تجربة لـيـبية مُتفردة على الإنترنت
يلجأ معارضو الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي إلى عالم الإنترنت لإنشاء مواقع تُعبر عن مواقفهم، وإلى إصدار صحف إلكترونية أسوة بباقي المعارضات العربية.
لكن اللافت أن رئيس الحكومة الليبي د. شكري غانم أنشأ موقعا على الشبكة العنكبوتية بات يعج بآلاف المُتصفحين.
الموقع الذي أنشأه رئيس الحكومة الليبي يُذكَر المطلعين عليه بالجرائد الحائطية (دازيباو) لأيام الثورة الثقافية الصينية، مع فارق العناية الشديدة بالشكل والإخراج.
وتأتي فرادة هذه التجربة من كونها تختلف عن المواقع الرسمية العربية التي تطغى عليها المواد الدعائية والخطابات المعلبة والأساليب العتيقة، فزائر موقع “اللجنة الشعبية العامة للجماهيرية العظمى” يخال أنه بإزاء صحيفة الكترونية معارضة، إذ يكاد لا يوجد خط أحمر في انتقاد أداء الحكومة عدا التعرض للقذافي شخصيا أو لأسرته.
هذا الموقع الذي أنشأ في 19 يوليو الماضي يتسم بمنهجية التبويب وأناقة الإخراج. وزعم المشرفون عليه أنه لا توجد فيه سلة مهملات، وأن الحوار الذي يدور على صفحاته “ليس حوار طرشان”.
وقد بث في الأيام الأخيرة صورة لرئيس تحريره وهو جالس إلى مكتب غانم يعرض عليه الرسائل التي وصلت للموقع كي يجيب عليها بنفسه.
الـكلمة للمواطنيـن في الداخل.. والخارج
أكثر من ذلك، صمم المشرفون على الموقع أخيرا بابا خاصا بمناسبة مرور ستة أشهر على إحداثه لتلقي حكم المواطنين عليه وتقويماتهم لأدائه، “فالأمل بالمزيد من العطاء والتواصل مع الجماهير رهين بتفاعل وآراء الناس الذين نقدر فيهم مساهماتهم ومشاركاتهم” كما قال أحد المواطنين الذي كتب للموقع من منطقة الكفرة.
أما المواطن عمر أسامة مصطفى (من تورونتو) فكل ما تمناه هو “أن يكون الموقع من تصميم شباب ليبيين وأن يُكافأ كل من ساهم في إخراجه بهذه الصورة المشرَفة”. فيما اقترح صالح عمارة (من طرابلس) أن يُخصص باب لشكاوى المواطنين كي تحصل الحكومة على جهاز رقابة ومراقبين من دون دفع رواتب انطلاقا من الحرص على “كشف السرَاق والمرتشين والفاسدين الذين تم تسليمهم أمانات (وزارات) وميزانيات فبدؤوا في سرقتها وتحويلها إلى أملاكهم الخاصة”.
وذهب أحمد عبد السلام (من بنغازي) إلى حد اقتراح إدراج أرقام الهواتف الخاصة برئيس الوزراء في الموقع، وكذلك رقم فاكس خاص لاستقبال الشكاوى أسوة بما فعله وزيرا المالية والتعليم العالي.
وواضح أن غانم الآتي إلى الوزارة من الهيئة الدولية للطاقة الذرية بدأ يبث أسلوبه في أعضاء الطاقم الذي يعمل معه. غير أن بعض زوار الموقع بدوا غير راضين على مستوى الدماء الجديدة التي ضخها غانم في الأجهزة الحكومية، فعلي محمود الذي اعتبر القرار “الشجاع” لرئيس الوزراء بتشكيل لجنة للدفع بدماء جديدة إلى المواقع القيادية منسجما مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للحكم الرشيد وتوصيات منظمة الشفافية الدولية، تساءل عن مصير تلك اللجنة انطلاقا من أهمية دورها في “إخراج البلاد من مستنقعات الفساد”.
واللافت أن الموقع اشتمل أيضا على مساهمات من الشباب، وأخرى من مغتربين ليبيين بالإنجليزية بعضهم اقترح التركيز على “مواضيع أهم مثل الرواتب التي باتت سيئة جدا” كما قال.
قاعدة بـيانـات نادرة
لكن ربما الأهم من الإنتقادات والشكاوى هو أن الموقع يؤمن قاعدة بيانات ومعلومات نادرة عن القوانين والقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء، وهو مرجع أساسي لأي متابع للشؤون الليبية حتى أن الخبير التونسي توفيق المنستيري – الذي عمل مشرفا على توثيق المطبوعات والنصوص الليبية في مركز الأبحاث المغاربية والمتوسطية في مدينة “أكس” الفرنسية طيلة ثلاثين سنة – اعتبر الموقع يُغني عن آلاف الوثائق التي كان يجمعها الباحثون لمتابعة التطورات في ليبيا.
ومع أن المشرفين عليه قدروا عدد زواره بأكثر من نصف مليون زائر منذ إطلاقه، أي في فترة ستة أشهر فقط، فإن أحد زوار الموقع شكك في تلك التقديرات واعتبر أن عدد الزوار في تلك الفترة لم يتجاوز … عشرين ألف شخص.
ولا يمكن النظر إلى المبادرة التي اتخذها غانم بإنشاء الموقع على أنها جزء من ثقافته “الرقمية” وميله القديم للسباحة في أعالي بحار شبكة المعلومات، فهذا بُعد مهم وقد أشارت إليه الصحيفة الالكترونية “ليبيا اليوم” في عددها الذي بثته يوم 13 يوليو الماضي عندما ذكَرت بأنه “كان بالإمكان رؤية الدكتور غانم قبل بضع سنوات، أي قبل أن يُعهد إليه بمنصبه الحالي، عاكفا على جهاز الكومبيوتر الخاص به يبحث عبر شبكة الإنترنت عن آخر الأخبار الدولية ذات الصلة المباشرة بالواقع الليبي، ومستخدما البريد الإلكتروني في التواصل مع العشرات من أصدقائه ومعارفه ومسؤولي بعض الدول العربية والأجنبية الصديقة، في محاولة للبحث والتحليل للمتغيرات الإقليمية والدولية خاصة في المجالين السياسي والاقتصادي”.
والطريف أن أحد الزوار نصح غانم بإقفال منتدى الحوار والاستفتاءات في الموقع خشية أن يستخدمها أعداؤه في مؤتمر الشعب العام (البرلمان) لإسقاطه انطلاقا من أن نتائج الاستفتاءات أظهرت أنه لم يحقق شيئا.
محاولة لامتصاص الغضب؟
غير أن الأرجح أن الدافع الأساسي إلى إيجاد الموقع هو احتدام الصراع بين الإصلاحيين الداعين للانفتاح، والذين يرمز إليهم غانم من جهة، والحرس القديم من جهة ثانية والذي يخشى من أن تؤدي رياح التغيير إلى زعزعة مصالح بناها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتحديدا منذ إرساء “النظام الجماهيري” في سنة 1976.
وهناك من نظر للمبادرة من زاوية أخرى بوصفها محاولة لامتصاص الغضب في ظل غلق فضاءات التعبير التقليدية داخل البلد، والتي شكل اغتيال الصحافي ضيف الغزال في مايو الماضي تعبيرا مأسويا مكثفا عنها.
ويدعم هذه الرؤية الانتشار الواسع للمواقع الليبية المعارضة في الخارج/ ومستوى الحذق الحرفي الذي دلَلت عليه، فموقع “أخبار ليبيا” يتسم بالشمول والتبويب المتنوع ودسامة المادة المضمونية مع التشدد في نقد نظام العقيد القذافي.
وفي افتتاحية أحد أعداده الأخيرة، اعتبر “ليبيا الدولة والشعب سفينة مختطفة في عرض المحيط ومهما حاولنا، نحن الليبيين، أن نكون موضوعيين في تناولنا لجوانب مأساة هذه السفينة المخطوفة وركابها أعجزنا البيان وخانتنا الموضوعية إذ هناك في هذا الصدد مجموعة من الحقائق الشاخصة للعيان لا يمكن غض النظر عنها”.
ويسرد المقال مظاهر من الحكم الفردي بعدما أصبح القذافي “المحور الذي تتمحور حوله شؤون البلاد”، كما كـُتب في الموقع. كذلك عرض تحقيق أعده ثامر الزيات وثائق عما اعتبره مظاهر من “الفساد المالي والإداري في ليبيا” مستندا على ثلاث وثلاثين وثيقة حصل عليها من شركات وأشخاص طيلة خمس وعشرين سنة على حد قوله، وانتهى إلى الإعلان عن تأسيس موقع “الشفافية ليبيا” على شبكة المعلومات، وهو يرمي، مثلما قال، إلى “أن يكون من أقوى وسائل محاربة الفساد والمفسدين في ليبيا”.
ويتيح التوثيق الذي تقوم به المواقع الليبية، وخاصة “أخبار ليبيا”، الحصول على نصوص هامة مثل آخر مقال كتبه الصحفي الراحل ضيف الغزال قبل اغتياله في بنغازي في 21 مايو الماضي، وآخر تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” عن ليبيا، بالإضافة لأخبار سياسية خاصة عن مجريات الأمور في البلد.
ومن ضمن هذا الاهتمام باشر “المنتدى الليبي” أخيرا بنشر مقالات مهمة في عدده الأول عن مسألة الإصلاح في ليبيا من جميع نواحيها. كما لم يبق نشطاء حقوق الإنسان يقتاتون مما تنشره المواقع الأخرى فأسسوا منذ سنة 2000 موقعا خاصا بهم انطلاقا من هولندا هو “الإتحاد الليبي للمدافعين عن حقوق الإنسان”، غير أنه لم يحظ بأي تحديث منذ سنة 2001.
منافسة قوية ضمن عالم افتراضي..
في المقابل، يشكل موقع “ليبيا نت” مفاجأة لزواره، فعنوان “المحطة” الذي يستقبل الزائر موشح بأسماء طائفة كبيرة من الشعراء والقصاصين والنقاد مع صورهم، من بينهم علي مصطفى المصراتي والصادق النيهوم وفتحي العريبي، بالإضافة لأسماء كاتبات في مقدمتهن سمية سلام قدري وآمنة طاهر، ولوحات فنية مع باب آخر أطلق عليه اسم “رواق فن الكاريكاتير”.
والأطرف من ذلك أن الموقع يعرض مختارات من الفن الموسيقي في ليبيا، وخاصة المألوف والموشحات.
من هنا يظهر أن حالة الانغلاق التي استمرت جاثمة كالسحاب الكثيف على الأجواء الليبية حملت جميع الفرقاء على الالتفاف عليها بتحقيق اختراق في عالم الإنترنت الذي لا يحتاج إلى ترخيص ولا إلى وسائل باهظة الكلفة للتواصل مع الآخرين.
وإذا كان رئيس الوزراء نفسه اضطر للهجرة إلى الإنترنت، فما بالنا بالمعارضين الذين يعيشون أصلا متنقلين من منفى إلى منفى؟
والنتيجة أن الحالة الليبية صارت تقدم اليوم نموذجا فريدا يتنافس في إطاره رئيس الوزراء مع المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمبدعين المتمردين وتتعالى أصوات هذا وأولئك، لكن ليس تحت قبة البرلمان ولا على أعمدة الصحف الصادرة في ليبيا، وإنما ضمن عالم افتراضي.
رشـيد خشـانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.