بعد خمس سنوات من الاحتلال: ماذا بقي من العراق؟
قبل يوم واحد من انتهاء السنوات الخمس الأولى على احتلال العراق، عُقد مؤتمر المُـصالحة الوطنية العراقية الثاني، برعاية حكومة المالكي، وفي غياب عدد من أبرز رموز القِـوى السياسية من السُـنة والشيعة معا، كجبهة التوافق والقائمة العراقية والتيار الصدري وجبهة الحوار.
ناهيك عن البعثيين الذين اعتبر رئيس الوزراء المالكي أنه لا يجوز الحوار معهم بحكم الدستور، ناهيك بالطبع عن غِـياب جماعات المسلحين، الذين يتوزعون على عدّة جبهات، بين مقاومة مشروعة ومافيات إجرامية وتنظيمات محسوبة على القاعدة.
وما بين عقد المؤتمر للمرة الثانية، بعد أكثر من عام على عقد النسخة الأولى منه، وغياب قوى سياسية رئيسية لها حضورها في الشارع السياسي، تبرز مِـحنة العراق بعد خمس سنوات من الاحتلال، وهي محنة مركّـبة ومتشابكة الأبعاد، غِـياب المصالحة الشاملة عنها لا يمثل سوى جزء ضئيل في عموم الصورة العراقية، ولكنه جزء حاكم باعتبار أن البحث عن المصالحة يعني غيابها، ويعني أيضا أن العراق لا زال يبحث عن نفسه وعن هويته وعن استقراره وعن تماسكه، ويبحث عن نظام يلم شمل الجميع ولا يفرّق بينهم لأسباب طائفية أو سياسية أو لميراث تاريخي بعيد.
غياب المصالحة يفسِّـر كثيرا من الأوضاع العراقية، أمنيا وسياسيا واقتصاديا وتشريعيا، من قبيل ضُـعف مردود ما يُـعرف بالعملية السياسية التي هدفت إلى بناء عراق جديد وِفقا لمقولات وآليات ديمقراطية وتعدّدية، كما يفسِّـر أيضا لماذا يتعيّـن على العراق بكل فئاته وقِـواه السياسية أن يغير إستراتيجيته، إن كان راغبا بالفعل في إعادة بناء عراق متجانس ومستقر وآمن ومتطلع إلى مستقبل مزدهر.
وإن لم يحدث ذلك التوافق العراقي العام، فالأرجح أن مِـحنة العراق ستطول حتى ولو خرج الأمريكيون بأي صورة كانت، مهَـرولين أو مبرمجين.
“طائفية بغيضة”
يقول الغائبون عن مؤتمر المصالحة إنه صوري وأن المسحة الطائفية لحكومة المالكي لم تتغير من حيث الجوهر، حتى وإن اختلف أسلوب التعامل على الأقل فى العام الماضي، وهنا يبرز جانب آخر من محنة العراق تحت الاحتلال، وهو أنه أصبح عراقا طائفيا يميِّـز بين أبنائه، في زمن يريد أن يتجاوز حالات التمييز، دينيا أو عرقيا أو حتى بين الرجل والمرآة.
هذه الطائفية تميِّـز وللأسف عمل المؤسسات الأمنية وبعض الأحزاب الكبرى المُـهيمنة على الحكومة، كما تميّـز بين المتقدّمين للوظائف في الجهات الحكومية، والأنكى أنها تميّـز بين الأحياء السكنية وبين دور العبادة وبين الذين يرتادونها.
فدرالية تبيح التقسيم
وبالقطع، فإن هذه النتيجة تعني أن هدف نشر الديمقراطية الذي تحجّـج به الأمريكيون في غزوهم واحتلالهم للعراق، وجعله بلدا نموذجا يُـحتذى به في المنطقة العربية والإسلامية، لا يعتد به، بل صار عِـبءً على السياسة الأمريكية ذاتها، التي تعد مسؤولة بالكامل عمّـا وصل إليه العراق بعد خمس سنوات من احتلاله عسكريا.
غياب المصالحة والنزعة الطائفية وسعي فئات بعينها لإقرار نظام فدرالي، يتيح ما يشبه قيام الأقاليم المستقلة في كل شيء مع مركز ضعيف، يُـشير إلى أن العراق يتّـجه إلى أن يكون بلدا قابلا للتقسيم، ولو بعد حين، وهو أمر يجد مؤيِّـدين له في داخل الكونغرس الأمريكي ولدى عدد من دوائر صُـنع القرار الأمريكي، وهنا يظهر نوع من التوافق حول خريطة جيو – سياسية جديدة في المنطقة، بين طموحات وتطلعات بعض القوى السياسية الشيعية التي هيمنت على السياسة العراقية بعد الاحتلال، وبين خطط أمريكية يُنادي بها صراحة ودون أي مواراة أو تمويه.
نفوذ إيراني وقلق عربي
وبالرغم من أن العراق هو تحت الاحتلال الأمريكي من جهة، وهناك صراع مفتوح بين إيران والولايات المتحدة من جهة أخرى، فإن جانبا جدليا لهذا الاحتلال تمثل فيما يُـعرف بامتداد النفوذ الإيراني، والذي بدأت خطواته منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الرئيس السابق صدّام حسين، حيث بسط الإيرانيون سَـطوتهم على مُـدن الجنوب الشيعية عبر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي نشأ وترعرع فى حُـضن إيران لمدّة عشرين عاما سابقة.
وفي السنوات الخمس التالية، مدّ الإيرانيون نفوذهم إلى بغداد ومناطق أخرى محيطة بها، وحدثت حملة تصفيات شرسة للوسط السُـني، وتحديدا نخبته العسكرية والعلمية، لاسيما من اعتبرتهم إيران مسؤولين عن أو مشاركين في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي.
وضوح النفوذ الإيراني غير موازين السياسة العراقية، كما نبّـه الأمريكيين إلى أن احتلال العراق قد وفّـر مساحة مناورة إستراتيجية غير محدودة لإيران في مواجهة الضغوط الأمريكية، بيد أن هذا النفوذ الذي أقلق شيعة العراق العرب كثيرا، دفعهم إلى التحذير من أن هكذا نفوذ يُـراد به تغيير طبيعة العراق ككل، من بلد عربي الهوى والهوية، إلى آخر شيعي يراه البعض صفويا خطرا.
وهنا تبرز دلالة التحذير الذي صدر في شهر نوفمبر 2007 والذي وقعه 300 ألف من أهالي المحافظات الجنوبية، أدانوا فيه ما وصفوه بـ “الجرائم التي ارتكبها النظام الإيراني في بلدهم العراق، واستغلاله المذهب بشكل مُـخجل لتحقيق نياته الشرّيرة”.
هذا الغضب الشعبي من شيعة العراق والتوجس السابق من سُـنته، لا يحجب حقيقة أن إيران باتت لاعبا رئيسيا فى الشأن العراق، وهو ما دفع الأمريكيين إلى قبول نصيحة عبد العزيز الحكيم، زعيم مجلس الثورة الإسلامية، بالحوار مع إيران بشأن الوضع الأمني في العراق، وهو ما حدث فعلا، ولكن دون أن يقود إلى نتائج ملموسة.
لكن الشيء البارز هنا أن بعض الجماعات المسلحة المناهضة للاحتلال اعتبرت أن الخطر الإيراني هو الأوْلى بالمُـواجهة، لأنه يمسّ نسيج المجتمع العراقي ويؤثر على هويَّـته ودوره في المنطقة، وأنه يمكن لذلك تأجيل مواجهة الاحتلال الأمريكي، بل يمكن استقطاب بعض الدّعم من هذا الاحتلال لدرء الخطر الإيراني، بيد أن التوافق على هذه الإستراتيجية المثيرة للجدل لم يصل إلى ذروته بعد.
إحصاءات ومفْـزَعَـة
ومن حديث السياسة الذي يمكن أن يطول كثيرا إلى حديث الأرقام والإحصاءات، والتي بدورها توضح كثيرا ممّـا آل إليه وضع العراق في السنوات الخمس الماضية، فعدد القتلى العسكريين الأمريكيين اقترب من 4000، دون أن يدفع ذلك البيت الأبيض إلى تحديد جدول زمني للانسحاب، والذي يبدو مؤجّـلا إلى ما بعد انتخاب رئيس أمريكي جديد في نهاية العام الحالي.
ومع ذلك، فربما لا يكون هناك انسحاب كامل، وهو الأرجح، بل إعادة انتشار وربما تخفيض نسبي محدود، ونشير هنا إلى ما قاله نائب الرئيس الأمريكي ديك تشينى في زيارته المفاجئة للعراق يوم 18 مارس الجاري، حيث أكد أن “بلاده باقية في العراق، حتى ولو تعب الآخرون. فالأمريكيون جاؤوا لكي يبقوا ولن يرحلوا”.
وإذا كان عدد قتلى العسكريين الأمريكيين لا يُـعد كبيرا، نظرا لطبيعة المعركة التي تدور رحاها على أرض العراق، فالوضع مختلف تماما بالنسبة للعراقيين. فالأرقام مُـفزعة وتعبّـر عن انهيار حقيقي أصاب المجتمع العراقي نتيجة الاحتلال والطائفية وتمكُّـن تنظيمات القاعدة.
فالتفجير الذي استهدف مقام الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير 2006، والذي يُـعد حتى اللحظة لُـغزا، تسبب في فرار 1.3 مليون عراقي من بيوتهم داخل العراق، وفي حين لم يحصل 60% منهم على أي مساعدة غذائية طوال عام 2007 منذ نزوحهم عن منازلهم، حصل فقط 22% منهم على حِـصص غذائية بشكل منتظم و20% منهم لجؤوا إلى مبانٍ عامة مهجورة أو إلى منشآت مؤقتة لا تتوفر فيها مياه نظيفة ولا كهرباء.
وضع إنساني مأساوي
ويعطى تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر أعدته خصّـيصا بمناسبة حلول الذكرى السنوية الخامسة للغزو الأمريكي للعراق، صورة مأسوية للوضع الإنساني في أجزاء كثيرة من البلاد، حيث تصفه بأنه الأسوأ في العالم.
فالملايين من العراقيين لا زالوا يفتقرون إلى المياه النظيفة وأبسط الخدمات الطبية، حيث تخلو المستشفيات من الأسِـرّة والأدوية والكوادر الطبية، كما تُـضطر بعض الأسر إلى إنفاق ثلث دخولها الشهرية (البالغة 150 دولارا بالمعدل) على شراء مياه الشرب النظيفة، كما قُتل ما يقرب من 2200 طبيبا وممرضة واختطف 250 آخرين منذ عام 2003، واضطر ما يقرب من 20 ألفا من الكوادر الطبية (من مجموع 34 ألفا) إلى مغادرة البلاد منذ الغزو الأمريكي.
ووفقا لأرقام وزارة الصحة العراقية، فإن 151 ألفا من العراقيين فقدوا أرواحهم في الفترة منذ بدء الغزو وحتى يونيو 2006، وتصل بعض التقديرات للخسائر البشرية العراقية إلى قتل حوالي 600 ألف عراقي في السنوات الخمس الماضية.
نتائج اقتصادية وخيمة
اقتصاديا، لا تقل النتائج الوخيمة جسامة عن نظيرتها السياسية والاجتماعية، فقد كشف تقرير اقتصادي أن مؤشر التضخّـم السنوي في العراق ارتفع خلال الفترة ما بين أكتوبر 2006 وأكتوبر 2007 بنسبة 20.4%، وارتفعت نِـسبة البطالة إلى أكثر من 50%، ووصلت معدّلات الفقر إلى مستويات قياسية تجاوزت نسبة الـ 60%.
كما كشفت هيئة النزاهة العامة في العراق أن قيمة أموال الهدر والفساد الإداري والمالي قد ازدادت لتصل زهاء الثمانية مليارات دولار، ليحتل العراق إلى جانب هايتي وبورما من بين أكثر الدول فسادا في العالم.
أما عن فاتورة إعمار وإصلاح ما دمّـرته الحرب، فسوف تصل حتى عام 2010 نحو 187 مليار دولار، وقدرت دراسة رسمية أن التمويل المحلي الممكن هو بقيمة 42%، ما يعني أن الحصة المطلوبة من الاستثمار الأجنبي والقروض والمنح هي 58%.
وفى ظل نتائج يغلب عليها السّـواد، يصبح من المنطقي أن يخرج أربعة ملايين عراقي إلى الشتات في الجوار وفي صقيع شمال أوروبا، بحثا عن ملاذ آمن بعيدا عن احتلال، يبدو مستمرا إلى حين، وأمن مفقود وطائفية بغيضة ومصالحة مشكوك فى قيمتها.
القاهرة – د. حسن أبو طالب
بغداد (رويترز) – بدأ مؤتمر مصالحة الجماعات السياسية المتحاربة في العراق يتفكّـك، حتى قبل أن يبدأ اجتماعاته يوم الثلاثاء 18 مارس، حيث انسحبت منه الكتلة السُـنية الرئيسية، احتجاجا على عدم توجيه الدعوة إليها على النحو الصحيح.
وتجمّـع مئات السياسيين لحضور المؤتمر بعد يوم من إشادة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، بما وصفه بالتحسن السياسي والأمني الهائل.
وكلّـفت الحرب الولايات المتحدة 500 مليار دولار منذ أن بدأت، وقتل عشرات آلاف العراقيين وتشرّد ملايين العراقيين الآخرين، وقتل نحو 4000 جندي أمريكي في الحرب.
وتشير مقاطعة جبهة التوافق والتيار الصدري وجماعات أخرى أصغر، إلى أنه مع أن العراق لم يعد على شفا حرب أهلية، ما زالت هناك انقسامات عميقة بين الفصائل العراقية الرئيسية.
واتّـهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الجماعات بالسّـعي لتخريب جهود المصالحة العراقية.
وأبدى المالكي أسفه من أن “الآخرين” يقفون مكتوفي الأيدي، فيما يحاول آخرون النّـيل من التقدم السياسي وتعطيل العمل مع الحكومة، في وقت يستلزم فيه واجبهم الوطني أن يساعدوا الحكومة.
وتمارس واشنطن ضغطا على المالكي كي يصل إلى تسوية سياسية مع خصومه، من شأنها أن ترسخ المكاسب الأمنية التي تحققت. وكان الهدف من هذا الاجتماع، الذي عقد قبل يومين من الذكرى الخامسة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، هو إعطاء دفعة جديدة لجهود المصالحة.
وقال جون مكين، المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية في الأردن بعد زيارة للعراق يوم الثلاثاء، إن الزيادة في عدد القوات الأمريكية في العراق، تحقق نجاحا وأن انسحاب القوات الأمريكية قبل الأوان سيُـعزز نفوذ إيران بالمنطقة كثيرا.
وأضاف “إذا انسحبنا من العراق.. فسيتزايد كثيرا وبوضوح النفوذ الإيراني.. وسيتزايد نفوذ القاعدة وتعرّض المنطقة للخطر بشكل ملموس.. وستزيد التحديات لصورة وأمن الولايات المتحدة كثيرا”.
وقالت المنظمة الدولية للهجرة يوم الثلاثاء، إن واحدا تقريبا من كل خمسة عراقيين قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة منذ خمسة أعوام، يعيش إما كنازح داخل العراق أو كلاجئ في دول أخرى.
وقالت جميني بانديا، المتحدثة باسم المنظمة في مؤتمر صحفي “الأمل ضئيل للغاية في أزمة العراق الإنسانية… أوضاع اللاجئين والنازحين تسوء بشكل مستمر”، وأضافت المنظمة، وهي هيئة مستقلة تتعاون مع الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية التابعة لها، أن أوضاع 2.4 مليون لاجئ، غالبيتهم العظمى في سوريا والأردن، تتدهور.
لكن المالكي قدّم تقييما متفائِـلا، رغم انتكاسات اليوم، قائلا إن الأمة تماثلت للشّـفاء بعد العُـنف الطائفي الذي هدّد بنشوب حرب أهلية.
وقال المالكي للمؤتمر، إن السلام تحقّـق بين السُـنة والشيعة وأن الأزمة التي كان فيها الناس يُـقتلون بسبب هويتهم الدّينية، قد انتهت.
وقال سليم الجبوري، المتحدث باسم جبهة التوافق العراقية، إن الجبهة لن تحضر المؤتمر، ليس لأنها لا تؤمن بالمصالحة، وإنما لأن الدّعوات أرسلت إلى أعضاء الجبهة ولم تُـرسل بالطريق الرسمي إلى جبهة التوافق.
وقال الجبوري، إن القرارات التي صدرت عن الاجتماعات السابقة لم تنفّـذ على الإطلاق. وتساءل: كيف يمكن الآن ترتيب مقترحات جديدة؟
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 18 مارس 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.