تفاؤل .. وحـذر .. وحيطة
تشهد الحياة السياسية اليمنية حراكا مثيرا للاهتمام نظرا لما يحمله من مؤشرات قد تقود إلى إنهاء حالة التوتر بين السلطة والمعارضة التي تزايدت بشكل ملحوظ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وإذا ما صحت التوقعات، فقد تُُفتح صفحة جديدة من التعايش والتساكن بين مختلف القوى السياسية.
لقد طرأ على المشهد السياسي اليمني مؤخرا عدت مؤشرات تهدف إلى تنقية الأجواء السياسية ووضع صيغة جديدة للتعايش بين الفاعلين السياسيين مما يفسر أن ثمة رغبة يلتقي عليها الجميع من سلطة ومعارضة للخروج مما أصبح يصطلح على تسميته بـ “الأزمة”.
لكن التنبوء بما قد تنتهي إليه التحركات الجارية وماسوف يترتب عليها من نتائج يبقى محل تقييمات متباينة بل ومحل حذر وحيطة لدى كثير من المتابعين نظرا لأن التجارب السابقة وما ترتب عليها من نتائج في الماضي البعيد والقريب على حد سواء مازالت ماثلة للعيان.
فقد تكرس (في الواقع كما في الذهنيات) أن تجارب معالجة الأزمات التي مر بها اليمن تنجح في بدايتها باحتواء تلك الأزمات لكنها ما تلبث أن تتحول إلى منتجة لأزمات جديدة وتقود إلى مزيد من التدهور نتيجة لانتقال الصراع من صراع بين أطراف على السلطة إلى صراع داخل السلطة نفسها.
ولعل ذلك هو منبع الخشية الحقيقي لأن مثل تلك الصراعات كلفت البلاد كثيرا وكانت الدولة برمتها هي من يدفع ثمن تلك التكاليف بسبب التنافس الحزبي والسياسي على جني مغانم السلطة والإستحواذ على الوظيفة العمومية وتسييس مناصبها بما يخدم الأغراض الحزبية لكل طرف.
تحركات وبوادر انفراج
وما زالت الذاكرة الجمعية والفردية تختزن ما حصل خلال الفترة الإنتقالية (استمرت من عام 1990 إلى عام 1993) وخلال حقبة الائتلاف بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي والتجمع اليمني للاصلاح بعد ذلك وحتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1994، ثم خلال مرحلة الائتلاف بين المؤتمر الشعبي العام والإصلاح بعد تلك الحرب (أي من عام 1994 وإلى حدود عام 1998) عندما دخل الحزبان في مرحلة من القطيعة التي أخذت تتزايد بين هذا الحزب ذي التوجهات الدينية (الذي يمثل أقوى أحزاب المعارضة) والمؤتمر الشعبي العام الحاكم.
وبدأت تلك التوجهات الرامية إلى حلحلة الوضع المأزوم من القصر الرئاسي بإشارة أرسلها الرئيس علي عبدالله صالح إلى أحزاب المعارضة بدعوتها للقاءات منفردة بدأها مع التنظيم الوحدي الشعبي الناصري ثم التجمع اليمني للإصلاح فالحزب الإشتراكي بهدف الخروج من حالة الاحتقان التي تعيشها البلاد.
ومنذ ذلك الحين توالت الخطوات وتسارعت صوب القصر الرئاسي من قبل قادة المعارضة بغية صياغة رؤية جديدة تكون محل توافق وتراضي مختلف الأطراف السياسية الفاعلة في المعارضة وفي السلطة.
وقد أثمرت تلك التحركات ظهور انفراج على أكثر من مستوى حيث عقد الحزب الإشتراكي مؤتمره الخامس وسط ترحيب رسمي وأعقبه توجيهات رئاسية بإعادة المقرات والممتلكات الخاصة بهذا الحزب (التي صودرت منه خلال حرب 1994)، ثم تبعه أن مالت صحيفة “الثوري” الناطقة بلسان الحزب الإشتراكي إلى التهدئة بعد أن كان ينظر إليها بأنها مصدر تأزيم علاقة الحزب بالسلطة بصفة عامة وبالرئيس بصفة خاصة لاسيما بعد ان أخذت كتاباتها تركز في الأونة الأخيرة على الهجوم الشخصي على الرئيس صالح وتحمله تبعات كل ما يجري في البلاد .
مبادرة ومؤشرات ثلاثة
على خلفية المبادرة الرئاسية تلك وما قوبلت به من تفاعل القوى السياسية الأخرى بدأ الحديث عن احتمال تشكيل “حكومة ائتلاف” تهيئ للإنتقال الديمقراطي وبناء دولة النظام والقانون إنطلاقا من أن الظرفية التي تعيشها البلاد وتدني مؤشرات نموها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية (طبقا لما جاء في أحدث التقارير الدولية) تستدعي مواجهتها من قبل الجميع وعلى أساس إعادة ترتيب البيت الداخلي برؤى تستوعب مختلف التصورات للقوى السياسية الموجودة على الساحة.
وقد انعكس ذلك بداية بالحديث عن صيغة معدلة لمبادرة الإصلاح السياسي لأحزاب المعارضة اعتبرت بمثابة مؤشر قوي على مدى تقارب المعارضة والسلطة. فبعد أن كانت مبادرة المعارضة للإصلاح السياسي تطالب بـ “استقلال رئاسة الدولة عن الحزب الحاكم وبحكومة مسؤولة أمام البرلمان”، ظهرت النسخة المعدلة بفعل تلك الحوارات المتتالية دونما إشارة إلى هذا الفصل بين سلطات رئيس الدولة والحزب الحاكم واعتبر ذلك بنظر المراقبين أولى المؤشرات على حلحلة الأزمة بين طرفي اللعبة السياسية في البلاد.
المؤشر الثاني الدعم الرئاسي المفاجي لحزب إتحاد القوى الشعبية من أجل عقد مؤتمره العام بعد أن كان مستبعدا من المشاركة في الحوار لاتهامه بالضلوع في دعم التمرد بمحافظة “صعدة” الذي قاده الحوثي تارة، وبالنزوع إلى إحياء الملكية تارة أخرى، ثم لعدم توفره على أعضاء في البرلمان (حيث كان الإتجاه في بادي الأمر حصرالحوار بالأحزاب الممثلة في البرلمان فقط واتحاد القوى الشعبية لا يتوفر على أعضاء برلمانيين).
لكن الدعم الذي حصل عليه مؤتمره العام المنعقد يومي 22 و23 سبتمبر)، وكما جاء على لسان أمينه العام “يمثل إشارة مهمة تجاه المعارضة عامة”، حيث ينضوي هذا الحزب وأحزاب المعارضة الأخرى في إطار ما يعرف باللقاء المشترك الذي تتكتل في إطاره الأحزاب المعارضة الرئيسية (وهي الإصلاح، والإشتراكي، والتنظيم الوحدوي الناصري، واتحاد القوى الشعبية، وحزب الحق، وحزب البعث القومي العربي) منذ عام 2001.
المؤشر الثالث الدال على الخروج من حالة الجمود السياسي هو إعلان الرئيس اليمني عشية الإحتفال بالذكرى الثالثة والأربعين لثورة 26 سبتمبر عن تعويض أفراد العائلة الملكية المطاح بها في مثل ذلك اليوم من عام 1962 عن ممتلكاتهم التي صادرها الثوار قبل 43 سنة.
في انتظار الممارسات العملية
بموازاة ذلك كثفت الأحزاب المعارضة الرئيسة من لقاءاتها بغية بلورة تصور مشترك للإصلاح السياسي المراد وقد جاءت الصيغة المعدلة لمبادرة المعارضة التي غضت الطرف عن دعوتها للفصل بين منصب الرئيس وحزبه لتعكس مدى التنازلات المتبادلة بين السلطة ممثلة برئيس الدولة والمعارضة ممثلة بأحزاب “اللقاء المشترك”.
من جهة أخرى، قالت مصادر عليمة لسويس انفو إنها “ستعمل على لجم صحف المعارضة النزقة” على حد تعبيرها عن ما تعتبره “مساسا بالثوابت الوطنية وما يسيء لشخص الرئيس تحديدا”.
إجمالا يرى المراقبون أن هذا الحراك غير المسبوق للمشهد السياسي اليمني والتوافق على صياغة جديدة للمستقبل بين المعارضة والسلطة بكل مؤشراته الأولية يبعث على التفاؤل للخروج من حالة الجمود والتوتر المهيمنان على الحياة السياسية منذ سنوات.
لكن ذلك التفاؤل يبقى حذرا بكل المقاييس نظرا للصورة التي خلفتها النهايات المشؤومة للتجارب السابقة وماترتب على تلك التجارب من كلفة باهضة دُفعت فاتورتها من إمكانات البلاد الضئيلة أصلا.
فعلى الرغم من أن كل تجارب التوافق والتراضي بين القوى السياسية اليمنية في مختلف مراحلها في العصر الحديث قد جرت تحت مسميات بناء الدولة الوطنية وإقامة دولة النظام والقانون، إلا أنها عملت باستمرار على إضعاف الدولة الوطنية وكثيرا ما تحولت التسويات للأزمات إلى تراض وتقاسم للنفوذ والثروة والجاه وقع عبء كلفته على قدرات وإمكانات اليمن المحدودة .
فهل ستكون المرحلة المقبلة استمرارية لذلك التقليد أم أنه بداية جديدة مغايرة ومختلفة عن المألوف؟ الإجابة على ذلك لن تأتي من الصيغ النظرية المطروحة بل من واقع التجربة والممارسة التي مازال يفصلنا عنه الكثير.
عبدالكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.