بين بوتفليقة وبن فليس: منازلة أم مناورة؟
بدأت أزمة سياسية جديدة في الجزائر بعد إقالة رئيس الحكومة علي بن فليس، الذي يرأس حزب جبهة التحرير الوطني ورفضه تزكية ترشح بوتفليقة لفترة رئاسية ثانية.
وقد كلف الرئيس الجزائري رئيس الوزراء الأسبق أحمد أويحيى بتشكيل الحكومة الجديدة.
أقال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، رابع رئيس حكومة في عهده، علي بن فليس. غير أن الإقالة في حد ذاتها حدث فريد في تاريخ الجزائر السياسي، لأنها المرة الأولى منذ الاستقلال عام 1962، التي يقول فيها رئيس الجمهورية: “لقد أقلت رئيس الحكومة”، ولأول مرة أيضا، يقول رئيس الحكومة: “لقد أقالني رئيس الجمهورية”. أما التقليد المتبع، فهو أن يقول رئيس الحكومة: “لقد استقلت من منصبي”.
سبب هذا التغير يعتبره الخبراء خللا في حسابات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إذ أن بن فليس هو الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، وهو نفسه من رأس الحملة الانتخابية لبوتفليقة خلال رئاسيات عام 1999، كما أنه أقنع جبهة التحرير الوطني بمساندة ترشح بوتفليقة.
كما شغل بن فليس، منصب المستشار الأول لبوتفليقة داخل الرئاسة، لدرجة أن بوتفليقة لقبه: “بأمين سري”، ثم عينه رئيسا للحكومة.
منذ الوهلة الأولى لتعيينه، تسرب في الصحافة الجزائرية أن بن فليس لا يملك صلاحيات رئيس الحكومة، وأن بوتفليقة يتجاوز صلاحيات رئيس الوزراء عبر مراسيم وأوامر رئاسية.
نفى بن فليس طيلة ترأسه للحكومة كل ما كُتب في الصحافة عن خلافاته مع بوتفليقة، غير أن أربعة وزراء كشفوا عبر تحركاتهم أنهم يتعاملون مع بوتفليقة مباشرة، وعلاقاتهم مع بن فليس مجرد ظهور أمام القنوات التلفزيونية خلال الاجتماعات الحكومية الروتينية.
الوزراء الأربعة هم: شكيب خليل وزير الطاقة والمناجم، ووزير المالية محمد ترباش، ووزير المساهمة وترقية الاستثمار عبد الحميد تمار، ووزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني.
يسمى هؤلاء الوزراء بـ: “وزراء الرئيس”، وهم في نفس الوقت أصحاب مناصب حساسة تتعلق، كما هو الحال بالنسبة لشكيب خليل وزير الطاقة والمناجم بميدان البترول والغاز، مصدر العملة الصعبة الأول للجزائر.
تمثلت الأزمة بين شكيب خليل وبن فليس في طرح خليل لمشروع إصلاح قطاع المحروقات يتم بموجبه تحرير القطاع، وجعله على علاقة وطيدة بالمؤسسات البترولية، خاصة منها الأمريكية والبريطانية.
مشروع كهذا، أغضب بن فليس الذي يرأس في نفس الوقت جبهة التحرير الوطني، حزب المحافظين الاقتصاديين من دون منازع، وهذا الغضب أزعج بوتفليقة الذي لم يفهم سلوك رئيس حكومته، الذي عوده على الطاعة المطلقة.
أما وزير المالية ووزير المساهمة والاستثمار، فقد طرحا مشاريع ليبرالية تتوافق مع خطط صندوق النقد الدولي، وهي في مجملها غير اجتماعية بالمرة. وفي الوقت الذي اعتبرها البعض ضرورية، رآها بن فليس وجبهة التحرير الوطني، مدخلا لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
القشة التي قصمت ظهر البعير!
وخلال أزمة بلاد القبائل وبعد إطلاق النار على المتظاهرين ومقتل العشرات من الشباب الغاضب، توجه بن فليس وقابل بوتفليقة وطالبه بإقالة وزير الداخلية، نور الدين يزيد زرهوني، واتهمه أمام بوتفليقة بأنه يُشعل نار الفتنة عبر تقسيمه للقبائل إلى متطرفين ومعتدلين.
لم يقبل بوتفليقة معارضة بن فليس لكل مشاريعه، وقام في نفس الوقت بسحب العديد من الصلاحيات منه، حتى أنه أصدر أمرا لولاة الأقاليم بحجز رئيس الحكومة في قاعات الضيافة وثنيه على الخروج ومقابلة المواطنين…
كل هذه الأخبار تناقلتها الصحافة الجزائرية على مدى 33 شهرا، وهي مدة ترأس بن فليس لرابع حكومة في عهد بوتفليقة، وكان رد بن فليس هو نفي هذه الأخبار جملة وتفصيلا، لدرجة أن مصادر دبلوماسية غربية اتهمت الصحافة الجزائرية بالوسوسة والهلوسة.
غير أن الاتهام بالهلوسة لم يكن صحيحا. فعندما تبين أن بوتفليقة أقال علي بن فليس، اجتمع هذا الأخير مع الصحافة الجزائرية، وقال بالحرف الواحد: “لقد استقبلني مسؤول كبير في الرئاسة وقال لي: “ليست لديك مشكلة مع رئيس الجمهورية،
سوى رفض جبهة التحرير دعم بوتفليقة خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2004″.
نزل هذا الإعلان كالصاعقة على رؤوس الصحافيين، لأن قائل هذا الكلام ليس سوى الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، وهو حزب ساند من دون قيد أو شرط ترشح بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية الماضية.
قال بن فليس للصحافيين: “إن جبهة التحرير الوطني ليست ملكا لي، ولن تكون تابعة لأحد، وجيل المناضلين فيها الآن يُفكر بطريقة أخرى”.
ثم أكد بن فليس أنه منزوع الصلاحيات وأنه طرح مشروعا لإصلاح قطاع العدالة لم يُوافق عليه لحد الآن. اتهام خطير لرئيس الجمهورية لأن رفض إصلاح قطاع العدالة، معناه التساهل مع قضايا الرشوة والتهريب واستغلال السلطة.
خلل التقدير لدى بوتفليقة يكمن في تصوره أن جبهة التحرير الوطني، التي هو عضو فيها أيضا، ستقبل بكل مشاريعه الاقتصادية وتصوراته السياسية.
وما حدث هو أن جبهة التحرير الوطني دخلت في صراع داخلي “قاتل”، عندما رأت أنها تدعم مشاريع ليبرالية لا تتفق مع نظرتها وعلاقاتها مع المجتمع. ينضاف إلى هذا، أن نزع الصلاحيات من رئيس الحكومة، الذي هو أمين عام جبهة التحرير الوطني، أشعر الجبهة بالمذلة. شعور دفع بوتفليقة ثمنه غاليا جدا.
فلأول مرة منذ استقلال الجزائر، ترفض جبهة التحرير دعم مناضل لها يرأس البلاد، ولأول مرة يجد رئيس الجمهورية نفسه منقوصا من دعم حزب يدعم الرؤساء، وهو مغمض العينين.
عودة أحمد أويحيى!
تحرك آخر للرئيس الجزائري قد يزيد من بُعد جبهة التحرير عنه، وهي تعيينه لأحمد أويحي رئيسا للحكومة، وهو زعيم التجمع الوطني الديموقراطي، الخصم اللدود لجبهة التحرير الذي لا يملك أغلبية برلمانية تُخوّله المصادقة على الحكومة الجديدة.
تمثل هذه الصورة وضعا فريدا، لأن بوتفليقة عين في منصب رئيس الحكومة وزيرا من غير حزبه، ورفض تعيين رئيس حكومة من داخل جبهة التحرير، لأنه اقتنع، فيما يبدو، أن حزبه أدار له ظهره كلية، خاصة عندما أكد بن فليس للصحافيين أنه: “سيقضي على عيون البعض داخل الجبهة ممن يريدون إشعال نار الفتنة”.
في مثل هذا الوضع، لابد من التأكد من الطريقة التي سيتحرك بها كل من بوتفليقة وبن فليس للتحضير للانتخابات الرئاسية العام القادم.
لا شك أن كل تنظيمات المجتمع المدني، وما يُسمى بـ “الحركات الجمعوية”، مثل النقابات ومنظمات أبناء المجاهدين والشهداء، كلها ستعمل بأقصى سرعتها، بقناعة أو من دون قناعة.
وهنا، تملك جبهة التحرير الوطني اليد الطولى، وهي بإمكانها إقناع النقابات بخططها الاقتصادية التي تراعي ظروف المجتمع، ولا تقبل كل ما يقوله صندوق النقد الدولي.
وباستعانة بوتفليقة بأحمد أويحي، سيمنح له دعم منظمات عائلات ضحايا الإرهاب، وهي منظمات تميل لحزب أويحي، التجمع الوطني الديموقراطي، بسبب معاداته للإسلاميين بشكل عام.
غير أن هذا الدعم غير كاف بسبب السند التقليدي الذي تحظى به جبهة التحرير لدى المنظمات والجمعيات، بالإضافة إلى المناطق الداخلية من البلاد.
في مثل هذا الوضع السياسي المعقد، يحتاج بوتفليقة إلى شيئين اثنين ذكرتهما الصحافة الجزائرية المتهمة بالهلوسة، وهما موقف مؤيد من المؤسسة العسكرية، ودعم خارجي من الولايات المتحدة وفرنسا.
لكن قيادات الجيش الجزائري تؤكّـد أن المؤسسة العسكرية خارج اللعبة السياسية، وأنها لن تؤيد أي مرشح. تصريحات جميلة ستتأكد صحتها في الأيام القادمة. في المقابل، تبين أن بوتفليقة سيزور العاصمة الفرنسية باريس خلال الأيام المقبلة.
زيارة لا يُفهم منها سوى رغبة الرئيس الجزائري في الحصول على تأييد يجلب انتباه من هم في الداخل، تأييد فرنسي محتمل، لا يُعرف هل سيقبل به الوطنيون التقليديون أم لا؟ خاصة وأنه قادم من فرنسا.
يُسجل هنا أيضا، أن فرنسا نفسها، وحسب تصريحات المسؤولين فيها، لا تريد الخوض في مشاكل السياسة الداخلية الجزائرية، لأن تأكيد بوتفليقة للفرنسيين بشأن ضمان حرية الاقتصاد والاستثمار، أتقن بن فليس تكريره على مسامعهم حتى أصبح الفرنسيون لا يفرقون بين كلام الرجُـلين، وهو وضع لا يريح بوتفليقة بالضرورة.
كما أن دعم الولايات المتحدة لأحدهما مشكوك فيه، لأن علاقتهما بالولايات المتحدة ليست كعلاقة العاهل المغربي الملك محمد السادس بأمريكا، والنظرة الاستراتيجية الأمريكية للجزائر لم تتضح معالمها بعد.
هناك شعور قوي بأن المعركة على الانتخابات الرئاسية المقبلة في أبريل عام 2004 ستكون ساخنة وشديدة، لأنه، وبغض النظر عن وزن بن فليس وبوتفليقة ومن يدعمهما من أحزاب وجمعيات، حيث أن كليهما لا يمثل أكثر من 40% من مجمل عدد الناخبين الجزائريين، وتبقى بعد ذلك جماهير غفيرة من الوطنيين غير المتحزبين، والإسلاميين والعلمانيين والقبائل بطبيعة الحال.
وضع فريد يحلم به كل من يريد الديموقراطية والحرية السياسية للجزائر، وقد يكون هذا الحلم كابوسا لمن تعودوا على الدعم الحزبي المطلق، ربما لأنهم شعروا في وقت متأخر أن الجزائر تغيرت، وأنهم كانوا أبعد الناس عن الشعور بتغير الأوضاع.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.