تمسّـك إيران ببرنامجها النووي
دخلت مرحلة استكمال بناء مفاعل بوشهر الأول خلال الشهور الثلاثة الماضية "معركتها الأخيرة" في ظل حالة من عدم التأكّـد حول ما يُـمكن أن تُـسفر عنه في النهاية.
فهل ستسمح الولايات المتحدة بدخول مفاعل نووي قوي Power Reactor تبلغ طاقته 1000 ميغاوات ألى الشرق الأوسط من البوابة الإيرانية؟
كان مفاعل بوشهر 1 يبدو وكأنه المفاعل الذي لا يرغب أحد في رؤيته. فهو يمثل “العمود الفقري” للبرنامج النووي الإيراني الذي يثير هواجس كبيرة، وتصل طاقته إلى 1000 ميغاوات، بما قد يفتح آفاق غير محدودة لانتشار القدرات النووية في الشرق الأوسط. لذا، واجهت عملية بنائه عراقيل من كل اتجاه استمرت تؤثر لما يزيد على ربع قرن. فعلى الرغم من أن هذا المفاعل لا يطرح مباشرة قضايا عسكرية حادة، إلا أنه لا يمثل أيضا مجرد تطور تكنولوجي كبير.
لقد كادت عملية بناء مفاعل بوشهر 1 أن تتم في أواخر السبعينات لولا قيام الثورة الإسلامية في إيران. فحتى عام 1974، كانت أهم منشاة نووية تمتلكها إيران هي مفاعل أبحاث طاقته 5 ميغاوات حصلت عليه من الولايات المتحدة في الستينات، وبدا تشغيله عام 1967 بمركز الأبحاث النووية شمال غرب طهران.
وفي ذلك العام، أعلن شاه إيران، محمد رضا بهلوي، برنامجا نوويا شديد الطموح تم التخطيط من خلاله لإقامة 20 مفاعلا نوويا، بدءً بمفاعلين لتوليد الطاقة الكهربائية بطاقة 1200 – 1300 ميغاوات لكل منهما تتم إقامتهما بالقرب من بوشهر. وتم إسناد عملية إقامة المفاعلين إلى شركة “سيمنس” الألمانية التي بدأت العمل على الفور دون عراقيل تذكر.
وكان التصور الذي استطاع الشاه تسويقه، هو أنه يرغب في بناء دولة صناعية قوية على الرغم من أن بعض دول الإقليم كانت على ثقة بأن الشاه يسعى في النهاية إلى امتلاك القنبلة، وأن المبادرة التي طرحتها إيران في الأمم المتحدة في نفس عام إطلاق البرنامج النووي (1974) لإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط تمثل في الواقع غطاء دوليا لطموحات إقليمية.
وبحلول عام 1979، كانت الشركة الألمانية قد انتهت تقريبا من 85% من عملية بناء المفاعل الأول الذي أصبح يُـعرف فيما بعد باسم مفاعل بوشهر، بينما كان قد تم التقدم جزئيا، بنسبة تقترب من 50% في بناء المفاعل الثاني المجاور له، لكن قيادات الثورة الإيرانية قامت بإيقاف المشروعين.
وثمة تفسيرات مختلفة لهذه الخطوة تربطها بتصورات الإمام آية الله الخميني أو توجهات رئيس الحكومة مهدي بازرجان ، إلا أن المشروع النووي الإيراني كان جزءً من ميراث عهد أطاحت به الثورة، ولم يكن من المتصور أنه سيستمر. فتغييرات سياسية داخلية أقل حدة من ذلك قد أوقفت مشروعات مماثلة في بلدان أخرى.
الهجمات العراقية
ثم جاء التحدي الثاني الذي واجه مفاعل بوشهر إقليميا. فقد كان العراق يتابع مشروع الشاه النووي بقلق شديد، وكان يُـدرك معنى أن تتمكن إيران الشاه من امتلاك أسلحة نووية على نحو أدى به إلى إطلاق برنامج نووي لا يقل طموحا عام 1975 يحمل هو الآخر ملامح عسكرية شديدة الوضوح، حيث قام ببناء مفاعلين فرنسيين قصفت إسرائيل أكبرهما (أوزيراك) قبل تشغيله في يونيو 1981، لتقضي على الطموحات النووية العراقية في ذلك الوقت قبل أن يعمل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين على استعادتها مرة أخرى بنفقات وصلت إلى 10 مليار دولار في أواخر الثمانينات.
فبعد قصف أوزيراك، كان أحد التحديات التي تواجه العراق يتمثّـل في البنية الكامنة للبرنامج النووي الإيراني كجزء من قوة إيران التي كان شن الحرب ضدها عام 1980 يستهدف تحطيمها. لذا، فإنه ابتداءً من عام 1984 أصبح مفاعلا بوشهر هدفا دائما للضربات الجوية العراقية.
ففي مارس 1984 تـمّ شن الغارة العراقية الأولى ضد المفاعلين، إلا أنها لم تؤد إلى تدمير كبير لهياكلهما. وفي عام 1985، قامت القوات العراقية بشن هجومين آخرين ، ثم شنت غارة رابعة عام 1986، وغارتين إضافيتين عام 1987. وقبل أن تنتهي الحرب عام 1988، كان العراق قد شن غارة مُـركّـزة نهائية ضدهما.
وأدّت الغارات العراقية إلى إحداث تدمير كبير لمفاعل بوشهر الرئيسي لحق بهياكله الخرسانية وقبّـة الحاوية الخاصة بقلب المفاعل الذي لم يكن قد تم تركيبه بعد. وتبعا لتحليلات مختلفة، فإن تلك الغارات قد جعلت المسؤولين الإيرانيين يُـعيدون تقييم مدركاتهم لمسألة القدرات النووية في اتجاه التفكير بإعادة إحياء البرنامج النووي، لكن الظروف المحيطة بإيران، كانت قد تغيّـرت تماما. فما كان مسموح به لنظام موالي للغرب لم يكن ليسمح به لنظام ثوري إسلامي قامت توجّـهاته على عداء مكشوف للولايات المتحدة التي اعتبرها “الشيطان الأكبر”.
التقلّـبات الروسية
بدأت الحكومة الإيرانية في تنشيط برنامجها النووي عام 1984 تقريبا، وشهدت هذه الفترة عملية نقل للأنشطة النووية من مركز طهران النووي إلى مركز أبحاث أصفهان للحفاظ على وجود البرنامج النووي. وشهد ذلك العام افتتاح مفاعل محدود (30 كيلووات) كان قد اكتمل وقت سقوط الشاه، إلا أنه لم يكن من الممكن عمل شيء لحماية مفاعلي بوشهر في ظل التفوق الجوى العراقي، وقرب منطقة بوشهر من القواعد العسكرية العراقية.
لكن بعد أن انتهت الحرب، طلبت طهران من شركة “سيمنس” استئناف عملها في بناء المفاعلين المدمرين، إلا أن الشركة رفضت ذلك في ظل ضغوط عنيفة من جانب الولايات المتحدة، وانتقل الخلاف بين إيران وسيمنس إلى ساحة القانون التجاري الدولي.
وتحولت إيران في الفترة التالية باتجاه روسيا الاتحادية التي كانت تعانى من مشكلات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فقد تم 1992 توقيع اتفاقية تعاون نووي بين روسيا وإيران في مجال الأغراض الصناعية السلمية وبناء المحطات النووية.
واستنادا إلى هذه الاتفاقية، شهد عام 1994 توقيع عقد بقيمة 800 مليون دولار لبناء مفاعل بوشهر الأول في نفس الموقع مع التفاوض حول بناء روسيا للمفاعل الثاني في إطار مشروع إيراني جديد شديد الطموح لإقامة 10 محطات للطاقة النووية خلال 20 عاما، وأعلن أن حوالي 150 خبيرا روسيا بدءوا العمل بالفعل بموقع المشروع في بوشهر.
لكن قوة الدفع الإيرانية – الروسية قد فُـقدت بشكل سريع. فقد أدت مشكلات مالية إلى الاتجاه نحو التركيز على بناء المفاعل المُـتّـفق عليه مع تأجيل البت بشأن المفاعل الثاني ولم تتمكن الشركات الإيرانية المشاركة في عملية البناء من تنفيذ التزاماتها وفقا للجدول الزمني، وتصاعدت الضغوط الأمريكية على روسيا لتعديل أو إلغاء الاتفاقات المبرمة مع إيران، بحيث ارتبكت عملية بناء المفاعل تماما عام 1998.
لكن، في نفس العام تمكّـن الطرفان من التوصّـل إلى بروتوكول جديد (تسليم مفتاح) تقوم روسيا بمُـقتضاه بإنهاء العمل في المفاعل النووي الأول في مايو 2003، بينما يتم تأجيل بناء المفاعل الثاني إلى عام 2007، إلا أن ذلك لم يكن نهاية المطاف.
وسجّـل عام 2001 تطورات حاسمة في عملية بناء مفاعل بوشهر الأول. فقد بدأ المسؤولون الإيرانيون منذ بداية العام في توجيه انتقادات حادة لروسيا لتباطئها في بناء المفاعل، مشيرين إلى أن المشروع قد يتأخّـر لعامين آخرين، إذا استمر العمل يسير على ذلك النسق. فلم يكن قد تم إنجاز سوى 50% من المفاعل.
لكن في شهر مارس من عام 2001، قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بأول زيارة يقوم بها رئيس إيراني إلى روسيا، وكان من الواضح أن المسألة النووية تُـمثل بندا رئيسيا على جدول أعماله.
خط واشنطن
في نفس الوقت، كانت واشنطن قد دخلت المعركة بقوة. فقد تم بث صور فضائية التقطها القمر الصناعي الأمريكي “إيكونوس” في سبتمبر 2001 لما سُـمى مدينة بوشهر النووية على ساحل الخليج الشرقي في إيران توضح أن الإيرانيين يقومون ببناء مفاعلين نوويين، وليس مفاعلا واحدا في تلك المنطقة، أحدهما شارف بناءه على النهاية، ويُـحيط بهما مجمع نووي يتألف من 630 مبنى، بما يؤكد وجود مشروع نووي أضخم مما كان متصورا من قبل، وهو ما اعتُـبر من جانب محللين أمريكيين وإسرائيليين بالطبع، مسألة “تثير القلق”.
لكن الحقيقة هي أن القبة الأولى التي ظهرت في الصور، والتي يُـفترض أنها قبة مفاعل بوشهر 1 النووي الشهير لم تكن تحتوى على “قلب مفاعل” أسفلها. فعملية بناء ذلك المفاعل لم تكن قد اكتملت رغم مرور 26 عاما على بدايتها، ولم يكن هناك يقين حول إمكانية اكتمالها في المدى الزمني المتصور وقتها لذلك، وهو شهر ديسمبر 2003.
كما أن القبة الثانية لم تكن تمثل سوى أكثر من مجرد بناء معدني أسمنتي لم يتم التعاقد بشكل مؤكد على المفاعل الذي يُـفترض أن تتم إقامته داخلها. فما كان قائما هو مشروعات وليس مفاعلات.
وقد شهدت الفترة التالية تطورات محمومة في عدة اتجاهات، أهمها:
1 – إبرام مجموعة من الاتفاقيات الإيرانية – الروسية لتوسيع نطاق التعاون العسكري طويل المدى بين الطرفين في مجال تكنولوجيا الصواريخ، والأقمار الصناعية، والتعاون النووي، مع إبداء خاتمي رغبة في توقيع عقد مفاعل بوشهر الثاني، وهو ما شكّـل إغراء لروسيا.
2– تسارع غير معتاد في حركة روسيا باتجاه استكمال بناء مفاعل بوشهر الأول. فقد تم شحن أجزاء أساسية من هيكل وقاعدة المفاعل إلى إيران في ظل توقعات بإمكانية بدء تشغيله بالفعل في ديسمبر 2003.
3– غضب شديد من جانب الولايات المتحدة تُـجاه ما يحدث على المستوى النووي بين روسيا وإيران مع اجتماعات مكثفة على مستويات رفيعة بين الجانبين لبحث الموقف دون أن تبدو ملامح محددة لما يتم التفاهم بشأنه بين الجانبين.
في ظل تلك الأجواء، دخلت عملية استكمال بناء مفاعل بوشهر الأول عام 2003 مرحلة حاسمة وسط حسابات مُـعقّـدة من جانب أطراف كثيرة لتداعيات حدوث ذلك. فقد أعلنت روسيا تمسّـكها باستمرار تعاونها النووي مع إيران، وأنها سوف تستكمل بناء المفاعل، لكنه كان واضحا أن الأمور تسير أيضا في اتجاه مراعاة مطالب واشنطن.
ففي شهر ديسمبر 2002، تم إبرام بروتوكول تعاون نووي إيراني – روسي يقضي بقيام إيران بإعادة النفايات النووية المستخدمة في مفاعل بوشهر إلى موسكو. كما عملت إيران على طمأنة واشنطن بنفيها السعي لامتلاك السلاح النووي إلى درجة اعتبار امتلاكه “حرام” مع ترحيبها بفتح منشآتها النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وموافقتها على دخول الولايات المتحدة كطرف ثالث في صفقة استكمال المفاعل، وقبولها التفكير في انضمام مشروط للبروتوكول الإضافي لنظام تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي يسمح بالتفتيش المفاجئ على منشآتها النووية.
وبدت طهران مستعدة للقيام بكل شئ لكي يبدأ مفاعلها بالعمل خلال منتصف عام 2004 بعد أن تبددت أمالها في أن يتم ذلك في ديسمبر 2003 القادم.
المسيرة مستمرة
لكن مأزق بوشهر 1 لا يزال مستمرا. فقد تفجّـرت مشكلات خاصة بالإمدادات المحلية لليورانيوم الطبيعي الذي أعلن أن إيران بدأت في استخراجه من “يازد”، وبناء منشآت معالجته واحتجاج روسيا على وجود شركات غربية تعمل بالمجال النووي في إيران دون علمها، وإفادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران كانت قد استوردت شحنة يورانيوم طبيعي عام 1991 دون إبلاغها، مع تسريب معلومات بأنه تم اكتشاف نظائر في عينات هوائية تؤكد وجود عملية تخصيب يورانيوم داخل إيران، وهو ما أدى إلى اندفاع الولايات المتحدة، التي يقوم موقفها على الشك المزمن في النوايا النووية الإيرانية، نحو التأكيد على أن هناك برنامجا نوويا عسكريا موازيا يعمل داخل إيران، وأن استكمال روسيا بناء مفاعل بوشهر سيُـوفّـر غطاء لذلك البرنامج الذي يهدف إلى امتلاك “القنبلة”.
وهكذا، فإن ما يبدو حتى الآن هو أن العملية لا تسير هذه المرة أيضا إلى الأمام، وأن تاريخ 2004 قد لا يكون الأخير الذي يتم تحديده كحد نهائي لعمل مفاعل بوشهر الأول، خاصة إذا لم تقدم طهران إجابات مقنعة تماما حول علامات الاستفهام المثارة أو استسلمت روسيا للمساومات والضغوط الأمريكية. فمسيرة هذا المفاعل المثير منذ منتصف السبعينات، لم تتحول بعد إلى تاريخ.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.