تركيا على صفيح ساخن!
فوجئت تركيا مع نهاية شهر رمضان بحملة إرهابية مجهولة المصدر تستهدف مؤسسات تركية يهودية وأخرى أجنبية.
ولئن وجّـهت بعض الأطراف أصابع الاتهام لتنظيم القاعدة في هذه العمليات، فإن أطرافا تركية عديدة تتساءل عن الأهداف الحقيقية التي يتطلع إليها منفذو الاعتداءات الإرهابية.
فاجأت التفجيرات الانتحارية التي وقعت في اسطنبول يومي السبت والخميس (15 و20 نوفمبر) الأتراك والعالم. وطرحت تساؤلات كثيرة عن الجهات المنفذة لها أو المستفيدة منها. لكن ما هو مؤكد، أن تركيا تواجه حرباً فعلية، وأنها أمام مرحلة جديدة وحساسة من تاريخها الحديث.
ولم يستطع أحد من المسؤولين الأتراك ولا من الخبراء والمتابعين، الجزم بدوافع ما يجري. فبين الهجومين على كنيسين يهوديين، والهجومين على القنصلية البريطانية ومصرف HSBC البريطاني في اسطنبول، تباينت التفسيرات وتبدّلت المعطيات. ولكن، يمكن الوقوف عند جزئيات يشكل تكاملها صورة قد تفضي إلى وضوح أكبر في مقاربة ما يجري.
إن طبيعة الهجمات الانتحارية لا تحمل بصمات تركية داخلية. فتاريخ التطرف في تركيا لا يشهد على ظهور تنظيمات تستخدم هذا الأسلوب المدّمر، وكل ما كانت تفعله هذه التنظيمات، عمليات اغتيال فردية أو مهاجمة مقرات للشرطة، وبأسلحة أوتوماتيكية. لذلك، فإن الراجح هو أن هذه الهجمات هي من صنع منظمات خارجية دون استبعاد تقديم الدعم اللوجيستي والمعلوماتي من طرف منظمات محلية.
في مصلحة من؟
واختلف المحللون والخبراء الأمنيون والسياسيون حول هوية الجهات المدبرة لهذه الهجمات وذهبت في اتجاهات لا تفتقر إلى المنطق.
ربَـط العديد، الهجومين الأولين ضد الكنيسين اليهوديين، بالبرودة التي تطبع العلاقات التركية مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بعد رفض رئيس الحكومة التركية، رجب طيب اردوغان استقبال نظيره الإسرائيلي ارييل شارون، وبعد تخلي واشنطن عن دعم خطوة إرسال قوات تركية إلى العراق، وسعي إسرائيل وأمريكا كسر هذه البرودة والضغط على تركيا لإعادة تعاونها معهما إلى سابق عهده.
كذلك، فإن إسرائيل تسعى إلى تحسين صورتها لدى الرأي العام العالمي بعد الإدانات الدولية لممارساتها ضد الفلسطينيين، وبعد استطلاع الرأي الأوروبي الذي صنف تركيا الدولة الأولى المهدّدة للسلام العالمي.
وفي هذا السياق، جاءت “مسرحية” اعتداء على كنيس يهودي في فرنسا وما تبع كل ذلك من حركة إسرائيلية في اسطنبول وروما وبروكسل للظهور بمظهر الضحية.
ويرى أصحاب هذا السيناريو أن تزايد الشبهات حول دور إسرائيل وأمريكا في تفجيرات الكنيسين اليهوديين له صلة بتفجيرات القنصلية البريطانية ومصرف HSBC في محاولة لدفع الشبهات بتوسيع دائرة الأهداف لتلتقي طبيعتها مع الأهداف التي تستهدفها منظمة القاعدة.
السياق الثاني، يرى أن تفجيرات اسطنبول الأولى والثانية تقع في إطار المواجهة العالمية التي يخوضها تنظيم القاعدة ضد المصالح الغربية والإسرائيلية، ويستدلون على ذلك بطبيعة الهجمات ودرجة عنفها والتي “تنسجم” مع أساليب هذا التنظيم.
ويري هذا السيناريو أن القاعدة لا تستهدف تركيا بحدّ ذاتها بقدر ما وجدت في الساحة التركية ظروفاً مواتية وإمكانية سهلة لتنفيذ هذه العمليات، خصوصاً أن كثافة اسطنبول (10 ـ 12 مليونا) تتيح هذه الإمكانية.
وربما تكون القاعدة اختارت تركيا كرسالة إلى الغرب وأمريكا وبريطانيا على أنها هي صاحبة المبادرة في اختيار الزمان والمكان، وأنها قادرة على توسيع ساحة المواجهة، تماماً مثلما فعلت من قبل في بالي )اندونيسيا) والمغرب والسعودية، فضلاً عن العراق.
إن تنظيم القاعدة في التحليل السياسي، وانطلاقاً من “نظرة إسلامية” مفترضة، لا يمكن أن تحاول إضعاف حكومة إسلامية، الطابع البديل الوحيد منها هو حكومة علمانية متشددة تضاعف من القيود المفروضة على الإسلاميين.
احتمالات عديدة وممكنة
ولا يستبعِـد مراقبون أتراك، على درجة عالية من الاعتبار، ربط هذه التفجيرات بملفات أخرى مثل السياسة الحكومية في قبرص وتعارضها مع مراكز قوى داخلية في تركيا، وكذلك بملفات داخلية في العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين. لكن معارضي هذه السياقات يقولون، إن هذه الملفات لا تتطلب هذه الدرجة من العنف المدمّر لحسمها.
لقد أصابت التفجيرات الأربعة من الأمن التركي مقتلاً. كما أصابت هيبة الحكومة في الصميم. ولا شك أن الاستقرار السياسي والاقتصادي (ولاسيما السياحي) تلقى ضربة قاسية، وهذا لا شك ستكون له انعكاساته أولاً على المعادلة الداخلية.
فإذا كانت أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم لم تحلْ دون وقوع هجمات إرهابية، إلا أن ما جرى في تركيا سيكون فرصة للقوى المعادية لسلطة حزب العدالة والتنمية لإضعافها تمهيداً للإطاحة بها عند أول مناسبة.
إن تغليب نزعة بسط الأمن سيعزز نفوذ القوى العسكرية والأمنية على حساب مسيرة الإصلاح السياسي التي يقودها حزب العدالة والتنمية، والتي تهدف إلى مزيد من الحريات والديموقراطية وتقليص نفوذ العسكر في الحياة السياسية.
كذلك، إن توجيه أصابع الاتهام لتنظيم القاعدة، وهو ما حاول اردوغان تجنب إطلاقه بقوله، “من المبكر اتهام أحد”، سيكون فرصة لمراكز القوى المناوئة للحكومة للقيام بحملة جديدة ضد الإسلاميين بذريعة “مكافحة الإرهاب الأصولي”، وهي لن توفر في طريقها العمل على إضعاف الحكومة، لاسيما أن ملفات حساسة مثل الحجاب وبعض المعاهد الدينية والتعليم العالي هي موضع خلاف شديد بين هذه المراكز وحكومة حزب العدالة والتنمية.
إن تركيا بعد هجمات نوفمبر غير تركيا قبل هذه الهجمات. وسواء كانت تركيا بذاتها مستهدفة أم مجرد ساحة لصراع الآخرين، فإنها في عين العاصفة الجديدة التي ستترك مضاعفاتها المختلفة على السياسات والمعادلات التركية في الداخل والخارج.
محمد نور الدين – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.