بن فليس يسير في الاتجاه الصحيح.. ولكن؟
لا يسمح المخاض الذي تعيشه الساحة السياسية الجزائرية بإصدار أحكام نهائية أو توقّـعات دقيقة.
لكن أحدث المعطيات المتوفّـرة للمراقبين تُـشير إلى أن حظوظ عبد العزيز بوتفليقة في ضمان عُـهدة رئاسية ثانية بدأت تتراجع.
يسود شعور قوي داخل الساحة السياسية الجزائرية أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يعد يملك من السند ما يكفيه للفوز بعهدة رئاسية ثانية، لدرجة أنه كلّـف وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم بمهمة جمع الأنصار داخل الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الدولة، أي جبهة التحرير الوطني.
وقد تعزّزت الظنون بشأن الوضع الصعب الذي يعيشه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد انتهاء اللقاء الطارئ لنواب حزب جبهة التحرير الوطني في البرلمان ومجلس الشيوخ يوم الأربعاء الماضي، إذ تبيّـن أن أغلب النواب يؤيدون علي بن فليس، الأمين العام للحزب، وأن معظمهم يريد ترشيحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، أما الملفت فهو إعلانهم جميعا عن رفضهم لترشح بوتفليقة باسم جبهة التحرير الوطني.
وبمثل هذا الإعلان، تبيّـن رسميا أن المهمة التي أُوكِـلت إلى السيد عبد العزيز بلخادم، وزير الخارجية، من قبل رئيس الجمهورية قد فشلت فشلا ذريعا، وهي مهمة سُـميّـت من طرف أنصار الرئيس، بـ “الحركة التصحيحية”، والمقصود منها إزاحة علي بن فليس من قيادة جبهة التحرير الوطني عبر إقناع العديد من نواب الجبهة ووزرائها بالتمرد، وإعلان بوتفليقة أمينا عاما للحزب.
ما وراء الظواهر
نظريا، كان يُـمكن لهذه الخطة أن تنجح لولا أن “الحس الجماعي” داخل جبهة التحرير الوطني، أكبر أحزاب البرلمان، شعُـر بأن بن فليس مَـرضي عنه من الجهة التي تملك سلطة اتخاذ القرار الفعلي.
ولم تُفهم التحركات التي أقدم عليها بوتفليقة، الذي يُـفترض أنه يعرف بحكم وضعه كمناضل قديم في حزب جبهة التحرير الوطني، أن الديموقراطية داخل الحزب أمر جديد، وأن انتخاب الرؤساء في الجزائر يعتمد على مُـعطيات توجد خارج الحزب. فمع أن الجزائر جمهورية، إلا أن مسؤولية اختيار الرؤساء لانتخابهم فيما بعد يضطلع بها أصحاب الخوذة والسيف.
تعجّـب أغلب المراقبين من سكوت المؤسسة العسكرية تجاه ما يجري، خاصة وأنها لم تُقحم نفسها فيما يقوم به بوتفليقة تجاه جبهة التحرير، واعتبرت الأمر مجرد صراع سياسي شرعي.
في المقابل، تدخلت المؤسسة العسكرية من طرف خفي لمنع إصدار أحكام قضائية ضد الصحفيين الذي أمر بوتفليقة باعتقالهم خلال الأسابيع الأخيرة، لأنهم كشفوا في وسائل إعلام مستقـلّـة عن بعض ملفات السرقات الهائلة التي زُعم أن مستشارين كبار للرئيس الجزائري قاموا بها.
نصائح أطلسية وأوروبية
وكالعادة، فإن ما يرى فيه البعض غموضا سياسيا داخل الجزائر، يعتبره آخرون غير ذلك. فالأحداث مُـرتبطة ببعضها البعض، ولا يمكن فصلها عن مساقاتها الموضوعية بأي حال من الأحوال. ومن أجل توضيح ذلك، لا مفرّ من العودة إلى برنامج المؤسسة العسكرية الجزائرية قبل مجيء بوتفليقة بسنتين، أي قبل ستة أعوام من الآن.
ففي ذلك الحين، أجرى الجيش الجزائري جملة لقاءات تشاورية مع الحلف الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي بهدف الحصول على نصائح حول كيفية انسحابه من الشكل الظاهر لإدارة الشؤون الجزائرية إلى أسلوب أقل حدة وبروزا، بحيث لا يسقط في الفخ الذي وقع فيه جنرالات الأرجنتين، ولا يتخذ شكلا فظا على غرار ممارسات جنرالات تركيا.
ويبدو من الواضح أن نصائح الخبراء الأطلسيين والأوروبيين وجدت طريقا سالكا وآذانا صاغية داخل المؤسسة العسكرية، وهو تغيير جوهري لم يفهمه، حسبما يبدو، الرئيس الجزائري، فيما قد يكون استوعبه علي بن فليس لأنه لم يتردّد في التصريح (رغم رغبته المعلنة في إدارة الجزائر بعد بوتفليقة)، “إن بداية التغيير والانفتاح ستتحقق في حالة انتخابي، وأن الجيل الجديد سيُـمسك بزمام الأمور”.
لذلك، فإن بن فليس لم يتجاوز – من الناحية السياسية – ما أوصى به المستشارون والخبراء القادمون من وراء البحار. ومع أن كثيرين يرون فيه رجل المرحلة “على الورق”، يذهب بعض الدبلوماسيين الغربيين في الجزائر إلى أن وصول بن فليس إلى قصر المرادية “قد يفتح باب الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، غير أنه يحتاج لوقت أطول ليفعل غير ذلك”.
تزوير.. أي تزوير؟
لكن هذه المعطيات لا تكفي لتفسير حرية الحركة المثيرة التي يتمتّـع بها الرئيس الجزائري. فقد اتّـضح من خلال ممارسته لمهامّـه على رأس الدولة، أن بإمكانه تسيير الإدارة مثلما يشاء، وهو ما من شأنه أن يُـثير مخاوف واسعة من أن يلجأ إلى التزوير.
لكن المقربين منه يردّون على هذه الظنون بالتأكيد على أن التزوير قد حدث فعلا خلال المؤتمر الثامن لحزب جبهة التحرير الوطني، عندما أُقنع المناضلون من “طرف خفي” بالتصويت لفائدة انتخاب بن فليس أمينا عام للحزب من جهة، وبعدم اختيار بوتفليقة مُـرشّـحا باسم الجبهة للانتخابات الرئاسية المقبلة من جهة أخرى.
ومما يُعزّز الاعتقاد بأنه من غير المرجح أن يلجأ بوتفليقة إلى التزوير التغيّـر الذي طرأ على المعطيات الواقعية حيال هذا الأمر، في ظل إصرار المواطنين على دخول مكاتب الاقتراع ومراقبة عملية فرز الأصوات، وعجز قوات الأمن عن منعهم من ذلك خوفا من تطور الأمور إلى مواجهات وفوضى عارمة.
وبعيدا عن التزوير وسوءاته، لوحظ في الأيام الأخيرة تجمع مهم لقيادات حزبية كبيرة خلف علي بن فليس، أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، منهم رؤساء حكومات سابقين، مثل مولود حمروش، والمقداد سيفي، كما يقف الآن وراء بن فليس أمناء عامين سابقين لجبهة التحرير الوطني، مثل عبد الحميد مهري وبوعلام بن حمودة.
وليس من السهل جمع قيادات كهذه خلف رجل واحد إن لم تتوفر لديهم معطيات تقنعهم بأن مناصرته أمر مفيد، علما أن هؤلاء يختلفون من حيث النظرة إلى التوجهات الاقتصادية والاجتماعية.
ومع أن بوتفليقة يواصل بذل جهوده من أجل إقناعهم بأنه الرجل المناسب لقيادة البلاد، حيث اجتمع في الفترة الأخيرة مع الكثير من الوجوه المعروفة داخل الساحة السياسية الجزائرية، إلا أنه لا يمتلك اليوم نفس “النصرة” التي حصُـل عليها قبل أربعة أعوام.
ومع اقتراب شهر أكتوبر – وهو في الجزائر موسم المفاجآت السياسية وموعد اتخاذ القرارات الهامة، واختيار رجال الحكم أو الانقلاب عليهم – لم تحدث مفاجآت تُذكر. وقد يُـستدلّ من ركود شهر سبتمبر وفشل خطط الرئيس، الواحدة تلو الأخرى، لإزاحة علي بن فليس من قيادة جبهة التحرير، أن بوتفليقة قد يتحول إلى الضحية الأولى لسلسلة اللقاءات التشاورية، ولجان “التفكير والمتابعة” التي شُـكّـلت في أواسط التسعينات، وكان هدفها إصلاح الوضع الداخلي في الجزائر، وإعطاء دور جديد للمؤسسة العسكرية بطريقة تسمح للجزائر بالمشاركة في السياسات الاقتصادية والأمنية في منطقة البحر المتوسط ضمن أُطر العلاقات جنوب شمال.
خوف شديد من المفاجآت
ومع أن أغلب المعطيات بدأت تُـشير إلى أن علي بن فليس وضع قدمه في الاتجاه الصحيح نحو رئاسة البلاد، إلا أن البعض يُـسارع في القول بأنه من المرجح أن لا يُصبح بوتفليقة “حجر العثرة” في سبيل تحقيق هذا الهدف، ولكن التيار الإسلامي، مثلما جاء مؤخّـرا على لسان وزير الصحة والسكان عبد الحميد آبركان الذي قال “ليس هناك من يُمثل تحديا لجبهة التحرير الوطني سوى الإسلاميين، غير أنهم لا يمتلكون برنامجا محددا”.
ويبدو أن سبب التأكيد على هذا المعطى من طرف عضو في الحكومة يعود إلى وجود رغبة حقيقية في أن تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة حرة ومفتوحة. لكن – وفي مقابل هذه الرغبة- هناك خوف شديد من المفاجآت، وهو ما يُفسر، على الأرجح ، انطلاق الصراع على الرئاسة قبل أشهر عديدة من موعدها بهدف جمع أكبر عدد من الأنصار وضمان حشدهم للتصويت يوم الاقتراع.
ومن المُـؤكّـد أن ما يحدُث الآن يُـمثّـل – بالنسبة لتلميذ نجيب في المدرسة القديمة، مثل عبد العزيز بوتفليقة – أسوأ صداع يُـمكن للمرء أن يتصوّره.
وخُـلاصة القول أن عملية اختيار الرؤساء في الجزائر لم تعُـد تعتمد على مفاهيم قديمة مثل موالاة الشخصية المُـرشّـحة لأصحاب القرار الحقيقي أو تفهّـمِـها لرغباتهم، بل تغيّـرت لتتحوّل إلى مفهوم جديد لدور الرئيس.
ويتلخّـص هذا الدور في “إدارة حسنة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعمل على إيجاد الظروف المناسبة لبناء جيش إقليمي قوي. يُـضاف إلى ذلك أن يتفهّـم المرشّـح للمنصب أن الإثراء في الجزائر أمر ممكن للجميع، وأن تسير القوانين وفق ذلك”.
أما الشرط الأساسي للنجاح في المهمّـة فهو أن “يبدُوَ الحكم في البلاد على أنه توافق حميمي بين السياسي والعسكري. أما بعد هذا، فتلك مسألة أخرى”.
هيثم رباني – الجزائر.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.