اليمن .. وسقف الحريات!
صيف يمني ساخن. هكذا وصف البعض فصل الصيف الجاري الذي تزامن مع حملة إعتقالات واستجوابات غير مسبوقة لعدد من الصحافيين. لكن سخونة الحدث تثير العديد من التساؤلات التي ُتنذر بتجمع السحب الباردة في سماء حريات اليمن.
كان الخبر قصيرا. قرر اتحاد الصحافيين العرب “تعليق” اجتماعه السنوي المزمع عقده في صنعاء في شهر أكتوبر/ تشرين الأول. وبرر خطوته بأنها جاءت بسبب “الملاحقات القضائية والحكومية والانتهاكات الخطيرة في حق عدد من الصحافيين اليمنيين، والتضييق الذي تتعرض له حرية الصحافة في اليمن”.
وَرد الخبر في مقال نُشر في صحيفة الحياة في الثامن عشر من شهر يوليو/ تموز. وبعد ثلاثة أيام أعلنت “مصادر إعلامية” يمنية أن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح “اصدر أوامره بإيقاف الإجراءات القضائية التي تم اتخاذها في الأسابيع الماضية” ضد عدد من الصحافيين اليمنيين.
خرج عن نطاق السيطرة..
هل كان قرار الرئيس نتيجةً لإعلان اتحاد الصحافيين العرب؟ المسئولون اليمنيون ينفون ذلك بالتأكيد. جاء القرار، هكذا يصرون، بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتولي الرئيس السلطة. ثم أن الخبر في حد ذاته غير دقيق. فاتحاد الصحافيين العرب “لازال يفكر في قراره ولم يتخذ موقفا بعد” على حد تعبير السيد محمد شاهر وكيل وزارة الأعلام لقطاع الصحافة اليمني.
وهذا صحيح. فقد أكدت مصادر مقربة للاتحاد أن الجدل لا زال دائرا حول مكان الاجتماع حيث تتذبذب المواقف بين إقامته في صنعاء أو في القاهرة. لكن أسباب ذلك الجدل تتصل مباشرة بما يحدث في العربية السعيدة.
وبغض النظر عن مبررات قرار الرئيس، فإن الواضح أن هناك إحساسا لدى الدوائر الصحفية اليمنية والمنظمات الحقوقية من أن ما يحدث في اليمن قد بدأ يخرج عن نطاق السيطرة وينعكس سلبا على صورته في الخارج.
ولهذا لم يكن مستغربا أن يبعث نقيب الصحافيين اليمنيين ونائب رئيس اتحاد الصحافيين العرب محبوب علي برسالة إلى الرئيس اليمني يحذره فيها من أن ما يجري سيُستغل لإظهار النظام السياسي “على أنه ضد حرية الصحافة والديمقراطية”.
حملة إعتقالات صحفية …
ولم يكن في تحذيره مبالغة. فالحقائق تتحدث عن نفسها بوضوح لا لبس فيه. كان ملفتا في الآونة الأخيرة بروز موجة من الإعتقالات والاستجوابات شملت مجموعتين من الصحافيين اليمنيين. الأولى تضم بعض العاملين في صحف يمنية ممن سجنوا أو اعتقلوا بسبب أراءهم المنشورة أو بسبب إشكاليات تتعلق بإجراءات تجديد رخصة النشر. أما الثانية فتتعلق باستجواب مجموعة من مراسلي صحف ووكالات أجنبية إما للمطالبة بالكشف عن مصادر معلوماتها أو بسبب نشر أخبار اعتبرتها السلطات “تمس الأمن القومي”.
كيف يمكن تفسير هذه الموجة؟ لا تعتبر وجهة النظر الرسمية أن هناك تراجعا في حرية الصحافة المعمول بها في اليمن. حيث يؤكد السيد شاهر، وكيل وزارة الأعلام اليمني، أن ما يحدث “إنما يتم في سياق القانون العام”، فالإجراءات التي اتخذت ضد الصحافيين إنما جاءت “تطبيقا لقانون الصحافة أو المطبوعات، ولم تكن إجراءات طارئة أو إجراءات احترازية”. بعضها تم رفعه من قبل وزارة الأعلام إلى القضاء للفصل فيها، “وهو سلوك حضاري” على حد تعبيره، وبعضها الأخر تم رفعه من أشخاص وأفراد تضرروا من معلومات صحفية منشورة.
بطبيعة الحال، مادام الأمر فيه تطبيق لبنود القانون، لا خرقا له، يبدو من المستغرب أن يصدر الرئيس صالح توجيهه الداعي إلى إيقاف تلك الإجراءات. لكن السيد شاهر لا يرى “أي تناقض في الموضوع”. فتوجيهات الرئيس تتعلق ب”القضايا المرفوعة من النيابة”، وهذه “مكرمة رئاسية” بسبب ذكرى ال17 من يوليو. وفي نفس الوقت، يردف قائلا، “جاءت توجيهات الأخ الرئيس للصحافيين بالالتزام بالثوابت الوطنية بقانون الصحافة ولوائحه التنفيذية”.
الحملة الدولية ضد الإرهاب.. والصحافة اليمنية
حتى نضع الأمور في نصابها، لا بد من التنويه أن حرية الصحافة المعمول بها في اليمن ومساحة حرية التعبير المتاحة فيها تفوق بكثير ما هو متاح ليس في دول الخليج فحسب بل في معظم الدول العربية. لكن الملاحظ أن هناك اتجاها متزايداً لوضع سقف للحريات وتحديد خطوط حمراء لنوعية القضايا التي يمكن طرحها على الساحة الصحفية.
بدأ هذا الاتجاه إثر الحرب الأهلية اليمنية عام 1994 عندما بدأت السلطات الرسمية تتعامل بحساسية مع كل نقدٍ يتعلق بأوضاع المناطق الجنوبية، وأصبح النقد “مسا بالوحدة الوطنية”. لكنه ظهر ملموسا إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبدء الحملة الدولية ضد الإرهاب، ومشاركة اليمن بفعالية في تدابير ملاحقة عناصر تنظيم القاعدة وأنصاره.
” تم استدعاء المراسلين، وأنا أحدهم، إلى وزارة الأعلام وأبُلغنا إنذارات أخيرة بعدم التعامل مع أخبار معينة وبالذات ما يتعلق منها بالحرب ضد الإرهاب (…) هناك جملة من الإجراءات، بل كان ابلغها احتجاز واعتقال صحفي لمدة شهرين وأخر لمدة تزيد على الأسبوعين”، يشرح السيد محمد الغباري الصحفي اليمني ومدير مكتب البيان الإماراتية في صنعاء.
على نفس الصعيد، فإن الدفع الرسمي بأن ما يحدث “يتم في سياق القانون” لا يبدو مقنعا. فقد كان ملفتا في جلسة محاكمة صحفيين يمنيين خلال الأسبوع الجاري، كما يشرح السيد الغباري، أن المحكمة “طلبت منهم تعهدات خطية بموجب توجهات سياسية بعدم العودة للكتابة في قضايا معينة”. لم تطلب منهم الإلتزام بالقانون.
ولا يبدو غريبا أن يتبلور هذا الاتجاه المتصاعد بجلاء إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية. فمع ُحمى تدابير الحملة الدولية ضد الإرهاب ساد مناخ اصبح المعيار فيه أمنياً، وأدى إلى ارتخاء كبير في الالتزام بمعايير حقوق الإنسان على المستوى الدولي. وعلى حين يؤكد السيد شاهر أن اليمن لم تتأثر بذلك المناخ إطلاقا، إلا أن الشواهد تؤكد أن ظلالا كئيبة بدأت تحوم على وضع حرية الصحافة اليمنية.
إلهام مانع
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.