بين تمييز واقع وتهجير في الأفق
لا زال العالم العربي يتجاهل أوضاع فلسطينيي 1948 رغم بعض المبادرات الجزئية والمحدودة.
ويخشى المواطنون العرب في الدولة الإسرائيلية من المحاولات الرامية إلى تثبيت مبدإ يهودية الدولة لأن ذلك قد يؤدي إلى تطبيق اليمين لشعار “تهجير العرب من وراء الخط الأخضر إلى المجهول”..
الشائع لدى المواطن العربي العادي أن هناك عربا أصيلين من أهل فلسطين ظلوا على أرضهم رغم كل شيء، وهم يحملون الجنسية الإسرائيلية.
ولكن فيما عدى ذلك، تظل حقيقة الجهل المعرفي بأحوال هؤلاء العرب مسألة سائدة. فلا حوار معهم ولا تواصل ولا تعارف ولا اتصالات مباشرة إلا فيما ندر وبين جهات عربية غير حكومية محدودة ونظيرات لها في المجتمع العربي الفلسطيني وراء ما يُـعرف بالخط الأخضر.
ومثل هذا الجهل المعرفي له أصوله ومسبباته التاريخية، كما له أيضا تبعاته، سواء على هؤلاء العرب أم على سكان البلدان العربية المختلفة، المهمومين بالشأن الفلسطيني ليل نهار.
نظرتان عربيتان للمعضلة
أحد هذه الأسباب يتحملها العرب عموما والنخب السياسية والفكرية خصوصا الذين آلـوا على أنفسهم ألا يمدوا خطوط التواصل مع أهلهم في الداخل لأنهم إسرائيليون، أو بعبارة أخرى يحملون جنسية العدو، وكيف لهم أن يتواصلوا مع العدو وهو في حرب معهم، وهم في حرب معه، وهو أمر كان مفهوما بقوة في ظل الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، حيث سادت الأفكار القومية الزاعقة وارتفعت حدة المواجهة النظامية، وكانت الحروب النظامية هي معيار المواجهة البارز. وفى ظل بيئة سياسية كهذه، فإن أي تفكير في نوع من التواصل كانت له محاذيره التي لم يجرؤ أحد على مجرد الإقتراب منها.
وحتى مع تغيير الأوضاع جزئيا، وتغيير طبيعة المواجهة، بقيت النظرة إلى فلسطيني 48 على حالها، وحتى في الدول التي أقامت معاهدات سلام مع إسرائيل كمصر والأردن، هناك قرار شعبي بمقاومة التطبيع، تلتزمه كل المنظمات الجماهيرية والمدنية كالنقابات والجمعيات الأهلية والرياضية والثقافية والحزبية.
والتطبيع هنا موجّـه بالأساس لمحاصرة أي مد للنفوذ الإسرائيلي خشية أن يجد له موطئ قدم في المجتمعات العربية، وهو شق مشروع من المقاومة المدنية طالما أنه لا يوجد سلام ولا توجد حقوق عربية قد أعيدت إلى أهلها الشرعيين.
لكن السؤال الذي يطل بين الحين والآخر هو، هل يدخل التواصل العربي مع فلسطينيي 48 ضمن هذا التطبيع المرفوض والمكروه شعبيا؟ هنا توجد نظرتان: الأولى منهما سائدة وطاغية، وترى الأمور من منظور الهوية الإسرائيلية فقط، وتؤكّـد أن مقاومة التطبيع لا تعرف الفرق بين فلسطينيي 48 وبين الإسرائيليين، فكلهم واحد، على الأقل من منظور الجنسية، ومحظور التعامل معهم.
والنظرة الثانية محدودة التأثير وليس لها مدافعين إلا فيما ندر، وتقوم على أن هناك فوارق جوهرية بين حمل الهوية الإسرائيلية قسرا، وبين الانتماء الوطني العربي الفلسطيني، وأنه لا يمكن معاقبة من تشبّـثوا بالأرض لمجرد أنهم أجْـبروا على حمل هوية إسرائيلية.
قبل القانون العسكري .. وبعده
السبب الثاني في زيادة الجهل المعرفي العربي بأوضاع الأهل المغلوبين على أمرهم وراء الخط الأخضر، يتمثل في الطرف الآخر وسياساته بالحصار والمنع والضغط التي مورست على الفلسطينيين الذين أصروا على البقاء في أرضهم الأصيلة.
فلمدة عقدين متتالين، طبّـق على هؤلاء الفلسطينيين القانون العسكري، باعتبارهم بقايا “الأعداء” المطلوب التخلص منهم، ولأنهم جسم غريب فى دولة تقوم أساسا على اعتبارات دينية لا تقبل غير اليهود كمواطنين فيها.
وبعد أن رفع القانون العسكري عام 1966، تحوّل الأمر إلى تطبيق سياسات منهجية في التمييز بين الفلسطينيين واليهود على كافة الأصعدة، وفيما بين الفلسطينيين أنفسهم تطبيقا لسياسة فرق تسد.
فهناك الفلسطينيون، وهناك الدروز والمسيحيون، وهناك البدو وهم الفلسطينيون العرب الذين يعيشون في صحراء النقب، وكأن كل منهم يشكل قومية في حد ذاتها عليها أن تتصارع مع القومية الأخرى، وليس مع سياسات التمييز والقهر التي تطبقها المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بكل فروعها وأشكالها.
عشرون في المائة ..
كانت الفكرة الرئيسة وما زالت في هذه السياسات التمييزية بسيطة شكلا، ولكنها معقدة مضمونا وتطبيقا، وهي أن عرب 48 ليسوا بمواطنين كاملي المواطنة. فهم من درجة أدنى من نظرائهم اليهود وعليهم أن يبقوا هكذا، وإلا فعليهم الرحيل إلى خارج الأرض والوطن الأصلي.
ومن بين آليات التمييز المنهجي، المحاصرة ومنع التواصل مع الدول العربية لوجود حالة حرب، ولم يتغير الحال كثيرا حتى بالنسبة للدول التي وقّـعت معاهدات سلام مع تل أبيب. ويذكر هنا أن عدد فلسطينيي 48 يصل حاليا إلى 1.3 مليون نسمة يشكلون حوالي 20% من إجمالي عدد سكان إسرائيل، وهم موزعون على عدة مناطق، أبرزها الجليل في الشمال (55%)، والمثلث (40%)، والنقب (10%)، والساحل (5%)، ويُدين بالإسلام حوالي 75% منهم، والنسبة الأخرى موزعة على الطائفتين المسيحية والدرزية.
ملامح التمييز الاجتماعي
التمييز المنهجي فى الداخل له ملامح عديدة، نشير إلى بعضها لعلها تكشف بعض جوانب الصورة. فحسب دراسة أعدها د. نايف الخالدي عن “الوضع الاقتصادي لفلسطينيي 48.. استقلال أم اعتماد”، يتراوح معدل دخل الفرد العربي في إسرائيل في حدود 1000 دولار أمريكي، أما دخل الفرد اليهودي فيقارب حد 16 ألف دولار أمريكي في العام، حسب البيانات الدولية، أما كثافة السكان العرب في الغرفة الواحدة فيصل إلى 1.44 فرد في البلدات العربية، يقابلها 0.88 فرد للغرفة الواحدة في البلدات اليهودية، والحاصلون على شهادات التوجيهي في الوسط العربي تبلغ 38%، في حين تبلغ في الوسط اليهودي أكثر من 85%.
وعلى الصعيد الجماعي، فما يخصص لجميع السلطات البلدية العربية في حدود 4% من إجمالي 3.5 مليار دولار مُـخصصة لما يُـسمى بتطوير البلديات عموما، بمعنى أن 20% من سكان الدولة يخصص لهم 4% من ميزانية التطوير الاجتماعي والاقتصادي، والباقي سيوجه بالطبع إلى الوسط اليهودي.
وفي حين توجد 80 سلطة محلية عربية، فقد توقفت 30 منهاعن دفع رواتب موظفيها لعدم توافر الموارد والمخصصات المالية. ولذلك، فإن نسبة البطالة بين الوسط العربي تصل إلى 70%، لاسيما في الجليل. والهدف من مثل هذا التضييق واضح تماما، وهو دفع الشباب العربي الفلسطيني إلى المغادرة والهجرة إلى الخارج، خاصة إذا عرفنا أن ما يُـسمى بمخصصات البطالة تمنع عن الشباب العربي الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما.
تقول الأرقام أيضا إن المناطق الإنتاجية والصناعية في الوسط العربي عبارة عن مناطق عشوائية لا علاقة لها بالصناعة أو الإنتاج بالمعنى الحديث. فمن بينها30% لا يوجد بها ماء أو كهرباء، و22% منها يوجد بها خط تليفوني، والجميع يشترك في عدم وجود بنية تحتية من أي نوع. أما الإنتاج في هذه المناطق، فلا يزيد عن صناعات تقليدية وبسيطة وحرفية، ولا علاقة لها البتة بالصناعات الحديثة، وكل ما في الورش والمصانع الفلسطينية عبارة عن تكنولوجيا بسيطة وعمالتها غير ماهرة وغير مدربة.
وثمة رقم آخر ذو دلالة ويكشف عن التمييز في الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية. فمتوسط حالات الوفاة للأطفال حديثي الولادة في الوسط اليهودي أقل من 4 وفيات لكل ألف حالة ولادة، أما في الوسط العربي فيرتفع العدد إلى 9 حالات من كل 1000 حالة. أما في المجتمع العربي في النقب، فتصل النسبة إلى 17 حالة، وهو ما يوضح التناقص العمدي في الخدمات والرعاية الصحية التي تقدم للمواطنين العرب عموما.
التمييز سياسيا وقانونيا
التمييز المنهجي والعمدي يطال أيضا العمل السياسي بكل أشكاله، وحتى هؤلاء الذين ينتمون إلى مؤسسات إسرائيلية حاكمة كالكنيست ليسوا بعيدين عن التمييز والانتهاكات والاعتداءات الجسدية والضرب بالهراوات والتضييق عليهم في تحركاتهم، والتحريض عليهم في وسائل الإعلام باعتبارهم مشكوك في مواطنتهم، وأن للبعض منهم صلات مع منظمات عدوة.
فمن بين تسعة نواب عرب، تم الاعتداء الجسدي على ثمانية منهم من قبل أجهزة الشرطة والأمن أثناء مشاركتهم في التظاهرات والاحتجاجات، وفي آخر دورة برلمانية تم فتح 25 تحقيقا ضد تسعة أعضاء عرب في الكنيست، تركز على خطبهم وكلماتهم السياسية باعتبارها ضد الدولة.
وحسب حسين أبو حسين، الناشط الفلسطيني في مجال الحريات ومناهضة التمييز، فإن عمل المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية بات متأثرا بعمليات التحريض والعنصرية والكراهية التي انتشرت في الشارع اليهودي، مما يحدوه دائما إلى فتح تحقيقات مع النواب العرب، مما يشغلهم عن عملهم السياسي الطبيعي ويؤثر على صورتهم وأدائهم.
وتشير الدراسات إلى أن عمليات تقييد مشاركة القيادات السياسية العربية في النشاط البرلماني الفلسطيني، هدفه الرئيسي حرمان الأقلية العربية من المشاركة السياسية الفاعلة وفقا للقوانين المعمول بها، ومن ثم إثارة الإحباط السياسي لديهم بكل الصور.
التسوية ونتائجها.. يا لها من نتائج!
التسوية السياسية أيضا لها نتائجها الكبرى على أوضاع فلسطينيي 48، وذلك بالرغم من أنهم ليسوا مشاركين فيها، إلا أنهم موضوع لها. فهم كما يقولون، الضلع الثالث الغائب للقضية الفلسطينية، والضلعان الآخران، هما الفلسطينيون تحت الاحتلال في غزة والضفة، والمفترض أنهم الذين سيشكلون دولة فلسطين الموعودة، هذا إذ قامت أصلا.
والضلع الثاني، فهم اللاجئون في الشتات، والذين تقر حقوقهم بالعودة إلى ديارهم أو التعويض، قرارات دولية عديدة، في حين جاء ما يعرف بضمانات الرئيس بوش لشارون لتُـطيح بهذه القرارات، وكأنها غير موجودة.
ولا يشك أحد في أن هذه التعهدات، حتى بالرغم من بعض التراجعات اللفظية في الموقف الأمريكي، قد جعلت خريطة الطريق مجردة من أي فعالية أو تأثير. فليس هناك زمن محدد للتفاوض أو جدول معين يلتزم به الإسرائيليون، والمهم هنا أن هذه التعهدات قد أطلقت يد شارون في أن يجعل حلم الدولة الفلسطينية ذات السيادة مجرد سراب كبير، فلا حدود مضمونة، ولا عودة للاجئين إلى ديارهم، ولا تواصل جغرافي بين أجزائها بأي حال.
لا يتوقف التأثير المتوقع لهذه الضمانات غير المتوازنة عند حد الفلسطينيين تحت الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، أو هؤلاء اللاجئين الذين يعيشون في الشتات وينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى ديارهم السليبة، ولكن يمتد تأثيرها إلى الفلسطينيين الذين ظلوا يعيشون في كنف الكيان العبري نفسه، ولأسباب قانونية، فهم ليسوا مُـخولين بالمشاركة في عملية التسوية بأي حال، رغم أن النتائج المرجحة ستمس مصيرهم بقوة.
فحق العودة مثلا الذي تعهد الرئيس بوش بعدم احترامه أو تطبيقه، يحرم فلسطينيي 1948 من عودة ذويهم المتواجدين في الشتات، ومن ثم يجعل حقوق اللاجئين في الخارج مُستباحة بكل المعاني والسبل للدولة الإسرائيلية. كما أن الجدار الفاصل يمثل وبالا إضافيا عليهم.
فوفقا للخطط الإسرائيلية وبعد استكمال الجدار الفاصل، لن يكون هناك أي طريقة للتواصل الطبيعي بين فلسطينيي 48 وراء الخط الأخضر والفلسطينيين الذين يعيشون في المعازل والكانتونات التي ستُـنشأ بحكم مسار الجدار في الضفة الغربية، وهو ما سيترتب عليه مشكلات اجتماعية واقتصادية وإنسانية لا حدود لها، فضلا عن أنه سيقيد أي نوع من التضامن السياسي بين هاتين الكتلتين من الفلسطينيين.
ومعروف أنه طوال الفترة اللاحقة لعام 1967 وبعد أن احتلت إسرائيل قسرا الضفة الغربية، أتاح ذلك الوضع فرصة التواصل بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وكان من بين نتائج هذا التواصل تدعيم الهوية الوطنية الفلسطينية للأقلية العربية في إسرائيل، ونشوء منظمات وجمعيات داخلها أسهمت بكل قوة في مساعدة الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، وفي صيانة الأوقاف الإسلامية، وفي مقدمتها المصلى المرواني في المسجد الأقصى، وكذلك المقدسات المسيحية العربية في بيت لحم وغيرها. أما فى ظل الجدار الفاصل، سيكون متعذّرا مواصلة مثل هذه الأنشطة، ومثل هذا الترابط المصيري.
“من وراء الخط الأخضر إلى .. المجهول”
ولعل واحدة من القضايا التي تشغل بال فلسطينيي 1948 الناتجة عن التعهدات الأمريكية الأخيرة لشارون، تتعلّـق بما ورد حول تأييد الولايات المتحدة للخطط الإسرائيلية الخاصة بما يسمى “تطوير النقب والجليل”. ووفقا للمفهوم الإسرائيلي، فإن تطوير النقب يعني التخلص من سكانها العرب، وبناء المزيد من المستعمرات اليهودية فيها، وجلب المستعمرين إليها.
ويتردد في الأروقة الإسرائيلية أن خطط مصادرة الأراضي في النقب ستشمل 240 ألف دونم، تمثل في الواقع ربع إجمالي الأراضي التي يعيش عليها فلسطينيو 1948، وتهجير حوالي خمسين ألف فلسطيني من سكان أربعين قرية عربية موجودة قبل قيام دولة إسرائيل نفسها، ولكن لا يُعترف بها قانونيا.
وسوف يتم إنشاء ستة تجمعات سكنية في أماكن متفرقة لتنقل السكان العرب إليها، والأماكن المطروحة معزولة ومحرومة من كل عناصر البنية الأساسية، وهو ما سيحول حياة هؤلاء العرب إلى جحيم مطبق.
إذا وضعنا هذه العناصر مع الفكرة الحاكمة التي توجه المؤسسات الإسرائيلية بشأن جعل الدولة يهودية خالصة، فإننا نكون أمام نقطة فاصلة أيضا بالنسبة للعرب المقيمين داخل إسرائيل. فالتهجير القسري بعيدا عن أراضيهم التي عاشوا عليها منذ مطلع التاريخ، يظل احتمالا قائما وبقوة، كما أن نضالهم من أجل الحصول على المساواة كمواطنين في الكيان السياسي الذي يعيشون فيه قسرا يُـصبح هو الآخر معرّضا للخطر.
ولذلك، فأحد المطالب المهمة التي يتفق عليها فلسطينيو 48 يتلخص في انه يجب ألا يصل الأمر إلى تثبيت مبدإ يهودية الدولة في أي وثيقة، حتى لو كانت دعائية أو مجرد مشروع غير رسمي، كما هو الحال في ما يُعرف بـ “مبادرة جنيف”، لأن ذلك معناه ضوء أخضر لكل اليمين الإسرائيلي لتطبيق شعار “تهجير العرب من وراء الخط الأخضر إلى المجهول”.
ومن غير المُـتــصور – مبدئيا- أن أحدا يريد لهؤلاء أن يهجروا قسرا من أراضيهم، حتى يستمتع بها المستعمرون الإسرائيليون وحدهم.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.