بداية التذمـر الداخلي من المأزق في العراق
رغم حملة العلاقات العامة لإدارة الرئيس بوش للتغطية على الفشل الأمريكي في العراق، بدأت الأصوات تتعالى في الأوساط الشعبية وبين المشرعين الأمريكيين للنظر في سياسات بديلة تُـخرج أمريكا من مأزقها الراهن في العراق.
ذلك أن واقع الحال، مهما تجاهلته وسائل الإعلام الأمريكية، لم يعد خافيا على أحد.
مع زيادة عدد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق عن 1700 قتيل ووقوع عشرات الآلاف من المصابين، ومع إخفاق الآلة العسكرية الأمريكية في كبح جماح العنف الذي تفاقم معه الوضع الأمني في العراق، تهاوت الصورة الوردية التي رسمها الرئيس بوش ونائبه تشيني لمستقبل الوضع في العراق، وهي صورة أوهمت الشعب والكونغرس الأمريكي أنه بمجرد انتخاب حكومة عراقية وتزايد عدد قوات الأمن العراقية المدربة، سيُـمكن للولايات المتحدة أن تسند مهام الحفاظ على الأمن للعراقيين، ويبدأ السحب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق الذي سيُـصبح دولة ديمقراطية بعد صياغة دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات عامة تكون “نموذجا للممارسة الديمقراطية في الشرق الأوسط”.
لكن واقع الحال، مهما تجاهلته وسائل الإعلام الأمريكية، لم يعد خافيا على أحد. فالمقاومة العراقية أو المتمردين، كما تسميهم الولايات المتحدة، كثفوا من عملياتهم وأشاعوا جوا من الفوضى تزايدت معه الخسائر اليومية بين القوات الأمريكية، والشارع العراقي لم ينعم بالاستقرار، رغم مرور أكثر من عامين على احتلال بغداد والأراضي العراقية، أما نسيج الحياة السياسية في عراق ما بعد الحرب فهو يبدو مهلهلا وأقرب إلى التشظي الطائفي والعرقي منه إلى الوحدة الوطنية.
لذلك، لم يكن غريبا أن يعود السناتور الديمقراطي جون بايدن، العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ من جولة في العراق ليقول في واشنطن: “لم أجد أحدا في العراق يُـساند ما يتم الترويج له من أن المتمردين أصبحوا فلولا هاربة، وأن القوات الأمريكية تقترب من القضاء عليهم”.
كما صرح النائب الجمهوري كيرت ويلدون، الذي رافق بايدن في جولته بالعراق بأن وزير الدفاع الأمريكي رامسفلد وغيره في الإدارة الأمريكية “يُـضللون الشعب الأمريكي حول عدد قوات الأمن العراقية المدربة”، وحذر ويلدون الرئيس بوش من إيهام الشعب الأمريكي بصورة وردية لن يمكن تحقيقها في القريب العاجل، وحتى القادة العسكريون الأمريكيون في العراق أبلغوا أعضاء الكونغرس عند زيارتهم لبغداد بأن الوجود العسكري الأمريكي المكثف في العراق “سيستمر على الأقل لمدة عامين قبل أن يمكن نقل مهمة الحفاظ على الأمن للعراقيين”.
تآكل المساندة الشعبية
ويرى الدكتور منذر سليمان، خبير الدراسات الإستراتيجية أن تصاعد أصوات الانتقاد لمحاولات إدارة الرئيس بوش التغطية على فشل سياستها في العراق بحملة نشطة للفوز بحرب العلاقات العامة، وتصاعد الرفض الشعبي الأمريكي لبقاء الحال في العراق على ما هو عليه، وإعادة تنظيم صفوف التيار الشعبي المناهض للمغامرة العسكرية الأمريكية في العراق، والكشف عن وثيقة بريطانية تُـظهر أن بوش اتخذ قرار الحرب قبل ثمانية أشهر من إعلانه وقبل تمثيلية اللجوء لمجلس الأمن، وأن الجيش الأمريكي لم يستعد بشكل كاف لما وصفته الوثيقة باحتلال مطول ومكلف بعد الحرب، كلها عناصر أسهمت في تآكل المساندة الشعبية للحرب الأمريكية في العراق.
وقال الدكتور منذر سليمان لسويس إنفو: “تُـظهر أحدث استطلاعات الرأي العام الأمريكي أن حوالي ثلاثة أرباع الأمريكيين يعتقدون أنه لم يعد مقبولا أن تتكبّـد القوات الأمريكية مثل هذا الحجم من الخسائر في العراق، فيما عبّـرت نسبة بلغت 60% من الأمريكيين عن اقتناعهم بأن الحرب على العراق لا تستحق خوضها أصلا، وأكدت نسبة 52% أن شن تلك الحرب لم يجعل أمريكا أكثر أمنا كما روج لذلك المحافظون الجدد”.
وتوقع الدكتور سليمان أن يتزايد الرفض الشعبي الأمريكي لاستمرار المغامرة العسكرية في العراق التي وصلت تكاليفها إلى أكثر من ثلاثمائة ألف مليون دولار، ودلل على ذلك بمطالبة النائب الجمهوري والتر جونز بتحديد مُـهلة زمنية يتم خلالها سحب القوات الأمريكية من العراق، واعتزامه تقديم مشروع قانون يحدد جدولا زمنيا للانسحاب، واستشهد بتصريح للسناتور الجمهوري ليندسي غراهام، عضو لجنة القوات المسلحة قال فيه: “إن مرارة الحرب في العراق تزداد في أفواه آباء وأجداد الجنود الذين يخدمون في العراق، وإذا لم نتكيّـف، فإن الرأي العام الأمريكي سينصرف عنا”.
ونبه الدكتور منذر سليمان إلى حقيقة أن انحسار التأييد الشعبي الأمريكي للحرب في العراق وتصاعد عدد القتلى والجرحى بين الجنود الأمريكيين هناك أدّى كذلك إلى انخفاض نسبة الراغبين في الانضمام للجيش الأمريكي بنسبة 50% الأمر الذي حدا ببعض أعضاء الكونغرس إلى طرح مشروع لإعادة التجنيد في القوات المسلحة الأمريكية، وهو ما وصفه المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي برنت سكوكروفت بأنه “سيلقى معارضة شعبية، ولن يكون قرارا يحظى بالشعبية، ولكنه قد يكون ضروريا”.
وبلغ التململ من المأزق الأمريكي في العراق الحد الذي دفع جنودا أمريكيين مسلمين إلى رفض أوامر بتفتيش بعض المساجد في العراق، فيما رفض البعض الآخر أوامر بتفتيش منازل بعض العراقيين.
وشهد شاهد من أهلها
ومع أن أخطاء الاحتلال الأمريكي للعراق أصبحت معروفة، إلا أن عواقبها ومضاعفاتها تزداد يوما بعد يوم، كما يؤكّـد لاري دياموند، المستشار السابق لسلطة الائتلاف المؤقتة التي أدارت العراق بعد سقوط بغداد الذي يرى أن أبرز تلك الأخطاء كان عدم التزام بوش بتوفير الحجم اللازم من القوات الأمريكية لمهام حفظ النظام بعد الحرب، والتي قدّرها رئيس الأركان الأمريكية في عام 2003 بعدة مئات الآلاف من الجنود، وهو ما رفضه رامسفلد وبدلا من الاستماع إلى النصيحة، استبدل رئيس الأركان.
أما الخطأ الثاني فكان نوع القوات اللازمة لحفظ النظام في عراق ما بعد الحرب. فقوات الاقتحام ومُـشاة البحرية ورجال المدفعية وأطقم الدبابات ليسوا مدربين على المهام الأمنية اللازمة لحفظ النظام وتوفير الأمن، ولم يكونوا مزوّدين بأجهزة الرصد اللازمة لضبط المتسلّـلين من الحدود مع سوريا وإيران.
وعدّد المسؤول الأمريكي السابق في العراق أخطاء إدارة الرئيس بوش في التعامل مع عراق ما بعد الحرب فقال إنها تشمل:
– استبعاد الخبراء في الشؤون العراقية الذين أعدّتهم وزارة الخارجية الأمريكية للمساعدة في توجيه دفّـة كافة الشؤون العراقية بعد الحرب، وكانوا معدين للتعامل مع أسوأ السيناريوهات والمشاكل المتوقعة في عراق ما بعد الحرب في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والتدريب والأمن وغيرها، واستبدالهم بمجموعة صغيرة من موظفي وزارة الدفاع الأمريكية الذين توقّـعوا أن يتم استقبال القوات الأمريكية بالورود والزهور.
– انهيار الوضع الأمني ووقوف القوات الأمريكية موقف المتفرج في الأسابيع الأولى، مما عرّض الممتلكات والمرافق الحيوية للنهب والسلب والتخريب المنظم، فيما تعثرت جهود إعادة بناء ما خرّبته الحرب وافتقر المواطن العراقي إلى الشعور بالأمن أو الحصول على فُـرص عمل أو التمتّـع بحياة أفضل، مما خلق مُـناخا مواتيا لتأييد عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي.
الأخطاء الإسراتيجية
من جانبه، يضيف أنتوني كوردسمان، الخبير بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن قائمة أطول من الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها إدارة الرئيس بوش وأسهمت فيما وصل إليه المأزق الأمريكي الحالي في العراق، وهي تشمل:
– الفشل في تقييم الشعور الوطني العراقي ومستويات الاختلاف الثقافي داخل نسيج المجتمع العراقي، وكذلك المغالاة في تقدير عائدات البترول العراقية.
– الفشل في إقناع الشعب العراقي بأن القوات الأمريكية جاءت للتحرير ومساندة قيام نظام حكم ديمقراطي في العراق، وليس للبقاء والاحتلال واستغلال ثروات العراق البترولية.
– الفشل في توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة لعملية إعادة بناء الدولة العراقية وتوفير الاستقرار.
– الفشل في توقّـع انهيار مؤسسات الدولة العراقية بعد الحرب، وبالتالي عدم التخطيط لإعادة بناء القوات المسلحة العراقية ومؤسسات حفظ الأمن والنظام.
– المغالاة في الاعتماد على العراقيين المنفيين في الخارج، الذين يفتقرون إلى المصداقية أو التأثير في الداخل العراقي.
– الإخفاق في توقع الطموحات لدى المواطن العراقي بعد الحرب وعدم الاتّـسام بالواقعية إزاء المشاعر المعادية لوجود القوات الأمريكية كقوة احتلال.
– الإخفاق في توقّـع حركة المقاومة والتمرّد في الشارع العراقي والافتقار إلى نشر القوات المؤهّـلة للتعامل مع هذا السيناريو.
وفي هذا السياق، يتوقع الدكتور منذر سليمان، خبير الدراسات الإستراتيجية أن يؤدي التململ المتصاعد من إخفاق السياسة الأمريكية في العراق إلى الضغط على إدارة الرئيس بوش لوضع خُـطط بديلة لسياساتها الراهنة في العراق مثل إستراتيجية للخروج دون جدول زمني محدد تعتمد على إعادة نشر القوات الأمريكية خارج المُـدن والتجمعات السكانية العراقية تجنّـبا لاستهداف تلك القوات من قوى المقاومة العراقية، ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام تلك المقاومة، بالإعلان في وقت مناسب عن أن القوات الأمريكية ودول التحالف قد تمكّـنت من تدريب عدد كاف من قوات الأمن العراقية يسمح بالبدء في تخفيض عدد القوات الأمريكية في العراق، لكنه أعرب عن اعتقاده بأن فرص نجاح مثل تلك الإستراتيجية ستتوقف أساسا على مدى استعداد إدارة الرئيس بوش لإظهار التزامها بجدول زمني واضح للخروج من العراق، حتى لا يكون هناك مبرر على أرض الواقع لحصول المقاومة على تأييد شعبي عراقي.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.