بوش الثاني في مواجهة “الطغيان” العربي
من يقرأ خطاب تنصيب الرئيس بوش من زاوية النص، يجده مثاليا وأخلاقيا إلى حد كبير.
فلا أحد يُـقر، سوى بمواجهة الطغيان والتمسك بأهداب الحرية، ونشر السلام ليعم العالم بأسره، ومساعدة الساعين إلى التحرر من نير النقمة والظلم والحقد. ولكن كيف سيُطبق ما جاء في العالم العربي؟
إن زمن المثاليات لا وجود له في علاقات دول وكيانات لا تعرف إلا المصالح والصراعات من كل نوع وصنف. ولذلك، فالإجماع بأن وراء هذه المثاليات مصالح أمريكية، ونزعة تبشيرية، ومقدمات فوضى، وتدخلات أمريكية في بقاع كثيرة من المعمورة، يؤكد أن خطاب التنصيب الرئاسي، ليس سوى مؤشرا جديا على نية التدخل، وإن بدرجات مختلفة وأدوات متعددة، بحُـجة حماية الحرية ونشر الديمقراطية، وتجسيد السلام الأمريكي.
فحسب بوش، فإن حماية أمن الأمريكيين في وطنهم يبدأ بنشر الحرية في بلدان بعيدة، أو بالأحرى التدخل في شؤون الغير، أرادوا أم لم يريدوا.
والإجماع أيضا، أن المنطقة العربية مرشحة لأنواع من هذه التدخلات الأمريكية المتوقعة. فهي من المنظور البوشي، ووراءه المحافظون الجدد برموزهم ومؤسساتهم، بُـؤرة لأنواع مختلفة من الطّـغيان والظلم وثقافة الكراهية والعنف واللاديمقراطية، وهذه كلها مبررات قوية للتدخل وإحداث التغيير، حتى تأمن المصالح الأمريكية والمواطن الأمريكي معا.
فباعتبار أن “يوم النار”، حسب النص البوشي، أو هجمات 11 سبتمبر حسب، المتعارف عليه دوليا، كان وراءها عرب من جنسيات مختلفة، فهم الأكثر مدعاة وأهلية للتغيير والإصلاح.
والسؤال الذي يطل برأسه الآن: كيف سيكون التدخل في المنطقة العربية، وهل سيكون هناك نصيب للأداة العسكرية، باعتبارها أداة معتبرة وفق الرؤية الأمريكية، ولا يمكن ردها أو مواجهتها من دول إما ضعيفة بالمعنى العام عسكريا واقتصاديا، وإما تعتمد أساسا على التسلح الأمريكي المحدود الإمكانيات، قياسا لما هو موجود في الترسانة الأمريكية الأكثر حداثة وتدميرا؟
رسالة للساعين للحرية
من يتمعّـن قليلا في نص التنصيب الرئاسي، تشده تلك العبارة التي حدد فيها الرئيس بوش رسالته للساعين للحرية، وهم الحكومات الراغبة في الإصلاح، وهؤلاء سيكونون هدفا للمساعدات الأمريكية لبلوغ أهدافهم على المدى الطويل، باعتبار أن “لا عدالة من غير احترام حقوق الإنسان”.
وثانيا، الشعوب الغارقة فى ظُـلم وطغيان نُـظم مارقة، وهؤلاء سيكونون محلاّ للرعاية الأمريكية، “فإذا ما وقفوا إلى جانب حريتهم، فستكون أمريكا إلى جانبهم”. فالأصل أن يتحركوا أولا، وعندها، سيجدون الدعم والمساندة الأمريكية. إنها دعوة للتمرد وتحريض واضح.
مثل هذه الدعوة المزدوجة للحكومات والشعوب، تعني أن نوعية المساعدة الأمريكية ستختلف من حالة إلى أخرى، حسب طبيعة الحُـكم نفسه، وهل هو حكم صديق يلتزم برنامجا إصلاحيا، أم أنه حكم “مارق” يتميّـز بالطغيان، حسب التوصيف الأمريكي، ومطلوب رقبته، أم ثالثا، هو حكم يجب تطويعه بعد محاسبته على بعض من تمرُّده.
وفي كل حالة، فإن الموقف الأمريكي من نزعة الشعب نحو الحرية، سوف تختلف جملة وتفصيلا. أو هكذا تبدو للمراقب معاني ودلالات النص الرئاسي.
حالات عربية مختلفة
عربيا، فإن غالبية الحكومات العربية، كمصر والسعودية وتونس والجزائر واليمن والمغرب ودول الخليج العربية الصغيرة، ترى في نفسها حكومات صديقة للولايات المتحدة، وتسير على طريق الإصلاح المتدّرج النابع من ظروفها الخاصة، ومن ثم، فهي لا تتوقع سوى مباركة وإشادة أمريكية لهذه البرامج، وفي بعض الأحوال، بعض مساعدات مالية أو برامج محددة للسير في هذا الدرب دون ضغوط أو فرض نماذج أو مُـعطيات قيم بعينها.
وهؤلاء، لا يرون في خطاب بوش ودعوته لمواجهة الطغيان ونشر الحرية، سوى تعبير عن أفكار عامة، ولا تعنى بالضرورة ـ أو هكذا يأملون ـ مقدمة لضغوط أو تدخلات سافرة تهُـز أسُـس النظام القائم أو تسمح بتغيير جذري لقواعده المستقرة منذ زمن، بنخبته وشخوصه ودستوره وقوانينه، وعلاقاته البينية بين الحاكمين والمعارضين والمحكومين، والمنظمين للنظام والمستبعدين منه على السواء.
وإلى جانب هذه الغالبية، توجد ستة حالات شهيرة لكل منها وضعها الخاص جدا. وهي العراق، الذي يخضع مباشرة للتخطيط والتنفيذ الأمريكي، ويظل نموذجا تحت التصنيع، ويُـراد له أن يكون قُـطبا جاذبا لحرية وديمقراطية يمكن تسويقها، عربيا وإقليميا، وإن كانت التجربة على الأرض لا زالت تقول بغير ذلك.
وثانيا، سوريا ولبنان، ولهما وضع خاص ينظمه أمريكيا قانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان، ويُـنظر لهما باعتبارهما مجالا لتدخلات متنوعة المستويات من الضغوط بُـغية تصحيح المسار جذريا.
وثالثا، هناك السودان الذى يسير في مشروع كبير لإعادة بناء نفسه تحت رعاية دولية، تلعب فيها واشنطن دورا كبيرا مباشرة وغير مباشرة. ومن ثم فهو واقع تحت المباشرة الأمريكية عمليا، وما الضغوط التي توجّـه له إلا لتيسير عملية التغيير وسرعة تقنينها.
ورابعا، تبرز ليبيا، والتي تبدو في وضع خاص جدا، في ظل تحولاتها الجارية للتعاون مع الغرب، دون تغييرات أساسية فى بنية نظام الحكم فيها، وإن كان المرجّـح أن يثور تباعا موضوع حقوق الإنسان الليبي وتوسيع مجالات المجتمع المدني، وتهذيب السّـطوة الأمنية على حياة المواطنين.
وخامسا، هناك الصومال المفكك، الذي لا يمثل قيمة كبرى إلا من منظور التعاون في الحملة على الإرهاب، وهو في ذلك في خانة المتعاونين، حسب مقدرتهم المتواضعة، أما مسألة الحرية ومواجهة الطغيان، فهي مؤجلة إلى زمن بعيد.
فضاءات من التدخل والضغوط
هاتان المجموعتان الرئيسيتان من البلدان العربية، تبرران الاستنتاج بأن لكل منها فضاء خاص من التدخلات والضغوط، وأيضا المساعدات الأمريكية.
وإذا كان الفضاء الغالب على المجموعة الأولى سيكون سلميا وسياسيا وإعلاميا، فإن الفضاء الثاني، سيكون متنوعا ويسمح بدرجة من الضغط العسكري، وإن لا يصل إلى درجة شن الحرب.
إن غلبة الطابع السلمي – السياسي على الضغوط المرجّـحة تجاه المجموعة الأولى، لن ينفي أنها قد تصل إلى حالة تدخّـل سافر في لحظة معينة بُـغية إجراء تغيير مهم، تراه الولايات المتحدة ضروريا ويدخل تحت بند تعزيز الحريات.
والتدخلات المرجحة هنا، ستكون على خطين متوازنين. الأولى، في اتجاه الحكومات لحثها على مواصلة الإصلاحات والتغييرات السياسية والقانونية والتعليمية والإعلامية، وفي اتجاه المجتمع المدني وتوفير المساندة له المالية والمعنوية والسياسية والتدريبية، حتى يكون واحدا من أدوات التغيير المباشر في المجتمع وفي النظام ككل.
ولذلك، فالمرجح أن تتجه المساعدات والتدخلات الأمريكية لحماية الشخصيات والمنظمات غير الحكومية، التي ستقوم بدور رائد في عملية المطالبة بتغييرات جذرية في بنية النظم التي يعيشون في ظلها.
ووفقا للخُـطط الأمريكية المُـعلنة من قبل، تحت بُـند بناء شرق أوسط موسع والإصلاح في العالم العربي، هناك خطط ومعونات وبرامج تدريبية بدأ تنفيذها بالفعل بالتعاون مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية على السواء. والمؤكد، أنه سيتم توسيع هذه البرامج ومضاعفتها في السنوات الأربع المقبلة.
إن المطالبة بالحرية وتجذير الديمقراطية، قد تفهمها بعض المنظمات المدنية بأنها دعوة للعمل الجاد وتكثيف الضغوط والتحرك وسط الجماهير، وحثها على التحرك ونبذ سكونها وجمودها المستمر منذ فترة طويلة.
ولذلك، فإن البلدان ذات التراث المناسب من المجتمع المدني، ستكون الأكثر قابلية للحركة المكثفة، لاسيما إذا كانت هناك استحقاقات انتخابية برلمانية أو رئاسية، كما هو الحال مثلا في مصر، التي تشهد بالفعل مساعي مدنية منظمة للرقابة على الانتخابات المقبلة، فضلا عن الدعوة إلى تغيير الدستور ليسمح بانتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح.
وهنا، فإن الدول العربية، كالجزائر وتونس واليمن، والتي جرت فيها انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح في العام الماضي، تُـعد بعيدة نسبيا عن ضغوط متوقعة وسريعة، اللهُـمَّ في إطار توفير ضمانات أكبر لكي تكون الانتخابات المقبلة البرلمانية أو المحلية أكثر تعددية ونزاهة وشفافية، وأن يتم توسيع مجالات الحياة المدنية دون مضايقات حكومية.
أما الانتخابات المحلية المقبلة في السعودية، فسيُـنظر لها كعلامة على التغيير المنهجي والمنضبط معا في إطار إصلاح جزئي، قد تتم المطالبة بتوسيعه على المدى البعيد ليصل إلى درجة ملكية دستورية.
وفي كل الأحوال، فإن ضغوط السياسة والإعلام وإغراءات المساعدات سيكون لها دور حاسم في ترسيخ عمليات الإصلاح في بلدان مجموعة الأصدقاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة.
محاسبة سوريا وخصوصية ليبيا
الجمع بين الضغوط السياسية والعسكرية والمحاسبة قد تكون من نصيب سوريا، إذا ما توصّـل صانعو القرار الأمريكي بأن دمشق لم تقم بما عليها من واجبات في الداخل والخارج.
ومن البدائل التي طُـرحت سابقا، أن تتبنى واشنطن حركة معارضة سورية تكون نواة لتغيير النظام سلميا وبواسطة جماهير الداخل. وفي ضوء رُؤى الرئيس بوش التبشيرية عن الحرية ومواجهة الطغيان، فقد يجد هذا البديل طريقه للحياة مع الاستفادة من تجربة تبني مجموعات المعارضة العراقية.
وتبدو ليبيا محل تساؤل كبير، فأين سيكون موقعها من التحركات الأمريكية المتوقعة لنشر الحرية، لاسيما وأن نظامها السياسي يخلو من أي مظهر للتعددية والديمقراطية والشفافية؟ وإذا كان النظام قد تحول بين عشية وضُـحاها من خصم عنيد للغرب ولواشنطن، إلى نظام متعاون في بعض المجالات الحيوية، فإن حقوق الإنسان فيه تظل تصرخ طلبا للعون والنصرة.
وربما، تغض واشنطن الطرف عن هذه الحالة باعتبارها بحاجة، أولا لإنضاج رغبة تغيير ذاتية، وثانيا، لأنها تقدم نموذجا للتخلي عن طموحات عريضة، سياسيا واستراتيجيا، ويُـراد لها أن تنتشر عدواها بين حالات عربية أخرى.
د.حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.