لمشاركة الجميع فى تحديد المستقبل الفلسطينى، وبالعلاقة الجماعية مع عملية التسوية أو المفاوضات المحتملة مع الجانب الاسرائيلى، وايضا بتنظيم الكفاح الفلسطينى سياسيا وعسكريا، وبلورة علاقة “ما” مع الدور المصري.
ووفقا لما تسرب من أروقة الاجتماعات، التى افترض انها سرية او بعيدة عن الاعلام لضمان قدر أعلى من النجاح لها، وجد فى كل هذه القضايا ما يشبه انقساما فلسطينيا رأسيا وأفقيا فى آن واحد.
ولعل تأخر الجلسة التى كان مفترضا انعقادها يوم 22 يناير الماضي بعد امتناع كل من حركتي الجهاد وحماس عن المشاركة فى الجلسة المحددة، ما يشير إلى الحرص على ان يضمن الحوار توازنا عدديا وسياسيا فى الآن نفسه. وكانت الحركتان تمسكتا بمشاركة كل الفصائل الفلسطينية بلا استثناء، لاسيما الفصائل المنضوية تحت ما يعرف بـ “تحالف القوى الفلسطينية”، الذى يضم ثمانية فصائل تميل جميعها الى استمرار المقاومة بكل اشكالها وتدعو الى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة.
ويمكن تفسير موقف الحركتين بالتمسك بمبدأ شمولية الحوار وتمثيل كل الاتجاهات من جانب، والتمسك ببلورة توازن سياسى بين المشاركين يقلل من ضغوط الاطراف المؤيدة لحركة فتح والسلطة الوطنية فى مواجهة الحركتين من جانب آخر.
توازنــات..
ولاشك ان اهم دلالة فى هذه الواقعة تكمن فى أنها تعكس قدرا مما يمكن وصفه بـ “الانقسام المتساوى عدديا والمتوازن سياسيا” بين الفصائل الفلسطينية، الامر الذى يساعد فى ترجيح التوصل الى اتفاق ذي صيغة مرنة ترضي الجميع، او تعكس حدا ادنى من نقاط الاتفاق، فى الوقت الذى يمكن لكل طرف ان يظهر وكأنه لم يتنازل عن ثوابته الرئيسية.
وفى ظل ترجيح كهذا، فإن حسم القضايا الجوهرية المشار اليها سيظل قابلا للتأجيل فترة أخرى مقبلة، خاصة فى ظل تطلع كل طرف للحصول على مقابل سياسى ومعنوى يوازن ما يراه تنازلا.
طبيعة القضايا محل الحوار نفسها وارتباطها بالتوازن العام بين الفصائل فى الساحة الفلسطينية، وبرؤية كل طرف للأداة أو الفكرة الاساسية وراء شعبيته او وجوده ودوره الذى رسمه لنفسه، وكذلك ارتباطها باتجاهات الرأى العام الفلسطينى، تجعل منها ـ اى تلك القضايا ـ مسألة ممتدة ومرشحة للاستمرار لفترة مقبلة، طالما ان التوازن على الارض لم يفرز نوعا من الهيمنة السياسية والمعنوية لطرف معين على باقى الاطراف.
فعلى سبيل المثال، وبالنسبة للرؤية السياسية، فإن موقفا معينا من تحديد طبيعة وهدف النضال الفلسطينى وربطه بحدود جغرافية معينة او سقف سياسى محدد، من شأنه ان يضرب شرعية حركات كحماس والجهاد، ويعنى ان وجهة نظر اطراف اخرى بقيادة فتح قد فرضت نفسها. والامر نفسه، ينطبق على العمليات العسكرية وتحديد اطار جغرافي لها او ربطها بتفرقة بين مدنيين وعسكريين، وكذلك بتشكيل قيادة موسعة تشترك فيها الفصائل الفلسطينية، وتؤمن نوعا من المشاركة السياسية فى تحديد مصير الشعب الفلسطينى بين كل فصائله.
وفى المقابل، فإن قبول فتح والسلطة استمرار العمليات العسكرية بالطريقة التى تطبقها حماس والجهاد، سيعني انهما انجرفتا الى طريق يتناقض كلية مع موقفهما المتعلق بالمفاوضات باعتبارها طريق الحصول على الحقوق الفلسطينية فى ظل موازين القوى السائدة.
والمتأمل لكل هذه القضايا يجد تداخلا بين بعدين يتفارقان بحكم جوهرهما. يتعلق الاول بأمور عملية. والثانى بالمبادئ الفكرية والأيديولوجية. والامور العملية تجمع فى داخلها بين جوانب شتى، منها ما يتعلق بمناشط الحياة اليومية وتنظيمها، ومنها ما يتعلق بالقدرة على ممارسة شرعية سياسية تجسد نفسها بتمثيل الشعب الفلسطينى والتفاوض نيابة عنه.
اما الشق الفكرى العقائدى السياسي، فقائم على أسس من المبادئ الجامدة التى يصعب تغييرها بين يوم وليلة. والواضح، ان الحوار حاول أن يجسد سلوكيات ـ من خلال تعهدات والتزامات طوعية ـ فى وقت تعكس فيه بعض هذه السلوكيات معتقدات فكرية وسياسية ودينية فى الآن نفسه.
ازدواجيات مركبة ..
ومن جانب ثان، فإن مسألة مثل تشكيل قيادة موسعة تطرح تساؤلات كثيرة تمس شرعية مؤسسات طالما جسدت نضال الشعب الفلسطينى لمرحلة طويلة، وفى الوقت نفسه، تكشف تعقيدات العلاقة بين ثلاثة مكونات فلسطينية مؤسسية وغير مؤسسية وهى:
ـ منظمة التحرير الفلسطينية التى لا تضم فصائل مهمة لها ثقلها فى الشارع الفلسطينيى، ومن ثم فإن قدرتها على الادعاء بالتعبير المؤسسى عن كل نضال الشعب الفلسطينى لم تعد مؤمنة بعد. ويأتى موقف كل من حماس والجهاد الرافض الانضمام للمنظمة، لما اقدمت عليه من تغيير ميثاقها وبما يؤمن الاعتراف بالكيان العبرى، ليجسد معضلة بناء مؤسسة نضالية فلسطينية جامعة خير تجسيد.
ـ السلطة الوطنية الفلسطينية، والتى يفترض انها تمثل الشعب الفلسطينى على الساحةالدولىة، وتدير شؤون حياته اليومية، وتتابع نضالا سياسيا تفاوضيا على خلفية المواقف التى صاغتها منظمة التحرير الفلسطينية. وهنا، فإن السلطة نفسها، ورغم مساندة فتح لها بانتشارها الفلسطينى الواسع، تبدو فى مواجهة معضلة شبيهة بتلك التى تواجهها منظمة التحرير، فى الوقت الذى ينتظر منها ان تقدم الامن ومستلزمات الحياة لكل ابناء الشعب دون استثناء.
ـ الفصائل العقيدية كحماس والجهاد على الجانب الاسلامى وبعض الفصائل المنضوية تحت لواء تحالف القوى الفلسطينية كالصاعقة وجبهة النضال الشعبى وجبهة التحرير الفلسطينية والحزب الشيوعى الثورى على الجانب العلمانى القومى، وان مارست سلطة على اعضائها انطلاقا من قناعاتها الفكرية والسياسية، والتى تتصادم مع منطلقات منظمة التحرير وسياسات السلطة الوطنية الفلسطينية، فإنها بذلك تمارس سلطة بديلة مهما انكرت ذلك.
هذه الانشقاقات تعنى حالة إزدواجية مركبة ومعقدة فى الآن نفسه، وتعنى ان الساحة الفلسطينية فى حالة تشرذم واقعى، بل وفى حالة تقاطع مع تدخلات عربية وغير عربية لا تتوافق مع بعضها البعض، بل تصل فى بعض الاحيان الى درجة التصادم والتناقض الصريح.
وفى حال كهذا، فإن قدرة طرف معين على الاستمرار فى ممارسة سلطته المعنوية ومهما اتفقت جزئيا او كليا مع قناعات وسلوكيات فصيل اخر، تعنى انه لا يوجد الاطار الجامع الذى يحمي نضال الشعب الفلسطيني ويمارسه بطريقة تؤمن قدرا من الفاعلية والانجاز الملموس، فضلا عن أن أيا من هذه الفصائل لا يمكنه الادعاء انه يقدم البديل السياسى والعملى الذى تجتمع حوله الغالبية العظمى من الفلسطينيين.
ومع غياب البديل الجامع، تظل هناك مشكلة، او لنُقٌـل معضلة البديل القيادى القادر على ان يجمع حوله الفلسطينيين ليقود نضالهم بأشكاله المختلفة.
نحو قيادة مشتركة
وفى إطار معقد ومتشابك كهذا، فإن مسعى بناء قيادة مشتركة موسعة يمكن ان يقدم البديل المؤسسى لاكثر من مشكلة عملية تفرض نفسها على الارض. فمن جانب يمكن ان تؤمن هذه القيادة بديلا مؤسسيا مرنا لاخفاق كل من منظمة التحرير والسلطة الوطنية معا، وايضا للصعوبات التى تواجهها حركات كحماس والجهاد وغيرهما. كما يمكنها ان توفر آلية سياسية لقيادة الشعب الفلسطينى فى مرحلة مقبلة لا محالة، يمكن وصفها ما بعد الرئيس عرفات، ومن خلالها يمكن توفير شرعية للقيادة الجديدة التى سُيفرض عليها مواجهة استحقاقات والتزامات غاية فى الصعوبة.
ولعل اهمية مثل هذه الالية تكمن فى امرين. اولهما، وفى حال تشكيل قيادة بمشاركة كل الفصائل الفلسطينية ستوفر شرعية فلسطينية عامة يصعب توافرها لاى قيادة سيقودها مصيرها لتحل محل الرئيس عرفات إذا ما استمرت الاوضاع على ما هى عليه. وثانيهما، ان هذه القيادة ستحل معضلة غياب الوريث الدستورى، ومعضلة انعدام آليات تجنيد القيادات التاريخية لمن يأتى بعدها من أجيال جديدة.
المشكلة الكبرى ان عدم توصل الحوار الفلسطيني الى نتائج محددة يعنى ان يظل الوضع الفلسطينى مشرذما ومنقسما على نفسه فى وقت تفرض فيه التطورات سواء داخل اسرائيل ممثلة فى اكتساح اليمين انتخابات الكنيست السادس عشر، وفى المنطقة ككل ممثلة فى حرب مدمرة قد تقودها الولايات المتحدة ضد العراق، مواجهة مخاطر لا حدود لها، بما فى ذلك تغييب القضية الفلسطينية لمرحلة طويلة جدا.
فهل سيدرك المتحاورون الفلسطينيون طبيعة تلك المخاطر ام سيكتفى كل فصيل بالعزف السياسى والعسكرى منفردا؟
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.