تقويض أوهام المحافظين الجدد في العراق
شـكّـل الإسراع الأمريكي بتسليم السلطة إلى حكومة عراقية انتقالية قبل إنجاز أوهام المحافظين الجدد محاولة من صقور الحرب في واشنطن لحفظ ماء الوجه.
فقد فشل استخدام مبدأ “الضربات الإستباقية” في العراق إلى حد الآن في إنجاز الأهداف الاستراتيجية الأمريكية مثل فرض خريطة سياسية جديدة وتحويله إلى واحة للديمقراطية.
سواء أفلحت الحكومة الانتقالية العراقية في إدارة ما سمحت لها قوات الاحتلال بإدارته من شئون العراق أو لم تفلح فإن الإسراع بخروج سلطة التحالف دون تحقيق أوهام المحافظين الجدد يعني محاولة من صقور الحرب في واشنطن استخدام حجة تسليم السلطة للحكومة الانتقالية في بغداد كوسيلة لحفظ ماء وجه المحافظين الجدد أمام فشل استخدام مبدأ الضربات الاستباقية في العراق كوسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من خلال فرض خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط انطلاقا من تحويل العراق إلى واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط يتم بعدها نشر الديمقراطية في العالم العربي.
ويرى عديد من الخبراء والمحللين السياسيين الأمريكيين أن المحافظين الجدد فشلوا في توفير نموذج في العراق يصلح كمثال لتطبيق مشروعهم المسمى”القرن الأمريكي الجديد” والذي كان يستهدف فرض الهيمنة الأمريكية على العالم من خلال:
أولا: زيادة ميزانية الدفاع الأمريكية وتحديث القوات الأمريكية لتكون جاهزة لفلسفة استخدام القوة لتحقيق المصالح الأمريكية في الخارج.
ثانيا: تعزيز العلاقات مع الدول الديمقراطية الحليفة وتحدي أمريكا لنظم الحكم المعادية للمصالح والقيم الأمريكية.
ثالثا: تعزيز عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في الخارج.
رابعا: قبول أمريكا بدورها الفريد في الحفاظ على نظام عالمي صديق للمبادئ الأمريكية.
مبررات واهية
وفي خضم النفوذ الذي حظي به المحافظون الجدد في إدارة الرئيس بوش أقنعوه بتغيير استراتيجية الأمن القومي الأمريكية والتوجه نحو شن الحروب الإستباقية فيما أصبح يعرف بمبدأ بوش.
وسرعان ما تسللت كلمة الشر إلى قاموس المصطلحات السياسية الأمريكية، وتسلل معها توجه نحو المواجهة استنادا إلى اعتقاد المحافظين الجدد بأن التوصل إلى اتفاق مع الشر من شأنه أن يضعف قوى الخير، ولذلك فيجب محاربة الشر دائما حتى تتم هزيمته.
وبمجرد وقوع هجمات سبتمبر عام 2001 سارع وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد صبيحة اليوم التالي ليصر في اجتماع مجلس الوزراء على أن صدام حسين يجب أن يكون الهدف الأول في الحرب الأمريكية على الإرهاب وعندما قرر بوش تقديم مبررات شن الحرب على العراق استند قراره إلى أربعة مبادئ:
أولا، أن الولايات المتحدة يجب أن تلجأ إلى شن حرب إستباقية ولا تنتظر ليقع هجوم على الأهداف الأمريكية بأسلحة الدمار الشامل العراقية.
ثانيا، أن الولايات المتحدة يجب أن تتحرك بشكل انفرادي أو مع تحالف من الراغبين عندما لم يخول مجلس الأمن المجتمع الدولي باستخدام القوة ضد العراق.
ثالثا، أن هناك علاقة بين النظام العراقي وبين تنظيم القاعدة تجعل من العراق ميدانا رئيسيا في الحرب الأمريكية على الإرهاب.
رابعا، أنه مع إسقاط النظام العراقي بالقوة سيمكن تحويل العراق إلى نظام ديمقراطي تنطلق منه عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي.
تأتي الرياح بما لا يشتهي المحافظون الجدد
ويرى المحللون السياسيون في العاصمة الأمريكية أن الخروج الأمريكي من العراق، في شكل تسليم السلطة بسيادة منقوصة للحكومة الانتقالية، ودون تحقيق معظم الأهداف الأمريكية، يشكل تآكلا واضحا لمبدأ بوش وانتكاسة خطيرة لاستراتيجيات المحافظين الجدد ويسوقون الأسباب التالية:
أولا، فشل إدارة بوش وصقور الحرب فيها في العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة والتي استند إليها قرار شن الحرب الإستباقية.
ثانيا، فشل إدارة الرئيس بوش في تقديم أي دليل على وجود أي علاقة بين النظام العراقي السابق وبين تنظيم القاعدة، وتأكيد لجنة التحقيق التي شكلها الكونجرس لعدم وجود مثل تلك العلاقة.
ثالثا، فشل القوات الأمريكية في توفير الأمن والاستقرار في العراق، واستمرار حركات الانشقاق والتمرد والمقاومة المسلحة بشكل قوض أوهام المحافظين الجدد ووعود بوش بأن يصبح العراق نموذجا للأمن وواحة للحرية والديمقراطية.
رابعا، فشل سلطة التحالف المؤقتة في الوفاء بوعودها في إصلاح مرافق البنية التحتية العراقية وتوفير الخدمات الرئيسية للمواطنين العراقيين.
خامسا، تصاعد المشاعر المعادية للاحتلال الأمريكي البريطاني وتهاوي النظرية القائلة بأن جنود الغزو سيستقبلهم الشعب العراقي بالورود فرحة بالتحرير المزعوم.
سادسا: فتور العلاقات الأمريكية مع الدول الحليفة بسبب القرار الأمريكي المنفرد بشن الحرب، وتصاعد المشاعر المعادية للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي، بل وفي الدول الأوروبية والآسيوية مما حدا بالسناتور جاي روكيفيللر نائب رئيس لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ إلى القول بأن مصداقية الولايات المتحدة تقلصت في العالم وأدت الحرب إلى تغذية مشاعر الكراهية للولايات المتحدة خاصة في العالم الإسلامي.
من “محافظين جدد” إلى “واقعيين جدد”؟
ويقول السيد جيفري كيمب العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي “لقد فشلت ثلاثة مبادئ من الأربعة التي استند إليها بوش في شن الحرب على العراق، ويبقى هدف تحويل العراق إلى نظام ديمقراطي في علم الغيب، فيما يزداد تفاقم مشكلة الإرهاب في العالم”.
بينما يرى محللون آخرون أن أكبر دليل على إخفاق أجندة المحافظين الجدد في العراق هو التحولات التي طرأت على سياسة إدارة الرئيس بوش في الأسابيع الأخيرة، فبعد أن كانت تعتمد على التحرك المنفرد عادت إلى الأمم المتحدة لتطلب المساعدة في التغلب على المشاكل السياسية التي واجهتها في العراق، بل وطلبت من الأمم المتحدة الإشراف على الانتخابات المزمع إجراؤها في العراق وصياغة الدستور.
كما تخلت إدارة بوش عن أسلوب المواجهة الذي روج له المحافظون الجدد، لتسلك من جديد الطرق الدبلوماسية مع الحلفاء، وتطلب مساعدتهم في مواجهة المشاكل الدولية الأخرى مثل التسلح النووي في إيران وكوريا الشمالية، رغم أنهما يشكلان ما تبقى من محور الشر الذي اخترعه الرئيس بوش.
وفيما يتعلق بهدف تحويل الشرق الأوسط إلى نظم ديمقراطية بدءا بالعراق، يرى السيد جيفري كيمب أن تجربة المحافظين الجدد في العراق كفيلة بتحويلهم إلى”واقعيين جدد”، خاصة في محاولتهم تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط وفرض التحول نحو الديمقراطية كوسيلة لكبح جماح التهديدات الأمنية للمصالح الأمريكية.
ويرى محللون آخرون أن إخفاق إدارة الرئيس بوش في الوفاء بوعد تحقيق الديمقراطية في العراق بعد الإطاحة بالرئيس صدام حسين، وفشل واشنطن في تحريك عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والرضوخ لأجندة شارون، قوض مصداقية الولايات المتحدة في العالم العربي، خاصة بعد أن ثبت للعرب عدم صدق إدعاء بوش بأن إزالة التهديد الأمني الذي أدعى أن صدام حسين كان يشكله سوف يحسن فرص السلام، كما لو أن الطريق إلى القدس لابد وأن يمر ببغداد!
غير أن السيد وليام كريستول أحد المنظرين الرئيسيين لاستراتيجية مشروع القرن الأمريكي للمحافظين الجدد يرى أنه رغم مشاكل تطبيق هذه الاستراتيجية، وما وصفه بالأخطاء التي وقعت فيها إدارة الرئيس بوش فإنه ليس أمام الولايات المتحدة خيارات عديدة بديلا عن تلك الاستراتيجية.
ويقول “ليس هناك أحد يفكر في قبول الأوضاع التي كانت قائمة في الشرق الأوسط قبل الحادي عشر من سبتمبر، أو استمرار الولايات المتحدة في التعامل مع حكام المنطقة الدكتاتوريين، كما لا يمكن لأحد استبعاد لجوء الولايات المتحدة إلى مبدأ الحروب الإستباقية في عالم محفوف بمخاطر أسلحة الدمار الشامل”.
إلا أن أوهام المحافظين الجدد ذهبت أدراج الرياح على أرض العراق، وتجسدت هزيمة تلك الأوهام في الخروج (لم يتردد البعض في وصفه بالهروب) الصامت للسفير بول بريمر، أحد المنتمين للمحافظين الجدد والحاكم المدني للعراق، بعد أربعة عشر شهرا من قيامه بإدارة شئون العراق في إطار سلطة التحالف انتهت بعدم تنفيذ أي من الوعود الزائفة بتوفير فرص العمل لمئات الآلاف من العراقيين، والقيام بعمليات ضخمة لإعادة إعمار العراق، أو حتى إعادة بناء وتدريب قوات الشرطة والجيش العراقي الجديد، الأمر الذي أدى إلى فقدان 85 في المائة من العراقيين للثقة في سلطة التحالف بقيادة بول بريمر.
ويقول الدكتور توني كوردسمان الخبير الاستراتيجي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن عملية نقل السلطة من بريمر إلى حكومة عراقية مؤقتة تمت في وقت لازالت فيه البلاد في وضع بالغ الخطورة ويتسم بعدم الاستقرار، فيما تفتقر قوات الأمن العراقية إلى التدريب والمعدات اللازمة لحفظ الأمن والنظام؛ فمن بين 87 ألف رجل شرطة إما في الخدمة أو لازالوا تحت التدريب لم يستكمل التدريب سوى 5857 فردا ولم يتلق 75 ألفا منهم أي تدريب! ويقول إن هناك إحصائية أخرى تثير الضحك، فمن بين 18 مليار دولار تم تخصيصها من الولايات المتحدة للمساعدة في إعمار العراق لم تنفق سلطة التحالف منها إلا 333 مليون دولار!
أكثر من مؤشر على الفشل
ولم يقتصر الشعور بأن تسليم السلطة المبكر لحكومة عراقية انتقالية هو مؤشر على الفشل الأمريكي في العراق على المحللين السياسيين. فقد أظهر استطلاع لآراء الشعب الأمريكي أن 60 % من الأمريكيين يعتقدون بأن تسليم السلطة في ظل الأوضاع الأمنية المتردية في العراق دليل على الإخفاق، كما أعربت نسبة 45% من الأمريكيين عن اعتقادهم بأن الحرب التي روج لشنها المحافظون الجدد خلقت المزيد من الإرهابيين الذين يخططون لاستهداف الولايات المتحدة.
وتسللت الانتقادات لسياسة بوش وإدارته الخاضعة لنفوذ المحافظين الجدد إلى شاشة السينما الأمريكية حيث أقبل الأمريكيون بشغف لم يسبق له مثيل على فيلم تسجيلي، حقق إيرادات خيالية، وهو فيلم فهرنهايت 9/11 للمخرج الأمريكي مايكل مور، سخر فيه من سرقة بوش لانتخابات الرئاسة في عام 2000، ومن خضوعه لصقور الحرب من المحافظين الجدد من أمثال بول ولفوفيتز ودونالد رامسفيلد وديك تشيني.
وأبكي الفيلم المشاهدين من بشاعة الحرب في العراق بالنسبة للمدنيين العراقيين من جهة، وبالنسبة للجنود الأمريكيين الذين اظهر الفيلم كيف أنهم يدخلون الجيش بسبب فقرهم وكوسيلة للإنفاق على استكمال تعليمهم، ويزج بهم أصحاب النفوذ في المؤسسة العسكرية والشركات الكبرى في الحروب ليستفيد أثرياء أمريكا.
واستخدم مثالا على ذلك صفقات شركة هاليبيرتون في العراق بملايين الدولارات، وهي شركة كان يرأسها ديك تشيني، والعلاقة الخاصة القائمة بين أسرة بوش والأسرة المالكة السعودية والتي انطوت على مكاسب مالية لشركات بترول خاسرة كان يديرها بوش.
وبطبيعة الحال، كان للمرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأمريكية السناتور جون كيري ما يقوله حول نقل السلطة إلى حكومة انتقالية في العراق. فقد انتقد نقل السلطة في وقت لا تتوفر فيه للحكومة الانتقالية أي قدرة على توفير الأمن أو تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين العراقيين، وقال إن المشكلة هي أن السياسة التي اتبعتها إدارة بوش في عراق ما بعد الحرب افتقرت إلى الواقعية وحفلت بالطنطنة والأيديولوجية، ولم تستمع إلى كل النصائح الخاصة بمتطلبات توفير الأمن في عراق ما بعد الحرب.
ويجمع المراقبون السياسيون في واشنطن على أن أوضح مؤشر على تململ الشعب الأمريكي من هيمنة ايديولوجية المحافظين الجدد الفاشلة على توجهات الرئيس بوش هو ان أحدث استطلاع للرأى أشار إلى حظوظ المرشح الديمقراطي جون كيري في الفوز بمقعد الرئاسة تزداد وأصبح متقدما على الرئيس بوش بفارق ست نقاط ولكن إذا تخلى بوش عن عراب المحافظين الجدد وهو نائبه ديك تشيني واختار نائبا غيره على قائمته الانتخابية مثل كولن باول فسيفوز في انتخابات الرئاسة القادمة.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.