“اليمين المسيحي” .. لاعب سياسي أمريكي بارز!
على مدى الأيام الأربعة التي يستغرقها المؤتمر القومي للحزب الجمهوري في نيويورك، سيسعى زعماء الحزب لحشد مزيد من الأصوات لترجيح كفة الرئيس بوش في انتخابات الرئاسة القادمة.
وتظهر أحدث استطلاعات الرأي العام الأمريكي تفوّق الرئيس بوش بنسبة 49% بالمقارنة مع 46% لصالح المرشح الديمقراطي جون كيري.
يؤكد الدكتور ستيفن زونس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سان فرانسيسكو أن الجمهوريين سيحاولون استمالة اليمين المسيحي الأمريكي لانتخاب الرئيس بوش بعد أن نجحت ظاهرة استغلال الدين في انتخابات الرئاسة الأمريكية منذ أواخر السبعينات من القرن العشرين، عندما أدركت مجموعة من المحافظين من زعماء الحزب أن الناخبين الأمريكيين يربطون بين الحزب الجمهوري وبين السياسات الخارجية التي تستند إلى النزعة العسكرية. وعلى الصعيد الاقتصادي يربط الناخبون الأمريكيون بين الحزب الجمهوري وبين السياسات الاقتصادية التي تعمل لصالح طبقة الأثرياء في أمريكا.
وأيقنت هذه المجموعة من المحافظين الجمهوريين أن ذلك الربط يجعل من الحزب الجمهوري حزب أقلية، وهو ما ظهر خلال العقود الخمسة التي سبقت السبعينات، حيث فاز الجمهوريون بالرئاسة أربع مرات فقط من بين اثنتي عشرة معركة لانتخابات الرئاسة الأمريكية، ولم يتحكم الجمهوريون في الكونغرس بمجلسيه إلا مرتين خلال أربع وعشرين دورة له.
ومنذ ذلك الحين، كرس المحافظون الجمهوريون جهودهم لاستمالة الناخبين الأمريكيين من الأصوليين اليمينيين المسيحيين البروتستانت، والذين أصبحوا في السنوات الأخيرة عاملا رئيسيا وراء التأييد الأمريكي لسياسات حكومة الليكود في إسرائيل.
ومن خلال تركيز المخططين الاستراتيجيين في الحزب الجمهوري على انتهاج سياسات حزبية محافظة فيما يتغلق بقضايا اجتماعية مفعمة بالمشاعر في أوساط اليمين الديني الأمريكي مثل قضايا حقوق المرأة والإجهاض والتربية الجنسية والموقف من الشواذ جنسيا تمكن مخططو الحزب الجمهوري من اكتساب أصوات ملايين من الأصوليين المسيحيين والذين لم يكونوا ليساندوا الحزب الجمهوري أصلا بحكم انخفاض مستويات دخولهم وعدم سعي الحزب لتحقيق مصالحهم.
وسرعان ما تمكن الحزب الجمهوري من خلال منظمات يمينية مسيحية مثل “الأغلبية الأخلاقية”، و”التحالف المسيحي” و”مجلس السياسة العامة” الذي يضم وزير العدل جون آشكروفت، ورموز التطرف المسيحي من أمثال جيري فولويل، وبات روبرتسون من الترويج لأجندة سياسية يمينية عن طريق شبكات الإذاعة والتليفزيون المسيحية المؤثرة وعبر منابر الوعظ في الكنائس البروتستانتية بوجه خاص.
ومن خلال استغلال الدّين، تمكّـن الحزب الجمهوري منذ السبعينات من الفوز بأربع انتخابات رئاسية من ستة سباقات للرئاسة الأمريكية وتمكن الأعضاء الجمهوريون من السيطرة على مجلس الشيوخ الأمريكي سبع دورات من اثنتي عشرة دورة، كما تحكّـم الجمهوريون في مجلس النواب الأمريكي خلال السنوات العشر الأخيرة.
دور مؤثر لليمين المسيحي
ونظرا لإدراك اليمينيين المسيحيين في أمريكا أن الحزب الجمهوري يُـكرس جهوده لاستمالتهم وكسب أصواتهم، شعروا بأنهم أصبحوا قوة مؤثرة في العملية السياسية الأمريكية بعد أن كانوا تقليديا بعيدين عن حلبة النشاط السياسي، وبالتالي، أصبحوا أكثر اهتماما من الناخبين العاديين بالمشاركة في الانتخابات لدرجة أنهم أصبحوا يشكّـلون واحدا من كل سبعة ناخبين، وأصبح بوسعهم تحديد أجندة الحزب الجمهوري في حوالي نصف عدد الولايات الأمريكية الخمسين، وخاصة في ولايات الغرب الأوسط والولايات الجنوبية.
وتقول صحيفة واشنطن بوست إنه للمرة الأولى منذ أصبح اليمين الديني المحافظ حركة سياسية معاصرة في الولايات المتحدة، تحوّل الرئيس الأمريكي إلى الزعيم الفعلي لتلك الحركة. ويدلل الكاتب الأمريكي بوب وودوورد على ذلك بقوله أن الرئيس بوش ردد عدة مرات أن “الرب دعاه ليرشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة في مهمة تدخل في نطاق الخطة الإلاهية لتصدير الموت والعنف لربوع الأرض دفاعا عن بلده العظيم وتخليصا للعالم من رموز الشر”.
ويخلص الكاتب بوب وودوورد إلى أن الرئيس بوش يعتقد بأنه قبل مسؤولية قيادة العالم الحر كجزء من خطة الرب. حيث قال لرئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل محمود عباس: “لقد أبلغني الرب بأن أهاجم القاعدة وفعلت ذلك، ثم طلب مني أن أهاجم صدام حسين ففعلت وأصبح العراق بابيلون (بابل) الجديدة”.
وقد كان الحزب الجمهوري تقليديا أكثر اعتدالا في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي بسبب الروابط بين توجهات الحزب الاقتصادية التي تميل لمصالح الأثرياء وصناعة البترول التي تسعى للإبقاء على التدفق الحر للبترول العربي وبأسعار معقولة، وكذلك لاعتقاد زعماء الحزب الجمهوري بأن إظهار قدر كبير من المساندة لإسرائيل يمكن أن يفضي إلى تحول القوميين العرب إلى التطرف الإسلامي.
غير أن ذلك التوجه تغيّـر مع تصاعد نفوذ اليمين المسيحي المحافظ داخل الحزب الجمهوري الذي أصبح أكثر تأييدا لإسرائيل، وحرص كبار المسؤولين في البيت الأبيض في عهد الرئيس بوش، ومن بينهم إيليوت إبراهامز، مدير شؤون الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي على عقد لقاءات منتظمة مع زعماء اليمين الديني المحافظ في أمريكا، وهو ما حدا بأحد زعماء الحزب الجمهوري إلى القول: “إنهم يعبّـرون عن توجهاتهم بأعلى صوت ونجحوا في تحويل مركز الثقل في سياسة الحزب نحو إسرائيل ومعارضة تقديم أي تنازلات للعرب”، مما أدى إلى تغيير واضح في سياسة الرئيس بوش وإدارته تحت وابل من رسائل البريد الإلكتروني التي تراوحت بين خمسين إلى مائة ألف رسالة احتجاج في كل مرة يحاول فيها بوش أن يكون متوازنا في الصراع العربي الإسرائيلي.
ولعل أصدق تعبير عن دور اليمين الديني المسيحي في تحول السياسة الأمريكية لمزيد من الانحياز لإسرائيل هو ما جاء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو حين قال: “ليس لدينا أصدقاء أو حلفاء أعظم من اليمينيين المسيحين الأمريكيين”.
إذا عرف السبب.. بطل العجب
ويفسر بعض المؤرخين الأمريكيين التحالف الجديد بين اليمين المسيحي الديني المحافظ وبين إسرائيل بأنه يأتي في سياق تطبيق النظرية القائلة بأنه حتى يعود المسيح إلى الأرض ليحكم العالم ويحل السلام على الأرض في ألف عام، يلزم أن تكون إسرائيل مجتمعا متجانسا من اليهود فقط بتجميعهم من أنحاء العالم على كامل أرض كنعان، (أي أرض فلسطين) قبل أن يمكن نزوله من جديد، حيث ستدور معركة أرماغيدون بين الخير والشر أو الرب والشيطان على أرض إسرائيل، وأنه إذا كانت الولايات المتحدة هي دولة المسيحيين، فإنه يتعين أن يكون لها وجود في الشرق الأوسط لملاقاة قوى الشر والشيطان. وفي هذا السياق، تصدى غلاة المتطرفين من الأصوليين المسيحيين من أمثال جيري فولويل، وبات روبرتسون لاستهداف حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على أنه سيشكل “خطر انبعاث التطرف الإسلامي ضمن قوى الشر على أرض إسرائيل” حسب رأيهم.
وسرعان ما اتخذ التأييد اليميني المسيحي لإسرائيل شكل الضغط في الكونغرس وعلى إدارة الرئيس بوش لتمرير السياسات الموالية لكل ما تريده إسرائيل والتدخل في نقاشات السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وحشد الاعتمادات اللازمة لهجرة اليهود من أوروبا الشرقية إلى إسرائيل والسعي لإعادة بناء معبد هيكل سليمان على أنقاض الحرم القدسي الشريف، وتنفيذ وعد الرب لأبناء إسرائيل بمنحهم أرض كنعان، وذلك تعجيلا لعودة المسيح.
وفي هذا السياق، ظهرت إشارات الرئيس بوش إلى الخير والشر والتي تجسّـدت في أجلى صورها في خطابه المشهور عن حالة الاتحاد الأمريكي حينما قدم للعالم تصوره الفريد لوجود محور للشر في العالم يجمع بين العراق وإيران وكوريا الشمالية. وكذلك، إشارته في أعقاب هجمات سبتمبر الإرهابية إلى بدء نضال عارم بين الخير والشر، حيث سينتصر الخير في نهاية المطاف، وهي إشارة سبق واستخدمها اليمين الديني الأمريكي على لسان الرئيس الراحل رونالد ريغان حينما وصف الولايات المتحدة بالدولة المسيحية التي تشكّـل قوى الخير في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي وصفه في الثمانينات بأنه “إمبراطورية الشر”.
ولا عجب في نزوع الرئيس بوش لاستخدام تعبيرات اليمين المسيحي الديني، حيث أنه اختار في بداية حملته الانتخابية السابقة رالف ريد، الرئيس السابق للتحالف المسيحي ليشغل منصب المخطط الاستراتيجي لسياساته.
أصوات بالغة الأهمية
وفيما واصل الرئيس بوش في حملته الانتخابية الحالية خطب ود اليمين الديني المسيحي الأمريكي، يحاول أنصاره في صفوف ذلك اليمين استغلال الدين في الترويج لإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية. فقد وقف بات روبرتسون أمام حشد كبير من اليمينيين المسيحيين في برنامجه التليفزيوني الذي يُـبث في كل الولايات الأمريكية ليقول: “لقد منح الرب بركاته لجورج بوش، وربما يكون قد ارتكب أخطاء فادحة وخرج منها سليما، ولكن ذلك لا يهم. فقد اختار الرب جورج بوش لأنه رجل يصلي للرب وباركه الرب”.
وفي أحدث دراسة أجرتها مؤسسة “بيو” لبحوث الرأي العام، تبين أن 72% من الأمريكيين يريدون أن يكون رئيس الولايات المتحدة على قدر كبير من الإيمان الديني، وأن يستعين الرئيس بذلك الإيمان كمُـرشد في رسم السياسة، غير أن الدراسة أظهرت كذلك قلق غالبية الأمريكيين من تدخل الزعماء الدينيين والكنائس الكبرى في السياسات الحزبية.
لذلك، لم يكن غريبا أن يتنافس المرشح الديمقراطي جون كيري مع الرئيس بوش في الحديث بصراحة أكبر عن إيمانه الديني وزياراته المتلاحقة لمختلف الكنائس، والحديث عن دور الرب في حياته.
وواظب كيري الذي تحوّل أبوه من الديانة اليهودية إلى المسيحية على حضور قُـداس الأحد في الكنائس الكاثوليكية بانتظام ليلحق بالشعبية التي يتمتع بها منافسه الجمهوري بوش بين المسيحيين المحافظين.
ويعلق السيد تشارلس هينيس، مدير برامج التعليم في مركز ندوات الحرية والتعديل الأول للدستور الأمريكي على هذه الظاهرة فيقول: “في عام 1960 حاول جون كينيدي أن يظهر للناخبين الأمريكيين كيف أنه ليس مغرقا في الكاثوليكية بشكل يمنعه من أن يكون رئيسا للولايات المتحدة، واليوم يحاول جون كيري أن يُـثبت للناخبين الأمريكيين أنه كاثوليكي متمرس لأن أصوات الكاثوليك في الولايات المتحدة بالغة الأهمية، حيث يشكلون ربع عدد سكان الولايات المتحدة”.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.