تركيا: من “الجـسـر” إلى “المـركـز”؟
تميزت السياسة الخارجية التركية، منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، بأنها كانت في اتجاه واحد: أوروبا والغرب، إنطلاقاً من إعجاب أتاتورك الباهر بالحضارة الغربية.
إلا أن التوجهات الراهنة للسياسة التركية تتحرك في عدة اتجاهات لتحويل أنقرة إلى “بلد – مركز” في المنطقة.
لم تشهد العلاقات التركية على مدى عقود طويلة انقطاعاً مع محيطها العربي والإسلامي والمسيحي فحسب، بل كانت تتسم بالعداء الذي وصل حدّ الصدام مع معظم جيرانها.
وأثناء الحرب الباردة، كانت تركيا طرفاً في الإستقطابات الدولية، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي كسرت تركيا، بعض الشيء، هذه الأحادية من خلال الانفتاح على العالم التركماني في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان.
استمرت هذه السياسة الاستراتيجية، التي تجسدت في انتماءات عضوية لتركيا في منظمات ومؤسسات أوروبية وغربية، حتى اندلاع الأزمة العراقية ومن ثمّ احتلال العراق، حيث كانت التطورات المتلاحقة هناك، وتحول المسألة الكردية في الشمال إلى خطر فعلي على الوحدات الكيانية والاجتماعية لدول الجوار العراقي، مفصلاً في إحداث تحوّل في طريقة تعاطي السلطة التركية مع عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية.
إعادة صياغة السياسة التركية
فللمرة الأولى يحدث تقارب حقيقي بين تركيا وكل من سوريا وإيران، وللمرة الأولى أيضا تتصدّع الشراكة الإستراتيجية بين أنقرة وواشنطن، وتهتز العلاقات التركية مع إسرائيل بعمق، ثم تتقدم تركيا بجدية على الطريق الأوروبي.
هذه التحوّلات كانت مؤشرات على ان السياسة الخارجية التركية تُصاغ من جديد وفقاً لأسس مختلفة.
لكنه سيكون من الخطأ قراءة التحولات في السياسة الخارجية الجديدة لتركيا في ضوء التطورات العراقية والأميركية فحسب، فهذا مرتبط بصورة وثيقة برؤية جديدة حملها حزب العدالة والتنمية لدى وصوله إلى السلطة في خريف 2002.
وترتبط هذه الرؤية أكثر باسم البروفسور أحمد داوود أوغلو مستشار رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان وأستاذ العلوم السياسية، وصاحب مركز “علم وصنعت” للدراسات الإستراتيجية، وتجلت ملامح هذه الرؤية في كتابه الذي صدر قبل سنة من وصول الحزب إلى السلطة ويحمل عنوان “العمق الإستراتيجي”.
تركيا بين الاصلاح الداخلي والتفاعل الخارجي
وإذا ما تتبعنا سياسات الحزب بعد وصوله إلى السلطة تجاه معظم القضايا الحساسة، لأمكننا القول بأنها تطبيق عملي للنظريات التي وردت في ذلك الكتاب، لكن ذلك لا يكفي لتحديد أدق لخطوط هذه السياسة؛ فالدكتور داوود أوغلو تناول هذه الإستراتيجية الجديدة في أكثر من مقالة وحوار وتصريح، ومن بينها حوار مطوّل أجريناه شخصياً معه قبل فترة قصيرة.
يقول داوود أوغلو، إن 11 أيلول – سبتمبر 2001 نقل العالم إلى مرحلة جديدة، وبدلاً من خطاب الحرية الذي ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة، حلّ خطاب الأمن الذي تجسّد في حربي افغانستان والعراق، ويوزع البروفيسور أوغلو هذه الحقبة إلى 3 مراحل: “المرحلة النفسية” وجسّدتها حرب افغانستان، و”المرحلة الإستراتيجية” وتجسدت بالحرب على العراق، ومن ثم “مرحلة تأسيس نظام جديد” والتي قد تستمر، تبعاً للولايات المتحدة ما بين 10 و 15 سنة.
في هذا السياق، كانت تركيا تتقدم على طريق الاصلاح السياسي، وكان لا بد لكي تخرج رابحة أن تتبع سياسة خارجية مؤثرة وديناميكية ومتعددة الأبعاد، تُـرسي موقعاً مركزياً لتركيا في الساحة الدولية.
وكان أمام تركيا ثلاث عقبات: الإرهاب، وعدم الاستقرار السياسي، والأزمات الاقتصادية.
ويرى داوود أوغلو إن تركيا نجحت في استيعاب هذه العقبات وتجاوزها، ومن اتباع سياسة خارجية مرنة. وينفي أن يكون رفض البرلمان التركي المشاركة في الحرب ومن ثم موافقته بعد احتلال العراق على إرسال قوات الى هناك، بأنه تردد وعدم وجود قرار حاسم. بل إن ذلك كان “قرارا على أعلى درجة من الوعي” حسب رأيه. فأنقرة عارضت أميركا أولاً ثم نجحت في ترميم العلاقات معها، ونجحت في استمالة دعم الاتحاد الأوروبي ودول الجوار العراقي.
أسـس جديدة
ويحدّد البروفيسور احمد داوود أوغلو خمسة أسسٍ للسياسة الخارجية الجديدة التي تعمل انقرة على اتباعها:
1 ـ الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار الأمنية. وتمثل تركيا البلد الوحيد الذي نجح في هذه المعادلة وهي هنا مثال للدول الأخرى. ومن هذه الزاوية، تركيا “بلد مركز” في المنطقة تاريخياً وجغرافياً.
2 ـ تصفير (من صفر) المشكلات مع دول الجوار الجغرافي لتركيا. وهذا سيخرج تركيا من كونها بلداً طرفاً له مشكلات متواصلة مع جيرانه. ونجحت تركيا في ذلك أيما نجاح مع سوريا وإيران واليونان وروسيا. بقي فقط العلاقات مع أرمينيا التي يتم الإشتغال عليها في هذه المرحلة.
3 ـ سياسة خارجية متعددة الأبعاد مرتبطة بموقع تركيا على تقاطع طرق القوى والمناطق الحيوية في العالم: “آسيا ـ أوروبا”؛ “إسلام ـ غرب”؛ “أوراسيا ـ الأطلسي”، “شمال ـ جنوب”؛ “أميركا ـ أوروبا”. وفي هذا الإطار، ليست علاقات تركيا مع أي طرف بديلاً عن العلاقات مع طرف آخر.
4 ـ تطوير اسلوب ديبلوماسي جديد في السياسة الخارجية. وحتى الآن تُـعـَرّّف تركيا في النظام الدولي على انها جسر بين عدة جهات. هذا يعني أن دور الجسر هو الاكتفاء بمرور الآخرين فوقه. في حين أن تركيا يجب أن تعرّف في المرحلة الجديدة على أنها بلد “مركزٌ”. وهنا على الديبلوماسية التركية ان توائم حركتها تبعاً للساحة التي تتحرك فيها ولكل ساحة خطابها وأسلوبها، وتكون تركيا بذلك مساهمة في التفاعل الدولي لا عبئا عليه.
5 ـ الإنتقال الى ديبلوماسية منتظمة ومتواصلة. وتتمثل في الإلتقاء بأكبر عدد من المسؤولين على مختلف المستويات في الدول الأخرى، وفي كل القارات.
لذلك كان العام 2003 عام الخروج من المشكلات المزمنة. وعام 2004، عام مضاعفة التأثير التركي في المؤسسات الدولية (منظمة المؤتمر الإسلامي ـ حلف شمال الأطلسي ـ مأسسة اجتماعات دول الجوار الجغرافي للعراق) وإظهار تركيا كقوة اقليمية مرشحة للقيام بدور عالمي.
أما عام 2005 فسيخصص لتعزيز العلاقات مع البلقان والشرق الأوسط والقوقاز والإتحاد الأوربي، فيما سيكون العام 2006 عام إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
من الإقليمية إلى العالمية
أخيرا، يختصر أحمد داوود أوغلو الهدف النهائي من وراء انتهاج هذه السياسة الخارجية الجديدة في “تحويل تركيا إلى “بلد مركز” وتأسيس جسر صلب بين موقعها الحالي، ورؤيتها المستقبلية، وعمقها التاريخي”.
تركيا، إذاً، أمام استراتيجية جديدة، تحظى بإجماع داخلي، سياسي وعسكري، ونجاحها في السير بين التناقضات الهائلة في محيطها وفي العالم، لا سيما عشية وبعد احتلال العراق، مؤشر أولي على صواب وعمق هذه الاستراتيجية التي تؤسس لدور عالمي لتركيا عبر إقامة روابط صداقة مع الجميع، وليس من خلال القوة العسكرية التي لا تحسن أميركا وإسرائيل سواها.
د.محمد نور الدين – بيروت – سويس انفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.