بين معوّقات الواقع وحسابات المصالح
شهد اليمن على مدار الأيام القليلة حدثين هامين، سلّـطا الضوء مجددا على إشكالية الإننقال الديمقراطي والإصلاحات السياسية في اليمن والمنطقة العربية عموما.
الحدثان كشفا بوضوح أن الإنتقال الديمقراطي في المنطقة، ما زالت تتحكم فيه مُـعطيات واقع اجتماعي وثقافي وسياسي مختلف، يعمل مع مصالح أطراف محلية ووطنية وإقليمية ودولية على تأجيله.
شهد اليمن على مدار الأيام القليلة حدثين هامين، سلّـطا الضوء مجددا على إشكالية الإننقال الديمقراطي والإصلاحات السياسية في اليمن والمنطقة، وكشفا بجلاء أن الطريق إلى تحقيق ذلك تكتنفه الكثير من معوقات الواقع وتتحكم به حسابات المصالح.
فمن جهة، كان سيناريو تمسّـك الرئيس اليمني علي صالح بقراره بعدم الترشح للإنتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها في سبتمبر القادم، ثم عُـدوله في ظرف ثلاثة أيام عن قراره ذاك، استجابة لما سُـمي بالضغوط الشعبية التي احتشدت مطالبة الرئيس صالح الذي يحكم اليمن منذ 28 عاما، بالعُـدول عن قراره ذاك، وهو ما حصل.
ومن جهة أخرى، احتضنت العاصمة صنعاء مؤتمر شركاء برنامج حوار دعم الديمقراطية (دي أيه دي) في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي تتبنّـاه الدول الصناعية الثمان لدعم الإصلاحات السياسية في المنطقة، وتتولى تنفيذه كل من اليمن وإيطاليا وتركيا بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني في الثلاث الدول، وكلا الحدثين ألقيا الضوء على حدود وفرص الإنتقال الديمقراطي، ليس في اليمن، بل والمنطقة على حد سواء.
هيمنة الثقافة والسياسة التقليدية
فعدول الرئيس صالح عن قرار عدم ترشحه بالشكل الذي جرى، أعاد طرح النقاش حول الديمقراطية. ويرى المتابعون والمراقبون أنه، على الرغم من الطابع السجالي الذي ميّـز تلك النقاشات، فإنها تكاد تلتقي على أن القرار والتراجع عنه بالمسار الذي آل إليه ليس سوى نتيجة تعكس مدى هيمنة الثقافة السياسية التقليدية في المجتمع اليمني، التي حركت الشارع، ومؤشرا على محدودية تأثيرالأطر السياسية الحديثة من ناحية، ونتيجة طبيعية لهيمنة موازين القوى والمصالح من ناحية ثانية، حيث أن من يمتلك السلطة ويتصرف بها، يمتلك المجتمع ويتصرّف بتوجيهه، خاصة في ظل قصور المؤسسات المدنية للمجتمع، واحتكار مصادر السلطة ومؤسساتها، التي تظل الأقدر والأكثر تأثيرا في مسار التحولات السياسة والإجتماعية والاقتصادية.
وتجمع جُـل الآراء التي عبر عنها أولئك المراقبون، على أن المؤسسات المؤثرة والفعّـالة في عملية الإنتقال الديمقراطي، كانت حاضرة بقوة إلى جانب الرئيس صالح، الذي قرر في نهاية المطاف أن يدخل اللعبة الإنتخابية المقبلة، معززا بحزبه الحاكم وهيمنته على الحياة السياسية وعلى كل وسائل الإكراه المادي والمعنوي التي توفرها الدولة للحزب، والتي بها يتحدد شكل ومضمون “النهج الديمقراطي”، خاصة في ظل شيوع الثقاقة السياسية التقليدية التي بدت حاضرة بقوة وملازمة لتطورات هذا الحدث.
حسابات خاصة .. و”خصوصيات”
غير بعيد عن تلك التطورات، احتضنت العاصمة صنعاء مؤتمرا دوليا حول الديمقراطية والإصلاح السياسي وحرية التعبير يومي 25 و26 يونيو الجاري، جُِمع إليه حوالي 400 مشارك يمثلون حكومات ومؤسسات المجتمع المدني في الدول الصناعية الثمان، وبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
النتائج التي تمخضت عن متابعة المؤتمر أكدت مرة أخرى على أن مثل هذه الفعاليات التي تزايدت في الآونة الأخيرة، لا يمكن لها أن تنوب عن الفعالية الذاتية في مسار التحول الديمقراطي في بلدان المنطقة.
فعلى الرغم من أن لسان حال المكوّنات التي تنادت إلى هذا المؤتمر يؤكد على العمل على دمقرطة المنطقة وإحراز تقدم للإصلاحات السياسية المنشودة، ومن أن الجميع يشدد على ضرورة تهيئة شروط الانتقال الديمقراطي، إلا أنهم يتباينون في كيفية تحقيق ذلك، وبدا أن لكل طرف مفهومه الخاص الذي لا ينفكّ عن حساباته الخاصة.
فالدول الصناعية المبادرة إلى المساعدة على الانتقال الديمقراطي في المنطقة، تصوُّرها ذاك يُـفهم بأنه ينفَـصل عن استراتيجية الهيمنية على المنطقة وتأمين أسواقها لسلعها، وبالتالي، فإن مسعاها لا يخلو من شُـبهة، لاسيما من وجهة نطر غالبية شعوب المنطقة وحكوماتهم، التي غالبا ما تتعاطى مع مثل تلك المشاريع بارتياب، ولا ترى في دعوات الإصلاح ومؤسسات المجتمع المدني سوى أدوات لتنفيذ مشاريع تلك الدول، وهو ما ينسحب على مضمون الديمقراطية التي تُـنادي بها حكومات المنطقة، وتكاد تتّـفق عليها حتى الدول الغربية، التي أبدى ممثلوها في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر حرصا كبيرا على التذكير بمكوّن الخصوصية، الذي يرى فيه ممثلو المجتمع المدني مجرد ذريعة للتلكّـؤ في تنفيذ إصلاحات سياسية جوهرية.
إعلانان مختلفان
المعضلة الأخرى، تتلخص في أن مؤسسات المجتمع المدني، وإن كانت تلتقي في مطالبها الديمقراطية مع الضغوط الغربية، إلا أنها تفترق معها حول أنسنة العولمة وتدجين غول التوحّـش الليبرالي، الذي ما فتئت تُـروّج له تلك البلدان، مما ينعكس بالضرورة على تصور مضمون تلك الإصلاحات وأهدافها.
إضافة إلى ذلك، برز اختلاف كبير في وجْـهات النظر بين المشاركين حيال بعض القضايا ذات الصّـلة بتهيئة الشروط للتحول الديمقراطي، وخصوصا عند النقاش حول صياغة مفردات البيان الختامي.
ففي الوقت الذي طالب فيه ممثلو مؤسسات المجتمع المدني بإعلان قوي وصريح، يُـلزم الدول العربية بالشروع بإصلاح ديمقراطي حقيقي، كان ممثلو الحكومات يُـصرّون على أن تربط تلك الإصلاحات بحدود التشريعات والقوانين الوطنية، كما لم تنجح جهود ممثلي منظمات ومؤسسات المجتمع المدني بتضمين البيان الختامي توصية تدعو بلدان المنطقة إلى حظر اللجوء إلى إعلان الطوارئ وإلغائه في البلدان التي تعمل به.
وقد لقي المطلبان معارضة شديدة من قبل ممثلي الحكومات، خاصة مصر والأردن، أما ممثلو الحكومة اليمنية، فقد عارضوا بشدة توصية تدعو اليمن تحديدا، ودول الخليج، إلى احترام الحريات النقابية والمهنية.
وقد أدت تلك الاختلافات والتبايانات في وجهات النظر حيال تلك القضايا إلى تأخير صدور إعلان صنعاء في الوقت المقرر له من ظهيرة اليوم الأخير للمؤتمر، وأضطر المشاركون إلى تأجيله إلى المساء، وبذلت محاولات للتقريب بين وجهات النظر، أسفرت عن تلطيف لهجة إعلان صنعاء والتحول به من مستوى التخصيص لدول بعينها إلى التجريد والتعميم على جميع بلدان المنطقة. وقد بدا ذلك واضحا من خلال صدور إعلانين مختلفين عن المؤتمر نُـشرا في وسائل الإعلام اليمنية.
تناقض المصالح وتضاربها
عموما، فإن الانطباع الذي خلّـفه هذا اللقاء لدى المتابعين لمثل هذه الفعاليات، هو أن تناقض المصالح وتضاربها بين أطراف تشتغل على قضايا تُـعد في الأصل محطّ استقطاب ومحلّ التقاء وتنافس لتلك المصالح المتصارعة أصلا، تعمل على إضعاف مردودية مثل هذه الملتقيات وما يصدر عنها من توصيات أو إعلانات لا تسهم مُـطلقا في تأمين طريق الانتقال الديمقراطي، علاوة على أنها لم تستطع أن تحقق أي فاعلية للعمل الجمعوي المدني، باستثناء مشاركتها في هذه الملتقيات التي نعتها أحد المشاركين بأنها أصبحت “مجرد ظواهر صوتية”.
فالمجتمع المدني يبقى عاجزا عن أي تأثير فعّـال بسبب ضُـعف مكوّناته الذاتية أو ما يتعرض له من عملية تهميش وإضعاف من قبل الحكومات، فضلا عن انصرافه لممارسات أبعدت كثيرا من هيئاته عن الرسالة التي انتدبت نفسها لأدائها في مسار الشراكة من أجل الإصلاحات المنتظرة، وبالتالي، يقول الكثيرون ممّـن راهنوا على المجتمع المدني، إنهم لم يعودوا يُـعوّلون عليه اليوم كثيرا.
لذا، لم يكن لمثل هذه الفعالية الأصداء ذاتها التي كانت تُـحيط بمثيلتها في السابق، بعد أن كرّست التجربة القناعات لدى العديد من الأوساط، أن مثل هذه التظاهرات لم يكن لها أي تأثير على مجرى التحوّلات التي ما زالت خيُـوط تحريكها تجري من خارج أطر المجتمع المدني، الذي تراجع الرّهان عليه وسط مختلف النخب السياسية والفكرية، التي لم تُـخف تذمّـرها من انغلاق هيئاته ومؤسساته على أشخاص وأطراف محدّدة جعلتها كما لو هي منبتة عن أصولها المجتمعية، حتى أن هناك من لم يتحرج من القول أن الهيئات الممثلة للمجتمع المدني أصبحت أندية مغلقة، تضم في عضويتها متعهّـدين لتنظيم مثل هذه التظاهرات الاحتفالية، ليس لهم من هدف من ورائها سوى جني الثمار المادية، وبعضها تحولت إلى مجرد مؤسسات شخصية، بعد أن كانت فكرتها وأهداف تأسيسها خلق أطر مدنية للتعبير عن مجتمع مدني.
لذلك يذهب المراقبون إلى أنه إذا كان حال منظمات المجتمع المدني على هذه الشاكلة في نظر الوسط النخبوي الذي تمثله، فكيف يكون الأمر في الأوساط الإجتماعية التقليدية التي يؤكّـد رموزها دوما على أنها الطرف الفعّـال في تحريك مسار التحولات إلى جانب الحكومات، التي لا تنفك عن هذا الوسط في أغلب بلدان المنطقة؟
إجمالا، يبدو جليا أن الإنتقال الديمقراطي في المنطقة، ما زالت تتحكم فيه مُـعطيات واقع اجتماعي وثقافي وسياسي مختلف، يعمل مع مصالح أطراف محلية ووطنية وإقليمية ودولية على تأجيل موعد الإنتقال الديمقراطي، الذي طالما شغل المنطقة والعالم على السواء.
عبدالكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.