تاريخ الدساتير في المنطقة العربية
يفاجأ الكثيرون في الغرب حين يسمعون أن المنطقة العربية مرّت منذ منتصف القرن التاسع عشر بمرحلة دستورية، وليبرالية غنية للغاية.
كما يفاجأون أكثر حين يعلمون أن ظروف نشأة هذه الظاهرة تشبه إلى حد بعيد ظروف أو أسباب ظهورها في الغرب.
نستعرض في هذا التقرير مجمل التجارب التاريخية الدستوروية في المنطقة العربية.
ففي بولندا وأمريكا وفرنسا، التي نشأت فيها الدساتير الحديثة الأولى، كان القادة السياسيون آنذاك يعملون في ظروف صعبة تشهد انقسامات اجتماعية عميقة: أزمات مالية محبطة، حكومة مركزية مشلولة، وتهديدات دولية خطيرة، كل هذا دفعهم إلى محاولة إعادة تشكيل مؤسسات بلادهم السياسية لجعلها أكثر فعالية وقدرة على الصمود أمام هذه التحديات الجسيمة عبر التطويرات الدستورية.
لكن الفشل كان من نصيب جهود القادة في هذه الدول الثلاث. فبولندا زالت من خارطة أوروبا طيلة قرن كامل. والدستور الأمريكي في صيغته الأولى أظهر قصر نظر، إذ أنه لم يستطع حل مشكلة العبودية بالطرق السلمية والسياسية، فأدّى ذلك إلى حرب أهلية دموية. لكنه مع ذلك، نجا من هذه التجربة ونجح في البقاء، وفرنسا نجت فقط من خلال التخلي عن بعض مبادئها الجمهورية المتضمنة في دستور 1791.
وبالمثل، واجهت حكومات الشرق في تونس عام 1861، وإسطنبول عام 1867، والقاهرة عام 1882، أزمات مشابهة لتلك التي واجهها الأمريكيون في فيلادلفيا عام 1787، وفي باريس ووارسو عام 1791.
فقد حاول الإصلاحيون تعزيز الحكومات المركزية الضعيفة المهددة بالمخاطر الخارجية، والقيود المحلية، والأزمات المالية. لكنهم لم يكونوا أكثر نجاحا من زملائهم الغربيين. فالدستور التونسي بقي لثلاث سنوات فقط، وبالتأكيد لم يفعل شيئا لمنع ضم تونس في النهاية إلى ممتلكات الإمبراطورية الفرنسية عام 1881.
الدستور العثماني عُـلّق بعد حياة فعلية لم تدم سوى سنتين اثنتين، والقانون الأساسي المصري كان حتى أقصر عمرا، إذ علّق في السنة نفسها التي كتب فيها على يد الجيش البريطاني الغازي.
بيد أن هذا الفشل لم يعن مسح الظاهرة الدستورية والليبرالية التي كانت في الواقع لا تعني تراكم تجاربها وإصلاحاتها في المنطقة طيلة عشرات السنين.
ففي الدولة العثمانية بدأت المحاولات الأولى مع السلطان سليم الثالث (حكم من 1780 إلى 1807)، ثم مع مصطفى الرابع (حكم عامي 1807 – 1808) لإصلاح الدولة والمجتمع المحافظين بشدة. وبرغم فشل هذه الإصلاحات، واصل السلطان عبد المجيد (حكم 1839- 1861) المحاولة، وقد أسفر هذا عن عهد “التنظيمات” الشهير الذي تضمّـن إصلاحات ليبرالية في حقول القانون والإدارة والتعليم والأقليات.
بيد أن الأهم في هذه الجهود، كان الدستور الذي أعلنه السلطان عبد الحميد الثاني (حكم من 1876 إلى 1909)، والذي اضطر إلى إعادة العمل به عام 1908 بعد تجميده، على إثر الثورة الدستورية لـ “تركيا الفتاة”.هذا الانقلاب الدستوري خلق أجواء فرح لم يسبق لها مثيل في الشرق الأوسط الإسلامي. فالجماهير الفرحة من الأتراك والعرب واليهود واليونانيين والصرب والبلغار والأرمن نزلت إلى الشوارع مقبّـلة بعضها البعض ومتعهدة بأخّوة دائمة.
وكان قد رُوّج للدستور على أنه العلاج السحري الشامل والفوري لكل أمراض الإمبراطورية التي برزت خلال الحقبة الاوتوقراطية، بما في ذلك حتى الإرهاب الذي شنّته الأقليات القومية، المطالبة إما بالاستقلال التام أو بالحكم الذاتي من داخل الإمبراطورية.
وهكذا، فقد اعتقد اليونانيون والأرمن أن مجرد تعاونهم مع “تركيا الفتاة” سيجعل النظام الجديد مستعدا لتلبية كل مطالبهم. فقد بدا للجميع في لحظات، أن أجواء التوتر والعنف التي اندلعت في السنوات السابقة في طريقها إلى الزوال، وأن الجميع سينال حقوقه عبر الدستوروية، وسيتم الحفاظ على الإمبراطورية.
تعزّزت هذه الآمال حين صدرت المراسيم الإمبراطورية في 2 و3 أغسطس 1908، التي تعدّل المادة 113 من دستور 1876، والتي كانت تعطي السلطان صلاحيات أوتوقراطية، وهذا ما سمح بحل الشرطة السرية وإجبار باقي قطاعات قوى الأمن على العمل وفق الدستور، ومُـنح كل العثمانيين الحقوق القانونية المتساوية، بغضّ النظر عن الإنتماء الديني.
فلا أحد بعد الآن سيُـعتقل أو يُـسجن بدون مبرر، واقتحام البيوت بات ممنوعا إلا بقرار من المحكمة ووفق القوانين المرعية، وأصبح في وسع الجميع السفر إلى الخارج لأي هدف كان ومن دون الحصول على إذن خاص، ولم يعد في وسع الحكومة دراسة ورقابة المطبوعات بشكل مُـسبَـق.
وقُـدمت وعود أخرى تتخطى دستور 1876: لم يعد في وسع الحكومة الاطلاع على الرسائل الخاصة والمطبوعات المرسلة بالبريد، وبات التعليم والدراسة حرا من دون أي قيد أو شرط، والموازنة يجب أن تنشر سنويا.
وفي 16 أغسطس 1908 أصدرت الحكومة برنامجا مفصّـلا يعد بالإصلاحات المالية وبإعادة تنظيم الإدارة والقوات المسلحة وموازنة الميزانية وتطوير الاقتصاد، وتشجيع التعليم والعلم، وأصبح في مقدور المسلمين وغيرهم الانضمام إلى الجيش.
أما الميزات الخاصة التي تمتّـع بها الأجانب في الإمبراطورية بفعل الامتيازات، فانتهت من خلال اتفاقات مع القوى الأجنبية، ومن خلال إصلاح الحكومة بشكل يسمح للأجانب بالحصول على حقوقهم، إضافة إلى أن الميزات الخاصة التي حصلت عليها الملل Millets (القوميات والطوائف) ستـُلغى بالتدريج، طالما أن كل الرعايا من مختلف الأديان سيحصلون على الحقوق نفسها والوضعية القانونية نفسها. وتلا هذا البرنامج سلسلة كاملة من التدابير والإجراءات، منها إطلاق سراح السجناء، وإلغاء المحاكم العرفية وتقليص البيروقراطية.
وفي هذه الأثناء، ومع وجود حرية صحافة وحرية تشكيل أحزاب بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، انتشرت الصحف والأحزاب السياسية انتشار النار في الهشيم، وتم تحويل جمعية الاتحاد والترقي التي كانت القوة المحركة لانقلاب 1908 إلى حزب، كما شكّـل الأمير صباح الدين حزبا آخر، هو حزب الاتحاد الليبرالي العثماني.
ثورات واضطرابات
فهل كان يمكن لهذا الربيع الدستوري أن ينقذ الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسير على طريق الانحدار منذ أكثر من قرنين من مصيرها المحتوم؟ كلا، يجيب الباحث البريطاني ستانفورد شو في كتابه “تاريخ الإمبراطورية العثمانية”.
فهذه التجربة الدستورية بدأت تنهار حتى قبل اندلاع الحرب العالمية، إذ أن تركيا الفتاة كانت تنقصها الفطنة السياسية والخبرة في الحكم. كانت مهمة رجال هذه المنظمة صعبة وشاقة: تحويل دولة عاجزة متخلّـفة إلى دولة قوية حديثة قادرة على مواجهة تحديات العصر، ومما زاد من تعقيد الأمور، العداء الذي كانت تُـبديه الدول المجاورة للأتراك، وتفاقم مطالب الشعوب غير التركية التي كانت تتألف منها الإمبراطورية، لم يكن للشبان الأتراك أن يتوقعوا أي عون من هذه الفئات.
وبعد ثلاثة أشهر من انقلاب 1908 الدستوري الناجح، اغتنمت النمسا الفرصة السانحة، فرصة الفوضى والبلبلة، وضمت إليها البوسنة والهرسك، وأعلنت بلغاريا استقلالها التام.
وفي 1911 و1912 وجّـهت إيطاليا، بفعل شهوتها الاستعمارية المستجدة والضغط الديموغرافي فيها، قواتها نحو شمال إفريقيا، واحتلت طرابلس الغرب، وبنغازي في ليبيا. وكان أحد الضابطين اللذين أنيطت بهما مهمة الدفاع عن ليبيا، هو مصطفى كمال (الذي سيصبح لاحقا اتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة).
وفي هذه الأثناء، عقدت الدول البلقانية السلفية الثلاث، صربيا والجبل الأسود وبلغاريا حِـلفا فيما بينهم ضد أسيادهم السابقين الأتراك، وانضمت إليهم لاحقا اليونان التي كانت استولت على مدينة سالونيكا.
وفي السنة التالية (1913) أدى التحالف بين صربيا وبلغاريا إلى تقاسم مقدونيا العثمانية، مما أسفر عن حرب جديدة في البلقان أدّت إلى خسارة الإمبراطورية العثمانية لكل مملكاتها الأوروبية، حتى أن مدينة أدريانوبل المجاورة لإسطنبول، ذات المركز الاستراتيجي والتجاري، والتي كانت في يوم ما مقر السلاطين من سنة 1366 إلى 1453، سقطت بيد القوات البلغارية وظلت زمنا تحت سيطرتها.
في الوقت ذاته، وقعت اضطرابات وانتفاضات هزّت أركان الإمبراطورية من ألبانيا حتى جنوبي شبه الجزيرة العربية. كان جوهر القضية التي أثارت هذه المتاعب مطالبة الشعوب باللامركزية الدستورية ورفضها اعتبار اللغة التركية لغة البلاد الرسمية.
ففي شهر أبريل 1909 حدثت تظاهرات في أرمينيا أدت إلى وقوع مذابح مروعة في أضنة والأماكن المجاورة لها، وفي القسم الشرقي من الأناضول، هاجم الأكراد جيرانهم الأتراك وردّ الأتراك بهجوم معاكس. وأسفرت اضطرابات في اليمن، استمرت حينا عن إرغام الباب العالي على إعلان استقلال البلاد عام 1912، وفي السنة التالية، عقد المؤتمر العربي الذي طالب باللامركزية الدستورية للولايات العربية.
كان التمثيل العربي في لجنة الاتحاد والترقي، التي انبثقت من تركيا الفتاة، ضعيفا. وكانت أحداث سبتمبر 1908 قد شجعت العرب إلى درجة أنهم شكّـلوا في إسطنبول منظمة الإخاء العربية – العثمانية بهدف حماية الدستور الليبرالي وتوحيد كل شعوب الإمبراطورية في ظله، وتطوير المقاطعات العربية على قدم المساواة مع المقاطعات الأخرى.
لكن، وبعد الثورة المضادة التي قام بها السلطان عبد الحميد عام 1909، والنكسات العسكرية المتتالية التي تعرضت لها الإمبراطورية، فرضت تركيا الفتاة إجراءات أمنية مشددة، حظر أحدها كل الجمعيات التي تشكلها مجموعات غير تركية. وهكذا أغلقت منظمة الإخاء، وأضطر القوميون العرب إلى العمل تحت الأرض. أولى هذه الجمعيات كانت القحطانية التي حُـلّـت بعد سنة واحدة من قيامها.
وفي باريس، قام سبعة طلاب عرب بينهم جميل مردم، رئيس وزراء سوريا لاحقا، بتأسيس الجمعية العربية الفتاة بهدف الحصول على الاستقلال العربي من الأتراك ومن أي حكم أجنبي آخر. وقد كبرت هذه الجمعية، حيث نظمت عام 1913 في باريس مؤتمرا حضره 24 موفدا، 11 منهم مسيحيون جاءوا أساسا من سوريا والعراق ولبنان. وقد أعرب المؤتمر عن الرغبة العامة بالبقاء داخل الإمبراطورية العثمانية بشرط منح العرب الحكم الذاتي، وشدّدت على أهمية منع القوى الأوروبية من التدخل في هذا الشأن.
وفي العراق، تأسست جمعية وطنية أخرى هدفها الاستقلال عن الأتراك وإقامة حكومة مستقلة، ضمت في صفوفها أكثر من 100 ضابط والعديد من الأعيان المحليين. وفي آذار 1913 عقد مؤتمر دستوري عراقي في المحمرة في إيران للتخطيط لاستقلال العراق والمناطق العربية الأخرى. وفي نوفمبر من العام نفسه، أجرى الوطنيون العراقيون اتصالات بالأمير عبد العزيز آل سعود (لاحقا الملك،) الذي أعرب عن تعاطفه معهم، لكنه أبلغهم عدم قدرته آنذاك على دعمهم.
في هذه الأثناء، أسس عزيز المصري، وهو ضابط عربي سابق في الجيش العثماني، منظمة العهد التي تشكّـلت بمعظمها من الضباط العرب وغالبيتهم من العراق. وقد انتشرت فروع من المنظمة في بغداد والبصرة، وقيل أن أعضاءها ناهزوا الأربعة آلاف.
وفي كانون الثاني من عام 1914 اعتقلت سلطات تركيا الفتاة، المصري واتهمته بمحاولة إقامة مملكة عربية مستقلة في شمال إفريقيا، وبتلقي رشاوى من الإيطاليين خلال حرب طرابلس من عام 1911. حُـكم على المصري بالإعدام، لكن أطلق سراحه في النهاية بتدخل من السفير البريطاني لدى إسطنبول، بناء على طلب اللورد كيتشنر، الحاكم البريطاني لمصر.
الظاهرة التي يجب ملاحظتها في كل هذه التطورات التي انفجرت خلال العرس الدستوري في 1908 وبعده، هو أن القوميين والإسلاميين العرب (حتى عام 1914 على الأقل) لم يكونوا في وارد المطالبة بالاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية.
وبرغم أن الأدبيات القومية العربية اللاحقة في منتصف القرن العشرين باتت تطلق على الحقبة العثمانية اسم الاحتلال التركي، إلا أن العرب بوجه شامل تقريبا لم يعتبروا الأتراك محتلين. إنهم أطلوا عليهم بصفتهم جزءا من الروح الحضارية- الإمبراطورية الإسلامية التي كان العرب هم مؤسسوها الأوائل، وهذا ما جعل العديد من المفكرين العرب يطلقون على الأمة العربية اسم “أمة الدعوة” (إلى الإسلام) وعلى باقي المسلمين “أمة الاستجابة” (للدعوة الإسلامية). وبالتالي، لم يكن عرب 1908 في وارد التفكير بالانفصال عن إسطنبول، خاصة في ظل المخاطر الأوروبية التي تهدد الجميع.
هذه نقطة. وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية، المشاعر القومية العربية في تلك الحقبة لم تكن قد نضجت بعد. فبرغم الإصلاحات التحديثية التي أدخلها محمد علي باشا والإصلاحات الأخرى التي تقدّمت بها الحكومة العثمانية ثم حكومة تركيا الفتاة، إلا أن هذا لم يتبلور آنذاك في أشكال قومية. كان المصري والسوري واللبناني (المسلم) والمغربي يعرف نفسه على أنه مسلم أولا، ثم من سكان منطقة الشام أو بغداد أو بيروت أو الرباط ثانيا. أما فكرة الانتماء إلى قومية عربية، فكان موجودا فقط على أساس ثقافي- لغوي وشعوري.
وكل هذا على عكس ما كان يجري في الأجزاء التركية من الإمبراطورية العثمانية، حيت بدأ التفاعل مع الفكر القومي الأوروبي بشكل أقوى بكثير مما حدث في الدول العربية، والذي كانت جمعية تركيا الفتاة ثم حركة كمال اتاتورك القومية تجسيدا كاملا له. كل ما كان يريده العرب هو نظام دستوري جديد يكفِـل حقوقهم القومية والقانونية في إطار الدولة العثمانية.
إلى هذه التمخّـضات الدستورية في الدولة العثمانية، كانت تجري تجارب لا تقل أهمية في تونس ومصر.
الحركة الإصلاحية في تونس دشـّنها الباي أحمد (حكم 1837 – 1855)، الذي ألغى العبودية، وإن كانت جل إصلاحاته تركّـزت في مجالي الجيش والإدارة، وقد قام خلفاؤه الباي محمد (حكم 1855- 1859) ومحمد الصادق (حكم 1859-1882) بمتابعة المسيرة.
ففي 1861، أصدر هذا الأخير أول قوانين دستورية في العالم العربي تجسدت فيما عرف بوثيقة “عهد الأمان”، وشكّـل مجلسا تشريعيا. كما نفّـذ كبير الوزراء، خير الدين باشا التونسي إصلاحات دستورية عدة. بيد أن ورود هذه التجربة الدستورية انقصفت كما أشرنا مع قدوم الاحتلال الفرنسي المباشر عام 1881 وفق معاهدة باردو التي فرضت الحماية الفرنسية على الإيالة التونسية.
حقبة ليبرالية عربية
وفي هذه الأثناء، كانت تولد في مصر وبقية المشرق العربي حقبة ليبرالية كاملة، تتمحور هي الأخرى حول القيّـم الدستوروية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى فترة قصيرة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان هدير هذا العهد الصادح بالحقوق الدستورية والحرية يزداد قوة مع التطورات الجسام التي كانت تحدُث في المنطقة آنذاك، من تآكل الدولة العثمانية إلى أفولها النهائي مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولا إلى سقوط الدول العربية، الواحدة تلو الأخرى، بين براثن الاحتلال الأوروبي.
والمثير هنا أن الليبراليين العرب، وهم النغمة السائدة في أنشودة تلك الحقبة، لم يهتمّـوا كثيرا بالبحث بالفلسفة الليبرالية أو بأصولها، بل فهموها كما يريدون أن يفهموها: نداء للحرية المطلقة، كما كانت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، ولم يلتفتوا إلى ما طرأ عليها من تطورات لاحقا بفعل الثورة الفرنسية مع شعارها المشهور “لا حرية لا عداء الحرية”.
كانت الدستورية والليبرالية هي التعويذة التي رأى فيها المثقفون والمفكرون الحل الشافي الكامل لكل أمراض المجتمعات الاسلامية “اللامعقولة واللاإنسانية”، لا بل كان الليبرالي العربي أكثر تعصّـبا بما لا يُـقاس للحرية من زميله الأوروبي، لأن المجتمع الذي يعيش فيه يتناقض حرفا بحرف مع المفهوم الليبرالي.
وعلى أي حال، تميّـز الليبرالي العربي عن غيره بميزتين:
الأولى، ناتجة عن دفاعه عن الحرية ضد خصومها داخل مجتمعهم، وهذا ما دفعه إلى القول بأن الإسلام في صميمه دعوة إلى الحرية. كل شيء في الحياة الإسلامية يناهض الحرية ليس من الإسلام الحقيقي.
والثانية، هي إرادة تأصيل الحرية في عمق المجتمع والتاريخ الإسلاميين، ولذلك، فهو لا يشاطر رأي جون ستيورات ميل وغيره، القائل بأن دعوة الحرية محددة تاريخيا بعهد النهضة الأوروبي، لكي تنتشر الأفكار الليبرالية في المجتمع الإسلامي، لا بد من إستحضار الأبطال الإسلاميين، وهكذا يصبح أبو حنيفة (الفقيه الإسلامي القديم) بطل الحرية والتسامح، كما يعتبر أبو ذر الغفاري (أحد صحابة النبي محمد) من أبطال الديموقراطية الاشتراكية.
الشكل الذي اتخذته هذه الموجة الليبرالية العارمة شمل كل أشكال التعبير الصحافية والأدبية والقانونية والدينية كافة. إنها رأت الحرية في كل مناحي الحياة، وهذا ينطبق على المصلحين الإسلاميين كمحمد عبدة، وعبد الرحمن الكواكبي، وخير الدين التونسي، كما على الكتاب العلمانيين، كلطفي السيد، وطه حسين، وحسين هيكل، وطاهر الحداد.
يقول رفاعة الطهطاوي، البطل الفكري لمرحلة محمد على باشا، “الحرية الطبيعية هي التي خُـلقت مع الإنسان وانطبع عليها، فلا طاقة لقوة بشرية على دفعها من دون أن يعد دافعها ظالما”.
ويقول المفكر الإصلاحي السوري عبد الرحمن الكواكبي: “الحرية هي شجرة الخلد، وسقيها قطرات من الدم المسفوح. ويكتب لطفي السيد “خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية، فحريتنا هي نحن.. هي ذاتنا، ومقوم ذاتنا هي معنى أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية”.
أما المفكر والمصلح التونسي، خير الدين باشا، فاعتبر أن كل شيء يناهض الحرية، لا يمت إلى الإسلام في شيء: “الحرية والهمة الإنسانية اللتين هما منشأ كل صنع غريب، غريزتان في أهل الإسلام، مستمدتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب”.
ويفّسر عبد الله العروي، الكاتب المغربي، هذه الظاهرة بقوله: “في حين كان جون ستيوارت ميل يفقد التفاؤل الذي ميّـز أساتذته في القرن الثامن عشر، كان الكتاب العرب في العهد الليبرالي يتغنون بالحرية وكفى. يرفعون شعارها ولا يتصوّرون أن تكون هي مشكلة، عوض أن تكون حلا لجميع المشاكل، والسبب في هذا الإهمال اجتماعي، لا علاقة له بنباهة الأفراد وحدّة أذهانهم. كان المجتمع الإسلامي في حاجة إلى نشر دعوة الحرية، أكثر مما كان في حاجة إلى تحليل مفهومها.
ومن هنا، نشأت خصوصية علاقة المفكرين بالليبرالية جنبا إلى جنب مع مشروع الدستوروية والحرية. كان مفكرو العصر الليبرالي يرقصون على إيقاع نغمة واحدة: التقدم. التقدم في كل شيء. التاريخ نفسه حركة تقدمية إلى الأمام. وبالتالي، من يريد أن يسير في تيار التاريخ، يجب أن يكون تقدميا.
يقول عبد الرحمان الكواكبي: “إذا رأينا في أمة أثار حركة الترقي هي الغالبة على أفرادها، حكمنا لها بالحياة. ومتى رأينا عكس ذلك، قضينا عليها بالموت”، لا بل رأى محمد عبده أن العدل هو الذي يُـحدد شريعة الله لا العكس: “إن إمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق، كان في ذلك شرع الله”.
لقد أصبحت الدستوروية دين النخبة الجديدة المتعلمة، وأصبح التقدم مبدأ عاما، لا بل بات العلمانيون والدينيون يتبارون حول مباديء من أكثر تمشيا مع حركة التاريخ المنطلقة إلى الأمام.
“النقلة من النهضة إلى الحضارة”
لكن، إذا ما كان التقدم حتميا، فالسؤال البديهي حينذاك هو: لماذا العرب أو المسلمون تأخروا وتقدم غيرهم، ثم كيف يُـمكن للعرب أن يتقدّموا ثانية؟ كان هذا هو السؤال المحوري لما اتفق على تسميته بـ “حقبة النهضة العربية”، وهو نفسه العهد الليبرالي- الدستوري.
لكن ثمة من يميّـز بشكل قاطع بين النهضة وبين الحداثة. فبرأيه، الحداثة تجري بشكل تلقائي ويومي، وتتجسّـد في انتقال أنماط السلوك والحياة والانتاج الغربية، دون تمييز إلى المجتمع العربي. لكن ليس جميع هذه الانماط دلائل حقيقية على الحضارة، أي النهضة التي هي نظرية للولوج إلى الحضارة، فتحدد أولويات، وتصيغ إستراتيجيات للعمل الجماعي، كما تشير إلى الاختيار بين الجوهر والعرض في الحداثة، وبين الصالح والطالح فيها. النهضة – في نظر هؤلاء – هي نظرية لعقلنة الحداثة الداخلة حتما في الحياة العربية، وهدفها أن تعني، إضافة إلى المعايير العقلية، المعايير الاجتماعية (وحدة الجماعة) وأخلاقية (نجاعة القيم الإنسانية).
ومع هذا التمييز، يصبح بالإمكان توجيه سهام النقد الحاد للنهضويين الذين إنحازوا إلى الحداثة على حساب النهضة، والذين قادهم تقديس العلم إلى رفض التراث باعتباره مرادفا للقدم والتأخر. وهكذا كتب المصلح المصري سلامة موسى: “إن أعظم العقبات التي تؤخرنا في مصر، كما تؤخر كثيرا من أمم آسيا وأوروبا بعد الاستعمار، هي هذه الرواسب من الثقافات والتقاليد والغيبيات الفرعونية والبابلية وأمثالها التي أنحدرت إلينا، ولا دواء هنا، إلا العلم الذي هو نار كاوية تحرق جميع الرواسب، وتبدد عفنها هباء”.
ويرى برهان غليون، الكاتب السوري أنه بين هذا الموقف المعادي للتراث، وبين رفض الذات والتماهي مع الآخر، لم تبق إلا خطوة واحدة، وقد قطعها الأديب المصري طه حسين، ففتح في إيديولوجية التقدم العربي بابا لن يُـغلقه أحد بعده أبدا. باب يؤدّي إلى القول: نحن لا شيء، وأوروبا أو الغرب هي كل شيء.
يقول طه حسين، “إن مستقبل مصر مرهون بأخذها مثل الحضارة الإنسانية، وبالفضائل المدنية والديموقراطية، كما مثّـلها الغرب. وعلى مصر أن تُـصبح جزءا من أوروبا، وأن تسير سيرتهم في الحكم والإدارة والتشريع” بل يذهب إلى التأكيد: “علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات”. وبين الشرق والغرب، ليس على مصر أن تختار إلا الغرب، لأن تاريخها ارتبط دوما باليونان.
هذه النقلة من النهضة إلى الحضارة، إذا ما جاز التعبير، جاءت على الأرجح ردّا على استمرار تدهور المجتمعات العربية والإسلامية، برغم محاولات الإصلاح العديدة قبل قرنين، ورغبة في حرق المراحل للوصول إلى “التقدم”، وهذه في الواقع كانت حصيلة منطقية: فاستمرار التأخر، برغم المناخات الكاملة لمقولات التقدم، تعني أن ثمة خللا هنا. وطه حسين وزملاؤه ربما وجدوا أن عبء التراث هو هذا الخلل، فقرّروا القطيعة معه. ومن الآن فصاعدا، ستكون القطيعة هي الهدف.
يكتب الكاتب المصري زكي نجيب محمود: “نريد اليوم من ينهض ليقتل قابيل الزراعة، حتى يخلي المكان لمرحلة ثالثة، هي مرحلة الصناعة الآلية. الصناعة التي لا تحتاج من الإنسان إلى عضلات ذراعه، فتدور العجلات وتؤدي الآلة سائر الشوط كله، ولو تحقق التحّول على هذا النحو، لانتقل الإنسان من فكر إلى فكر، ومن حياة إلى حياة، من أخلاق ومعايير إلى أخلاق ومعايير، إنه ينتقل من ثقافة الكلمة إلى ثقافة التشكيل الذي يغيّـر بها وجه الأرض، ويحاول بعدها أن يبدّل وجه السماء وأجرامها، على الأقل من خلال إزاحة السحر عنها”.
لقد أصبح التراث، (أي التراث الإسلامي) هو العقبة التي يجب إزالتها لإفساح الطريق أمام عجلة التاريخ، وهذه محصلة كان مصطفى كمال اتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة قد سبقهم إليها.
لكن الفارق شاسع هنا: فاتاتورك، وبسبب إمساكه بزمام السلطة، أرفق النظرية بالممارسة، وشن معركة لا هوادة فيها على رموز التراث وأشكاله كافة من خلال استخدام سلطة الدولة، هذا في حين أن المحدثين العرب كانوا يعيشون على هامش سلطة الدولة، فوجدوا أنفسهم في صراع غير متكافيء مع المجتمع التقليدي وممثليه.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.