بلد “عادي” لكنه حالة “خاصة”!
يعتقد السويسريون أن سويسرا بلد "عادي"، لكنهم في الوقت ذاته يشعرون بأنها لا زالت تمثل "حالة خاصة"، وبين هذا وذاك يقف المتأمل لنتائج سبر جديد للآراء حائراً.
ومع أن بعض وسائل الإعلام ركزت في تعليقاتها على موقف السويسريين من الولايات المتحدة، إلا أن أهمية الإستطلاع تتعلق أساساً بتداعياته على عضوية الكنفدرالية في الاتحاد الأوروبي.
الخبر الجديد القديم في هذا الإستطلاع هو أن السويسريين والسويسريات فقدوا “تعاطفهم” مع الولايات المتحدة، إذ أكد نحو 68% منهم أنهم لم يعودوا يشعرون بالتعاطف مع الشعب الأمريكي، حتى في ما يتعلق بأحداث 11 سبتمبر الإرهابية.
وقد آعتبر البروفيسور دييتر روولف، مدير معهد العلوم السياسية التابع لجامعة زيوريخ وأحد مؤلفي الدراسة المتضمنة لنتائج سبر الآراء، أن الولايات المتحدة قد “خسرت بصورة كلية” مخزون التعاطف الشعبي معها، لافتاً إلى أن نحو 84% من المُستَجوبين حددوا “سياسة الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس بوش” سبباً لمشاعرهم تلك.
رغم ذلك، فإن أهمية استطلاع الرأي العام، الذي أجرته مؤسسة gfs لسبر الآراء المعروفة ونشرت خلاصته صحيفة نويه تسورخر تسايتونغ الأسبوعية الناطقة باللغة الألمانية، لا تتعلق بذلك التفصيل.
فقد أصبح من تحصيل الحاصل القول إن مشاعر العداء للولايات المتحدة استشرت في قطاعات واسعة في سويسرا منذ مرحلة التمهيد والإعداد لحرب العراق.
ما هو جديد أو بالأحرى مثير للاهتمام في سبر الآراء، الذي شمل مسحاً لمواقف 714 مسُتجوباً، هو المنظور الذي من خلاله يرى السويسريون بلادهم وانعكاسات ذلك العملية على ملفات وقضايا سويسرية جوهرية.
ما بين “العادي” و”الخاص”!
شكوى فاوست الشهيرة من أن “روحين تعيشان داخل نفسه”، تنطبق على حال السويسريين، سواء في رؤيتهم لأنفسهم أو للعالم الخارجي.
فهم يعتبرون مثلاً أن سويسرا ليست حالة خاصة. لا بالتأكيد، بل هي “بلد عادي”، كما تؤكد أغلبية كبيرة منهم. وهو موقف واقعي من جانبهم. غير انهم في الوقت ذاته أقروا في نفس الاستطلاع الصور النموذجية المعروفة عن “سويسرا الخاصة”!
فالكونفدرالية هي البلد المعين في أوقات الأزمات، وهي النموذج للنظام الديمقراطي، وهي القدوة في التعايش السلمي بين الثقافات، تماماً كما أنها الحصن الآمن للعمل الدؤوب والنظام. كأنها الدرة الفريدة بين الأمم.
شتان إذن ما بين الصفة “العادية” لهذا البلد والخصائص التي أسبغوها عليه. لكن على ما يبدو، وهذا رأي مؤلفي الدراسة البروفيسور روولف والخبير الإداري ميخائيل سيميرين من معهد العلوم السياسية بجامعة زيوريخ، فأن السويسريين يدركون بعقولهم أن بلادهم “عادية”، لكن قلوبهم لازالت تهفو إلى ذلك “التفرد” الحالم.
نتعاون ولكن .. بقدر!
وبنفس الوتيرة والنسق، يبرز التنافر بين رغبة السويسريين في التعاون مع العالم الخارجي وإصرارهم في الوقت ذاته على سلوك “طريق خاص” بهم.
هم مدركون، وهنا أيضاً يبرز الطابع العملي لتفكير المستجوبين، أنه لا محالة من اعتماد سويسرا على العالم الخارجي، لا سيما في المجال الاقتصادي. لكنهم ينفرون من أي حديث عن انضمامها إلى أي منظمة إقليمية، وبالتحديد الاتحاد الأوروبي، التي يمكن أن تؤثر قراراتها على الوضع الداخلي للبلاد.
هذه المراوحة بين الموقفين قد تكون لها انعكاسات واضحة على سياسات سويسرا المستقبلية، حيث يكفي أن ننظر إلى الآراء التي عبر عنها المستجوبون تجاه الاتحاد الأوروبي.
الأمر ليس محسوماَ!
قلة ضئيلة من السويسريين ترفض التعاون مع الاتحاد الأوروبي بصورة كلية، تماماً كما أن نحو الثلث منهم يوافق على انضمام سويسرا إلى الاتحاد على المدى البعيد.
أما الأغلبية فتدعم الحزمة الثانية من الاتفاقيات الثنائية المبرمة مؤخرا بين برن وبروكسيل، لكنها لا ترغب في رفع درجة التعاون بينهما إلى مستويات أعلى. بكلمات أخرى، ووفقا لهذه الرؤية فإن الأمور لن تصل إلى أبعد من التنسيق بين برن والاتحاد من خلال اتفاقيات ومعاهدات ثنائية.
رغم ذلك، يحذر المؤلفان من اعتبار هذه النتائج مبرراً للاقتناع بأن موافقة الشعب السويسري على الحزمة الثانية، وبالتالي مصادقته عليها في أي استفتاء شعبي قادم، أمر في حكم المؤكد.
ويبرر المؤلفان ذلك التحذير بالقول إن تفكيك تلك الحزمة في اتفاقيات محددة تُعرض على الناخب في استفتاء شعبي، قد يفسح المجال أمام إمكانية رفض بعضها خاصة تلك التي لا يستسيغها الناخب العادي.
المشكلة يمكن أن تصبح .. حلاً!
بيد أن صانع القرار السويسري قادر رغم ذلك على استثمار النتائج التي توصل إليها سبر الآراء في تمرير اتفاقيتي شنغن ودبلن، التي هدد حزب الشعب السويسري اليميني بطرحهما على الاستفتاء الشعبي.
فمن النتائج الملفتة للغاية في ذلك الاستطلاع هو قناعة أكثر من ثلثي المستجوبين أن الحكومة السويسرية لا تفعل سوى القليل لمعالجة مسألة اللجوء. هذه القناعة على حد رأي المؤلفين، لا يجب الاستهانة بها، لأنها تعبر عن قلق فعلي عام لدى الأوساط الشعبية السويسرية من تداعيات هذا الملف – الذي لو أحسنت السلطات التعامل معه ومعالجته فسوف تكون قادرة على تمرير العديد من سياساتها.
والدليل على ذلك أن أغلبية كبيرة من المستجوبين يؤيدون اتخاذ إجراءات تهدف إلى وقف تدفق اللاجئين على البلاد. كما أن أغلبية أكبر تطالب بمزيد من التعاون مع البلدان الأوروبية المجاورة لمواجهة مشكلة الهجرة.
بكلمات أخرى، إذا تمكنت الحكومة من إقناع الرأي العام بأن انضمام سويسرا إلى اتفاقيتي شنغن ودبلن (المتضمنتين فتح الحدود بين سويسرا والبلدان الأوروبية والمزيد من التعاون بينهما في المجالات المرتبطة بالأمن والعدل والهجرة واللجوء)سيوفر لها أداة هامة تمكنها من مواجهة محاولات استغلال نظام اللجوء، فإن الناخب السويسري قد يصوت بالموافقة على تمريرهما.
بين الماضي والمستقبل!
والآن ما هي الحصيلة من كل ما سبق؟ ما الذي تعنيه تلك المراوحة بين النقيضين في نظرة السويسريين لأنفسهم وللعالم الخارجي؟ ما هو مؤكد، كما يوضح مؤلفا الدراسة، أن السويسريين كشعب لا يحبون التغييرات الراديكالية.
إنهم يتطلعون دائما إلى المستقبل، لكنهم – وهم يمشون على دربه – ينظرون دائماً إلى الماضي يستخلصون منه العبر. والواضح أنهم ينفرون أيضا من التجارب غير المعروفة. قدم على درب الماضي، وأخرى على درب المستقبل، ولكن قد يؤدي التردد بينهما إلى تجاذب يسفر عن جمود ومراوحة في نفس المكان.
إلهام مانع – سويس إنفو
منشورات Univox :
هي منشورات تصدر عن مؤسسة gfs لسبر الآراء.
ترصد تلك المنشورات أراء السويسريين في مجالات وقطاعات متنوعة.
تصدر تلك المنشورات منذ عام 1986 بالتعاون بين مؤسسة gfs لسبر الآراء والمؤسسات الجامعية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.