تصعيد حماس: مساومة أم حرب؟
ثمة لغز محيّـر يُـحيط هذه الأيام بكل المشهد الفلسطيني، تتطاير فيه الأوراق بشكل عشوائي، ويختلط الحابل بالنابل، والاستراتجيات بالتكتيكات.
إذ توحي مجريات الأمور في الأيام الأخيرة بأن الأمور تتّـجه إلى الصِّـدام بدل الوئام، وإلى أوهام الحسم بدل وقائع التسويات..
فحتى الآونة الأخيرة، كانت كل الأطراف القيادية التي اتصلت بهم سويس إنفو تكرّر آنـاء الليل وأطراف النهار بأن الحرب الأهلية الفلسطينية خط أحمر، من غير المسموح لأي كان، تجاوزه، وبأن الهيئات العليا في “حماس” و”الجهاد” اتخذت قراراً حاسماً منذ فترة غير قصيرة حيال هذه المسألة.
وكان مقرراً بالفعل، أن يتم قرن القول بالفعل في هذا الشأن خلال الأسبوعين الماضيين عبر عقد مؤتمر الحوار الوطني، لولا “عقبات مفاجئة وغير مرئية” طرأت في اللحظات الأخيرة، لا بل أكثر: كانت هذه الأطراف تؤكّـد بأن الأمور تسير في اتجاه واضح تتخلى بموجبه “حماس” عن المسألة السياسية لتتفرغ للقضايا الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، على أن تتولى “فتح” مسائل المفاوضات والعلاقات الخارجية للسلطة السياسية.
بيد أن ما جرى في الأيام الأخيرة، أوحى بأن الأمور تتّـجه إلى الصِّـدام بدل الوئام، وإلى أوهام الحسم بدل وقائع التسويات، وهذا ليس فقط بسبب اندلاع الاشتباكات بين قوات فتح وحماس، بل أولا وأساساً لقرار حكومة هذه الأخيرة تشكيل وحدات شرطة خاصة بها أطلقت عليها إسم “القوة الأمنية التنفيذية”، التي أناطت بها مسؤولية حفظ الأمن والنظام، متجاوزة بذلك الوحدات الأمنية الأخرى التي تسيطر عليها حركة “فتح”.
هذه الخطوة المفاجئة لم يكن لها سوى تفسيرين إثنين: إما أن حماس، وعبر تشكيلها هذه القوة التي تتكوّن في معظمها من عناصر تابعة لها، تريد فرض أمر واقع جديد على الأرض، تنطلق منه للمساومة مع فتح حول تسوية القضية الأمنية الشائكة في غزة والضفة أو أنها مصمِّـمة بالفعل على تمكين حكومتها، المنتخبة ديمقراطيا، من لعب الدور الطبيعي الذي تقوم به كل وأي دولة: احتكار استخدام وسائل القمع الشرعية.
وبرغم أن كلا التفسيرين يندرجان في إطار برنامج الحركة الأشمل لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة، أمنياً واقتصاديا وإستراتيجياً، إلا إنهما يمكن أن يقودا إلى حصيلتين متباينتين تماماً.
فالخيار الأول قد يسهِّـل بالفعل الحوار والتسويات مع فتح، لأنه سيلغي احتكارها الحالي لأدوات القمع، وسيجعل حماس في موقع تفاوضي أفضل، وهذا أمر تعززه التقارير حول موازين القوى العسكرية بينها وبين “فتح”، التي تشير إلى أن الحركة الإسلامية قادرة على حسم الأمور أمنياً لصالحها في قطاع غزة، بفعل التوسع الكبير الذي شهدته قواتها هناك منذ الانسحاب العسكري الانفرادي من القطاع، وما رافقه من تدفق الأسلحة بلا حساب عليها عبر المعابر مع مصر. لكن، في المقابل، تتمتع أجهزة الأمن التي تُـسيطر عليها “فتح” بسيطرة شبه كلية تقريباً على الضفة الغربية، برغم أن “حماس” متفوقة فيها جماهيرياً.
وبرغم أن هذا يعني أن مكاسب حماس الصافية المحتملة في غزة من وراء تشكيل قوة الشرطة الجديدة قد تترجم نفسها خسائر صافية لها في الضفة، إلا أن مثل هذا التطور قد يرغم فتح في النهاية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات ووقف “قنصها” أو “تخريبها”، كما يقول بعض قادة حماس، لعملية إرساء السلطة الفلسطينية الجديدة.
حرب أهلية؟
هذا عن الخيار الأول. أما بالنسبة للخيار الثاني، أي احتكار “دولة حماس” لأدوات القمع الشرعية، فإنه سيؤدي إلى حرب أهلية، وإن محدودة كما يعتقد الكثيرون (حتى الآن على الأقل)، وسيفرض على حماس سؤالاً كبيراً: هل اللجوء إلى خيار الحسم العسكري سيمكّـنها من الحفاظ على شعبيتها الكاسحة الراهنة في أوساط الشعب الفلسطيني أم أن الرأي العام سينقلب ضدّها حين يرى الدماء الفلسطينية تسيل على أيدٍ فلسطينية؟
يبدو أن المنطق الذي تتداوله بعض الأجنحة في حماس يرد على هذا السؤال بإجابتين: الأولى “تكتيتية” (إذا جاز التعبير)، تستند إلى القناعة بأن الجماهير التي عانت الكثير من التجاوزات “الفتحاوية”، والانفلات الأمني، والسرقات والفساد، ستكون سعيدة إذا ما قام أي طرف بفرض الأمن والنظام وحكم القانون. والثانية، إستراتيجية (إذا جاز التعبير أيضاً)، وهي تعتمد على تجارب حركات التحرر الأخرى في العالم، حيث كانت الحرب الأهلية المحدودة ضرورية في بعض المراحل لإعادة توحيد قوى الثورة وتسييل الدم الطهراني مجدداً في عروقها.
هل هذه الأجنحة محقة في حساباتها؟ نعم فيما يتعلق بالشق الأول من الإجابة، ولا بالنسبة للثاني.
فالمواطنون الفلسطينيون الذين تطحنهم آلة “المافيات” وآليات الفساد والفوضى، سيكونون أكثر من سعداء إذا ما نجحت قوات حكومة حماس في الإمساك بمقاليد الأمن، حتى ولو عنى ذلك إراقة بعض الدماء الفلسطينية.
لكن الوضع سيختلف بشكل جذري حين ننتقل إلى المستوى الإستراتيجي، وهذا ليس فقط بسبب توازن القوى في غزة والضفة، بل أولاً وأساساً لأن الظروف الخارجية ستتدخل بكثافة في أية حرب أهلية فلسطينية، وهي لن تسمح بأي حال لحماس بالسيطرة التامة على الأوضاع في الضفة وغزة. والخارج هنا، لا يقتصر على إسرائيل وأمريكا، بل يطاول العديد من الدول العربية التي ستعتبر أن انتصار “دولة حماس” في فلسطين سيشكل تهديداً سافراً لأمنها القومي، والأزمة الراهنة بين الأردن وحماس نموذج فاقع على ذلك.
إلى أين تتجه الأمور؟ وماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني بوضوح، أن خيار الحسم العسكري ليس خياراً، إنه قفزة مغامرة إلى غياهب المجهول، إلا بالطبع إذا ما أثبتت الحركة أنها قادرة على حسم الأمور بسرعة لصالحها، وهذا ما لا يبدو واضحاً الآن. العكس هو الصحيح. وبالتالي، الحرب الأهلية “المحدودة” التي قد تنشب، لن تسجّـل نهاية كل الحروب الداخلية الأخرى، بل ستكون على الأرجح، مجرد بداية لحروب أخرى أكثر خطورة.
ثم إن هذا الاحتمال الأخير يتنافى مع كل ما تكرّره قيادات حماس وفتح آنـاء الليل وأطراف النهار حول كون الحرب الأهلية خياراً مستحيلاً. فهل هي جادة حقاً فيما تقول أم أن الأمور بدأت تفلت من يد الجميع بفعل التوترات الهائلة التي تثيرها الضغوطات والتدخلات الإقليمية والدولية في فلسطين؟ فلننتظر قليلاً وسنرى.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.