مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

انـتـفـاضـة مـروان

تُـشير التوقعات إلى أنه باستطاعة مروان البرغوثي اجتذاب معظم أصوات "الغالبية الصامتة" من الفلسطينيين Keystone

تطلب الأمر سنوات من التضحية والعناء والمغامرة، حتى أصبح مراون البرغوثي رمزا للانتفاضة الفلسطينية.

لكن النشط السياسي وأمين سر حركة فتح في الضفة الغربية المعتقل حاليا في إسرائيل، أطلق مؤخرا “انتفاضة جديدة” بإعلانه الترشح لانتخابات رئاسة سلطة الحكم الذاتي المقبلة.

لم يكن المشهد في فتح قد اكتمل على انسجام كبير، عندما راحت الحركة التي قادت الفلسطينيين على مدى أربعة عقود ونيف، تلملم نفسها للنهوض بعد رحيل مؤسسها وزعيمها الراحل ياسر عرفات.

كان الأمر أشبه بخروج على كل الاحتمالات الفظة والقاسية، إذ تمكّـنت القيادة الفلسطينية من ترتيب البيت، وإظهار حضور مُـتماسك لا يشي إلا بحسن أداء وقدرة أكبر على تجنّـب صراعات الفوز بالسلطة.

وإذا أدرك الجميع أن الأمر يستتِـبّ، وأن الحركة تتّـجه نحو مرحلة جديدة مُـفعمة بالأمل وخالية من الاضطرابات، كانت ثمة انتفاضة أخرى من نوع آخر وعيار ثقيل تتشكّـل في زنزانة مروان البرغوثي القابع في سجن إسرائيلي تحت وطأة خمسة أحكام بالسجن المؤبّـد.

ويبدو أن سرعة تحرّك الحرس القديم في اللّـجنة المركزية لحركة فتح نحو اختيار محمود عباس لرئاسة منظمة التحرير، ومن ثم مرشحا للحركة إلى انتخابات رئاسة سلطة الحكم الذاتي قد أشعل أفكار البرغوثي ودفعه إلى خوض الانتخابات، حتى وإن كان الأمر بمثابة الخروج على تقاليد مترسخة داخل فتح.

لكنها ذات التقاليد التي خرج عليها مروان نفسه عندما تمكّـن قبل نحو خمسة عشر عاما من دخول المجلس الثوري وهو في الثلاثين من عمره، ليخطو بذلك أول خطوة كبيرة في ساحة فتح الهائلة والهلامية.

إنها ذات الأعراف التي ضرب بها مروان عرض الحائط عندما قرّر بعد منتصف التسعينيات تحدّي الحرس القديم والتجرّؤ على مؤسسات فتح وإجراء انتخابات، كانت هي الأولى التي تشهدها فتح على أرض الوطن المحتل، الذي كان تسربل للتو بدرع سلطة الحكم الذاتي تحت راية ياسر عرفات.

وكأنت أصول الانتفاضة تتغذى في روح مروان المبادر والخارج عن التقليد دوما، والذي غامر بكل شيء باحتضانه الانتفاضة التي انطلقت في سبتمبر عام 2000، مؤرخا لمرحلة جديدة من عمر الصراع مع إسرائيل، وراسما صفحة أخرى في تحدّيه للواقع.

لكنها فتح القادرة على التجدّد والتمرّد والصّـعود والهبوط والتنقّـل بين اليسار واليمين والوسط، فتح التناقضات التي باتت أيضا أقوى حركة على الساحة الفلسطينية تضُـج بمصالح شتّـى، وتتحرّك وفق غايات قوى ونفوذ.

الامتياز

ربما شكّـل وجود مروان البرغوثي في المعتقل أهم امتياز في مسألة الخروج على التقاليد، والبقاء في ذات الوقت داخل حِـصن محمي، إذ لم يكن بإمكان شخصية نضالية أخرى أن تصل إلى مثل هذه الدرجة من التجرّؤ على قيادة الحركة المتنفّـذة.

لا يتطلب تحليل المسألة تفكيرا وتمحيصا، فهو يُـدرك أن أحكام السجن المؤبّـدة التي خلعتها عليه محاكم الاحتلال الإسرائيلية ستقف في حلق كل من سيذهب إلى صندوق الاقتراع ليسمع (عندما يقرأ اسم مروان على قائمة مرشحي الرئاسة) صدى مقاومة الاحتلال.

ولم يكن غريبا أن يُـرفق مروان في بيان إعلان ترشحه للانتخابات تأكيدا على أنه، إنما يفعل ذلك من أجل حماية تراث المقاومة والانتفاضة، وتراث الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي قضى مُـحاصرا رافضا الاستسلام.

ولعلّـه يزيد على ذلك، عندما يكتب أن في دوافع خوضه انتخابات الرئاسة أسباب أخرى لانتفاضة جديدة، انتفاضة ديمقراطية وإصلاح حقيقي وانتفاضة حقوق متساوية لجميع الفلسطينيين، ودعوة جديدة خارجة عن التقليد والمألوف، دعوة لإشراك شرائح جديدة في صُـنع القرار السياسي.

ثمّـة امتيازات أخرى تحمل البرغوثي إلى مثل هذا التحدّي، ليس أقلها قُـدرته على الحصول على أصوات جمهور المعارضة الإسلامية التي تحمل له جميل انتشالها من الغرق عشية الانتفاضة الحالية، وضمّـها إلى قياداتها الشعبية.

وفيها أيضا، أنه ظل دوما بعيدا عن تلك المجموعة التي حملت وِزر الفساد في صفوف السلطة الفلسطينية بالتحديد، وفي حركة فتح بشكل عام، والتي تخشى الآن أن تتسبّـب تلك السيرة في قيام الجمهور العام برَميِـها بجمرات العقاب خلال التصويت القادم.

عندما أقدم مروان على إطلاق انتفاضته الأولى، كان يعلم أنه يفعلها بمباركة (ولو ضمنية) من الزعيم الراحل ياسر عرفات، وهو يعلم علم اليقين اليوم أنه يُـطلق انتفاضته الجديدة ولا أحد في القيادة الفلسطينية، يملك الحق في إسباغ أي إذن أو مباركة، مثلما كان يليق بالزعيم الراحل.

لذلك كله، كان الردّ الرسمي لفتح على مراون بهذه الدرجة من القسوة والقوة، وهي تعلم أن هذا الفلسطيني القابع في زنزانة سجن إسرائيلي يُـدرك تماما أنه قادر على تجاوز كل الأسباب للعُـدول عن رأيه.

الاحتمالات

بالرغم من أن ظروف ترشح البرغوثي مرّت في مرحلتين، إعلان تراجع، ثم إعلان تأكيد ترشح، مما أشاع جوّا من الرّيبة والشك، وحمل خصومه على شن حملة قوية ضده، إلا أن استطلاعات الرأي المحلية التي أجريت في ذات الفترة، أظهرته ندا قويا لمرشح فتح الرسمي محمود عباس (أبو مازن)

وتُـشير التوقعات أن باستطاعة البرغوثي جذب معظم أصوات “الذين ليس لهم أصوات” أو ما يصطلح عليه باسم الغالبية الصامتة خلال السنوات الأخيرة، وهي نسبة كانت تصل دوما إلى قرابة الـ 45% من المستطلعين في مسوحات الرأي.

ولن يجد البرغوثي صعوبة أيضا في الحصول على تأييد شريحة الشباب، التي بالكاد تعرف قيادة فتح الحالية، وهي شريحة كبيرة بين أصوات المسجلين للاقتراع، إذ بلغت نسبة من هم بين السابعة عشرة والثلاثين من العمر نحو 46% من الذين قيّـدوا أسماءهم في سجل الناخبين تمهيدا ليوم الاقتراع.

ثمّـة واقع جديد أخذ في التبلور داخل الأراضي الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، واقع يُـدرك أن غياب عرفات يمنحه الفرصة للخروج عن المألوف، ويُـعطيه القدرة على الحلم بلا خجل أو ورع أو تحيّـز.

لم يعد هناك قائد رمز، ولا قِـبلة سياسية واحدة ينبغي التوجّـه نحوها فقط، ولم يعد ممكنا ربط المصير بشعارات تُـظلل الجميع وتدفعهم إلى حماتها بصدور عارية، إذ دقت لحظة الواقعية وأزفت ساعة الاختبار الحقيقي.

ربما كان مراون يقرأ كل ذلك من زنزانته في سجن بئر السبع الصحرواي، وربما أيضا كان الحرس القديم المُـتمركز في مدينة رام الله الجبلية يعرف ذلك ويُـدركه، وقرّر أن يرد على الانتفاضة الجديدة، لتكون انتفاضة الفلسطينيين على أنفسهم.

هشام عبد الله – رام الله

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية