تحفظات النخب العربية لا زالت قـائـمـة
مرت الآن حوالي 40 شهرا على إطلاق الولايات المتحدة لمبادرة الشراكة الأمريكية مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعروفة اختصارا باسم "ميبي".
ومع أن مشاريع الـ “ميبي” استهدفت فئات كثيرة ومتنوعة من النخب في العديد من البلدان العربية، إلا أنها لم تحقق بعدُ اختراقا ملموسا بسبب فقدان الثقة في السياسات الأمريكية.
عندما سئل رئيس الحكومة الفرنسية السابق جان بيار رافاران خلال زيارة لتونس عما إذا كان بلده يشعر بالضيق من “مبادرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” الأمريكية المعروفة بـ “ميبي”، سخر علنا من البلدان التي قال إنها “تصوغ مشاريع للمنطقة من علياء مكاتبها الفخمة”، في نقد مباشر لأسلوب الأمريكيين في إدارة مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وعلى رغم أن رافاران ليس مشهورا بالذكاء، فإن المراقبين استلطفوا ملاحظته اللاذعة بالنظر للصدى الباهت للبرامج الأمريكية لدى المجتمعات الموجهة إليها.
لقد حاول الأمريكيون على مدى السنوات الثلاث الماضية (انطلقت المبادرة في ديسمبر 2002) الوصول إلى فئات مختلفة تتراوح دائرتها من التلاميذ إلى سيدات الأعمال، ومن الأكاديميين والإعلاميين إلى التكنوقراط، ورصدوا موازنات ضخمة للـ “ميبي”، إلا أن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر.
كما استخدموا وسائل متنوعة لبناء جسور مع المجتمعات المحلية. فأحيانا ينظمون ندوات وورشات تدريبية في بلدان المنطقة، وأحيانا أخرى يدعون وجوها مؤثرة من النخبة الاقتصادية والثقافية إلى المشاركة في برامج تُقام في الولايات المتحدة، وأحيانا ثالثة يلجأون إلى أسلوب الندوات بواسطة الفيديو لربط خطوط الاتصال بين الجانبين.
رحلة إلى الفضاء
ففي شهر أبريل من العام الماضي، كان ثلاثون تلميذا يتجمعون في قسم دراسي في مدرسة “هاري آيكلر” بنيويورك ليتخاطبوا عبر شاشة كومبيوتر كبيرة مع عشرين تلميذا في مدرسة جزائرية اجتمعوا في مكاتب وكالة الأنباء الجزائرية بحضور وزيري الإعلام والتربية لإدارة حوار حول رحلات الفضاء.
وفي الشهر نفسه، أقامت “ميبي” ندوة في تونس بالتعاون مع المنظمة الأمريكية غير الحكومية “إنترنيوز” ندوة عن الصحافة الإلكترونية في تونس كانت الأولى من نوعها التي تطرقت لهذا الموضوع بمشاركة عشرات الإعلاميين والجامعيين والخبراء، وفي حضور غاري كبال الذي جعل من موقع AOL News أكبر موقع للأخبار على شبكة الإنترنت.
غير أن مبادرة “ميبي” ركّـزت في شكل خاص على السيدات منذ بواكير نشاطها، إذ بدأت منذ سنة 2004 بدعوة أربعين من سيدات الأعمال الشابات (راوح سنهن بين 22 و30 عاما) اللائي أتين من 16 دولة من دول الشرق الأوسط إلى برنامج تدريبي في الولايات المتحدة، استمر أربعة أشهر وأمضين منه شهرا بين جامعتي ديوك وإموري، والأشهر الباقية في شركات أمريكية مثل فايزر وبوينغ وديملر كرايسلر ووالت ديزني.
وكان منطق بولا دوبريانسكي، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية واضحا في الكلمة التي توجهت بها للمشاركات في حفل التخرج، إذ قالت “إن سيدات الأعمال العربيات أصبحن الآن في وضع يمكنهن من العمل على محورين يشكلان دعامتين أساسيتين من مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، هما الإصلاح الاقتصادي وتعزيز دور المرأة”، معتبرة أن التغيير “يأخذ مجراه بالفعل في عدة مواقع بالشرق الأوسط”، وأن السيدات “مستعدات لتكونن في الجبهة المتقدمة لتلك الحركة”.
أما توماس فاريل، مساعد وزير الخارجية للبرامج الأكاديمية فكان أوضح، إذ خاطبهن قائلا “انقُلن القيم المستمدة من خبرتكن إلى الآخرين عن طريق استقطاب شخص واحد على الأقل إلى كل واحدة منكن”.
ولم تمض أشهر قليلة حتى حلت مائتا سيدة عربية بتونس للمشاركة في برنامج للتدريب على مهارات القيادة في إطار مشاريع “ميبي”، لكنه لم يستمر سوى ثلاثة أيام وأشرفت عليه كل من بولا دوبريانسكي، وباتريشيا هاريسون مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الثقافية والتعليمية، وقدمت سيدات أمريكيات التدريب والخبرة لزميلاتهن العربيات خلال المؤتمر الذي ركز في الدرجة الأولى على كيفية إدارة المشروعات الاقتصادية وغير الاقتصادية بما يشمل النقابات والجمعيات على نحو “يعطي دفعة للديمقراطية ويعزَز مكانة المرأة”.
ويمكن القول أن التركيز الأمريكي على السيدات يرمي لتشجيعهن على “أخذ أدوار قيادية في تحقيق الإصلاحات، خصوصا في المجال الاقتصادي”. ويعزو الأمريكيون ذلك التركيز إلى أنه “لا يمكن لأي مجتمع أن يكون ديمقراطيا حقا إذا ما كان نصفه محروما من حقوقه الشرعية، ولا يمكن لأي بلد تحقيق كامل قدراته الاقتصادية عندما يكون نصف شعبه مهمشا”، مثلما قالت دوبريانسكي التي أكّـدت أن أمريكا تستخدم مثل هذه المؤتمرات “لتشجيع دور السيدات القيادي بوصفه أحد عناصر التغيير، وهو تغيير ليس فقط من حيث تحديث البنى الاقتصادية للمساعدة على المنافسة في السوق العالمية، وإنما أيضا التغيير من زاوية تحطيم الحواجز التي تقف في طريق مشاركة المرأة في صنع القرار الاقتصادي في شكل كامل”.
توسَع جغرافي
لكن النشاطات لم تقتصر على النساء خلال الأشهر الأربعين التي مضت على إطلاق “ميبي”، بل استهدفت أيضا فئات كثيرة أخرى من قضاة وطلاب وإعلاميين وباحثين. كما أن دائرتها الجغرافية توسعت لتشمل بلدا مهما كان خارج مجال الحراك الأمريكي في المنطقة، هو ليبيا التي تم إدماجها عمليا اعتبارا من يوليو 2005، على رغم أن مجال المبادرة لم يشملها في مرحلة الانطلاق، وأتت زيارة توماس فاريل، نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون التعليمية والثقافية لطرابلس في تلك الفترة لتؤكد ذلك الإدماج في مسار “ميبي”.
وأكد مدير المكتب الإقليمي لـ “ميبي” في تونس بيتر مولريان لسويس أنفو أن فاريل بحث خلال زيارته لليبيا الإجراءات المتصلة بقبول طلاب ليبيين في الجامعات والمعاهد العليا الأمريكية في التخصصات الطبية والهندسية والعلوم التطبيقية والحاسب الآلي، مما شكل نقلة في العلاقات الثنائية قياسا على القطيعة السابقة.
وتطرق فاريل خلال المحادثات التي أجراها مع أكثر من عشرة مسؤولين ليبيين لآفاق تطوير التعاون على صعيد توسعة تدريس الإنجليزية في ليبيا وتبادل الزيارات العلمية والأكاديمية بين أعضاء هيئات التدريس في جامعات البلدين. وأفادت مصادر ليبية أن الجانبين يدرسان إبرام اتفاق للتعاون في المجالين، التعليمي والثقافي، سيعطي دفعة قوية للتعاون بين الجامعات والمعاهد العليا، خصوصا على صعيد تبادل الباحثين والمدرسين.
ويوجد أحد المكاتب الإقليمية الثلاثة لـ “المبادرة” في تونس، وهو يغطي الجزائر والمغرب ولبنان ومصر بالإضافة إلى تونس، لكنه يدرس إمكانات توسعة دائرة عمله لتشمل ليبيا، بما في ذلك فتح فرع هناك. كما يسعى الأمريكيون إلى إدماج عناصر ليبية في نشاطات مكتب “ميبي” الإقليمي الموجهة إلى فئات الشباب والسيدات والقيادات الإدارية والنشطاء والإعلاميين.
إلا أن الأمريكيين يتوجهون أيضا إلى شرائح أخرى في ليبيا، في مقدمتها النخب الاقتصادية والإدارية الشابة التي يسعون لإقناعها بتفوق النموذج الأمريكي على النموذج الأوروبي، وهم يؤكّـدون أنهم وجدوا لدى القيادات الجديدة، وخاصة الطلاب، إقبالا كبيرا على التعرف على التجربة الأمريكية ورغبة لافتة في متابعة الدراسات العليا والمشاركة في دورات تأهيل وتدريب في أمريكا.
مقاربتان للإصلاح
ويعكس هذا التوجه الأمريكي، كما جسّـدته تجربة “ميبي” في سنواتها الثلاث الأولى، المقاربة الجديدة المستوحاة من دروس تفجيرات 11 سبتمبر والتي تحاول التمايز عن المقاربة الأوروبية بالتوجه إلى النُخب المؤثرة في المجتمعات، بدل الاتكال على الحكومات أساسا.
ويتجلى ذلك التباعد في حرص المسؤولين الأمريكيين الذين يزورون المنطقة على الاجتماع مع ممثلي منظمات أهلية، حتى لو كان بعضها غير مرخص له، وزعماء أحزاب معارضة، فيما يتحفظ المسؤولون الأوروبيون في الغالب عن عقد مثل تلك اللقاءات.
ومن هذه الزاوية، فإن مبادرة “ميبي” أتت لتكريس هذا الخيار عن طريق شبكة واسعة من العلاقات والإمكانات المالية. وأكد سكوت كربنتر، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية المكلف بمبادرة (ميبي) في تصريحات سابقة لسويس أنفو خلال زيارة لتونس، وجود اختلاف في الرؤيتين، الأوروبية والأمريكية، للإصلاح السياسي والاقتصادي في المنطقة.
ورأت الناشطة النسائية التونسية المحامية بشرى بلحاج حميدة أن الأمريكيين أظهروا فعلا جسارة أكبر من الأوروبيين في التعاطي مع المنظمات الأهلية المحلية. لكنهم لم يقتصروا على توسيع مظلة المشاركين في مشاريعهم، بل ضخوا أيضا اعتمادات كبيرة لتمويل أهداف الشراكة.
وفي هذا النطاق، خصص الكونغرس في السنتين الأوليين من عمر “ميبي” 253 مليون دولار لهذه المبادرة. لكن الرئيس بوش طلب من الكونغرس تخصيص 150 مليون دولار ضمن برامج المساعدات المالية الخارجية لسنة 2005 لتمويل المشاريع المدرجة في “المبادرة”، غير أن الغالبية في الكونغرس لم توافق سوى على نصف تلك الإعتمادات، فخصص قسم منها لتمويل برامج تستهدف قطاعات واسعة من الطلاب ورجال الأعمال والمدرسين ورجال القانون والمسؤولين الحكوميين والصحفيين والقضاة والأكاديميين وقادة المجتمع المدني في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ويمكن أن تكون المشاريع التي يمولها “ميبي” صغيرة أو كبيرة الحجم، محلية أو إقليمية، فهي قد تقتصر على 10 آلاف دولار للمشروع الواحد، وقد تصل أيضا إلى 10 ملايين دولار.
“احتلال عقول المسلمين”
وعلى سبيل المثال، قرر “ميبي” تمويل سبعة مشاريع في مجالات مختلفة في تونس خلال السنة الجارية، ويراوح الدعم المقدم لها بين 100 ألف دولار ومليون دولار.
لكن مكتب “ميبي” جابه صعوبات في إيجاد أطراف مستقلة تقبل بتلقي دعم أمريكي بسبب الصورة السلبية لسياسة الولايات المتحدة في البلد. وهذا أكبر تحدٍّ يواجه مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لأن قطاعات واسعة من النخب تتحفظ على التعاطي مع الولايات المتحدة، وخاصة في ظل الإدارة الحالية.
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة نشرها معهد بروكينغز في واشنطن تحت عنوان “احتلال عقول المسلمين” أن سياسات الولايات المتحدة الرامية إلى كسب قلوب الشعوب المسلمة ونشر الإصلاح في العالم العربي، تقوم علي أسس خاطئة، ولن يكتب لها النجاح إلا إذا خضعت لتعديلات جذرية.
وتناولت الدراسة التي أعدها الدكتور عبد الوهاب الأفندي، منسق برنامج الإسلام والديمقراطية بمركز دراسات الديمقراطية بجامعة وستمنستر في لندن، بالنقد والتحليل حملة الدبلوماسية العامة التي تقودها إدارة بوش من أجل تحسين صورة أمريكا في العالم، معتبرة أن هذه السياسة تنطلق من افتراضات خاطئة وتتبع أساليب خاطئة، وتواجه أزمة كبيرة بسبب شفافية آلية صنع القرار في واشنطن (المصدر: صحيفة القدس العربي الصادرة يوم 12 أكتوبر 2005).
وبحسب الدراسة التي نشرها المعهد المعروف بقربه من قيادة الحزب الديمقراطي (يرأسه حاليا السفير السابق مارتن انديك)، فان سياسات الولايات المتحدة تجاه العالم العربي تنطلق من الزعم بأن الكراهية لأمريكا والإرهاب الموجه ضدها ينطلقان من وجود عقائد دينية متطرفة ومن الغيرة من نجاح أمريكا وتقدمها.
والصحيح أن تسمى هذه السياسة سياسة مكافحة الاستبداد والطغيان، وهي سياسة مطلوبة لذاتها، خاصة وأن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة واضح لا ينكر، وهي إما أن تسخر هذا النفوذ لدعم الاستبداد أو محاربته، والخيار الثاني هو الأفضل.
ولكن الإشكال الذي يواجه السياسة الأمريكية هو، أولا فقدان المصداقية، وثانيا عدم الجدية في تطبيق السياسات، وهنا تجد الولايات المتحدة نفسها أمام حلقة مفرغة. فهي ترى أن تحسين صورتها في أعين العرب مرتبط بنجاحها في تحقيق الإصلاح الديمقراطي، ولكن نجاحها في دفع مسيرة الإصلاح رهن بمصداقيتها وتحسين صورتها.
إضافة إلى ذلك، فإن الشفافية التي تحيط بالجدل الدائر في واشنطن حول السياسات تجاه المنطقة العربية، تجعل المواطن العربي على اطلاع كامل بالدوافع الأمريكية للتدخل في المنطقة، وهي دوافع لا تضع مصلحة هذا المواطن في المقام الأول، بل تضع اعتبارات المصالح الأمريكية أولا، والتوازنات الداخلية والدولية ثانيا، وهذا بدوره يفقد المواطن الثقة في السياسات الأمريكية.
وبالمثل، فإن الدعاوى المتصاعدة من واشنطن حول ضرورة إجراء إصلاح ديني إسلامي، والطريقة المكشوفة التي تقوم بها الإدارة وأجهزة مخابراتها بالتدخل في أخص خصائص المؤسسات الدينية الإسلامية، وتدعم بها بعض التيارات الدينية والثقافية، كل هذه وصفة لما يعتبره البعض بأنه حرب دينية جديدة، ستكون لها عواقب مدمرة على العلاقات الأمريكية ـ الإسلامية.
والأرجح، أن الإدارة الحالية، التي لا أمل لها بالعودة إلى سدة الحكم بعد الانتخابات المقبلة، لن تُقدم على مراجعة سياساتها لانتهاج أسلوب آخر في التعاطي مع شعوب المنطقة يقوم على الحوار الحقيقي بعيدا عن الدعاية والعلاقات العامة ومناورات المخابرات، مما يجعل مبادرة “ميبي” وسواها من المشاريع الموجهة للمنطقة تدور في حلقة مفرغة، على الأقل في الأمد المنظور.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.