تنافس الجامعات الفرنسية والأنكلوساكسونية في المغرب العربي
اشتد وطيس التباري بين الجامعات الناطقة بلغة فولتير وغريمتها الناطقة بلغة شكسبير في منطقة المغرب العربي، على رغم ترجيح استمرار سيطرة الفرنسية في الأمد القريب.
في هذا السياق، أفادت مصادر فرنسية أن مشروع إنشاء فرع لجامعة “دوفين” الباريسية في تونس باستثمارات خاصة بات جاهزا من النواحي المالية والإدارية والتربوية (البيداغوجية)، وأكدت أن الإفتتاح سيتم في الفترة القريبة المقبلة من دون إعطاء ميقات مُحدد.
تشترك في تمويل المشروع كل من مجموعة مبروك (التي تملك سلسلة سوبرماركات “مونوبري” و”جيان” ومصانع منسوجات وعقارات) ومجموعة الشايبي (التي تملك سلسلة سوبرماركات “كارفور” و”شامبيون” وفنادق فخمة) ومجموعة “بنك تونس العربي الدولي”.
وأوضحت المصادر أن إقامة فرع جامعة “دوفين” أتى نتيجة اتفاق كامل بين الحكومتين وأن الشهادات التي سيسلمها الفرع ستكون لها قيمة علمية معادلة لشهادات الجامعة الأم، خاصة أن كثيرا من أساتذة الجامعة الفرنسية رحبوا بالتدريس في تونس لأسباب مناخية أولا، ثم لتضاؤل طلاب الدكتوراه الذين يحتاجون لتأطير أكاديمي، وهو ما سيكون متاحا لهم بنسبة أعلى في تونس.
وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أكد في تصريحات أدلى بها بمناسبة جولته المغاربية الأخيرة، أنه “على فرنسا، أكثر من أيّ وقت مضى، أن تكون بجانب تونس في «المعركة من أجل الذكاء»”، مُعتبرا أن هذه المعركة تدور أولاً في مجال التعليم العالي وواعدا بـ “شراكة مُهيكلة” بين فرق البحوث والمؤسسات الجامعية في البلدين “في المجالات الواعدة، مثل تكنولوجيات الإعلام والاتصال أو البيوتكنولوجيا”.
ويُعتبر مشروع إقامة فرع لجامعة “دوفين”، الأول من نوعه في شمال إفريقيا، إذ ظهرت مشاريع مماثلة في الخليج، بالنظر للإمكانات المالية التي أتاحت إقامة فروع لجامعات بريطانية وأمريكية وفرنسية عريقة، خاصة في دبي والدوحة، لكن طلاب المغرب العربي لم يتمتعوا بالإمكانات المتاحة لزملائهم الخليجيين فاتجهوا منذ بواكير القرن الماضي إلى فرنسا أساسا لمتابعة دراساتهم العليا.
ويوجد حاليا عشرة آلاف طالب تونسي مُرسمين في الجامعات الفرنسية على سبيل المثال وأعداد الجزائريين والمغاربة أكثر من ذلك. وفي إطار سياسة الهجرة الجديدة التي تنتهجها أوروبا لإقفال المنافذ أمام تدفق الشبان المغاربيين عليها، صار الفرنسيون يستخدمون جميع الوسائل لتطويق مصادر الهجرة، وفي مقدمتها الطلاب الذين أخضعت إجراءات منحهم التأشيرة إلى قيود صارمة بدعوى أنهم سيصبحون طُلاب شغل بعد التخرج.
ورغم أن فرنسا، أسوة بباقي البلدان الغربية، تستفيد من الكفاءات العليا المهاجرة التي تكون عادة قد تلقت تكوينا لا بأس به في بلدانها الأصلية قبل الهجرة، فإنها تتضايق من “المتساقطين” الذين يخفقون في دراستهم ويتحولون إلى مصدر ضغط إضافي على سوق العمل. بهذا المعنى، يشكل نقل مُدرجات الجامعات الفرنسية (وربما الأوروبية الأخرى في مرحلة لاحقة) إلى هؤلاء الطلاب في بلدانهم أفضل سد أمام “هجوم” المهاجرين، لأنه يستبقيهم في مواطنهم ويقضي على مبررات الهجرة، فلا تعود المشكلة فرنسية – مغاربية وإنما قضية داخلية للبلدان المُصدرة للمهاجرين. أكثر من ذلك، تتيح هذه الصيغة فتح باب الهجرة بشكل انتقائي على نحو يستقطب النوابغ في جميع التخصصات للعمل في المخابر والمستشفيات ومراكز البحوث والجامعات الفرنسية والتخلي عن الأقل نبوغا.
وتم اختبار نجاعة هذه “المصفاة” من خلال المعاهد التحضيرية للدراسات الهندسية، التي ساعدت فرنسا على إقامتها في بعض البلدان المغاربية وبذلت من أجل إنشائها مساعدات مالية وفنية سخية، وقدمت لها البرامج والمُقررات والكتب كي تكون قادرة على فرز الصفوة التي تستحق متابعة الدراسة في معاهدها الهندسية من جهة، والجمهور الباقي الذي لا خيار أمامه سوى التسجيل في معاهد البلد، من جهة ثانية.
… وجامعة بالإنكليزية
غير أن جامعة “دوفين” لن تكون التجربة الجامعية الأولى في تونس، فقبلها أنشأ رجال أعمال معروفون، على رأسهم الدكتور محمود التريكي، خريج الجامعات الأمريكية، جامعة على ضفاف بحيرة تونس تُدرس جميع المواد بالإنكليزية، وتمنح الجامعة، التي أطلق عليها اسم “الجامعة الخاصة لجنوب المتوسط”، الماجستير في إدارة الأعمال بالإنكليزية.
وشكلت هذه التجربة أول شرخ في مرآة الهيمنة الثقافية للغة الفرنسية على النظام التعليمي التونسي، وإن سبقتها إلى اعتماد الإنكليزية “جامعة الأخوين” في المغرب الأقصى. وسعى الدكتور التريكي، رئيس الجامعة من خلال زيارات مكثفة إلى بلدان الخليج إلى زيادة عدد المساهمين في المشروع، وخاصة من الممولين السعوديين، بُغية تحويلها إلى جامعة دولية تستقطب الطلاب العرب.
وطبقا لمصادر مطلعة، استطاع تحقيق تقدم مُـهم في هذا السبيل، بما سيعطي الجامعة وجهة جديدة تستثمر عزوف الأثرياء العرب عن إرسال أبنائهم للدراسة في أمريكا وأوروبا بعد موجة العنصرية المضادة للعرب، التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر 2001، لاجتذابهم إليها.
وتُعتبر الجامعة التونسية على مقاس هؤلاء، لأنها تتيح لهم استكمال التعليم الذي تلقوه بلغة شكسبير في بلدانهم الأصلية، من دون إحداث قطيعة في مساراتهم والإستفادة في الوقت نفسه من وجودهم في بيئة عربية إسلامية أليفة. وليست “الجامعة الخاصة لجنوب المتوسط”، الجامعة الخاصة الوحيدة في تونس، فهناك 21 جامعة خاصة ومعهد عال آخر، إلا أنها الوحيدة التي تعتمد الإنكليزية بدل الفرنسية في مقرراتها ومناهجها الدراسية.
أما على الصعيد المغاربي، فإن “جامعة الأخوين” في منطقة إفران الجبلية المغربية كانت ولا زالت هي الأولى التي تعتمد المناهج الإنكليزية وتُدرس جميع المقررات بلغة شكسبير في بيئة مغربية تُهيمن عليها لغة فولتير. وتسمية الأخوين أتت من رعاية الملكين الراحلين الحسن الثاني وفهد بن عبد العزيز لهذا المشروع، الذي أشرفا على تدشينه في سنة 1992 وجعلا منه مؤسسة جامعية للنخبة، إذ لا يتجاوز عدد الطلاب المسجلين حاليا 1200 طالب من 17 بلدا، وهم ينتمون إلى العائلات الموسرة، لأن رسوم الدراسة مرتفعة (حوالي 6000 دولار في السنة).
واعتُبرت هذه الجامعة، التي يُدرِّس فيها أساتذة أمريكيون وبريطانيون لامعون “هارفارد العرب”، أسوة بأعرق الجامعات الأمريكية، وهذا مؤشر واضح على التعالي على سُلم التصنيف الفرنسي واعتماد مرجعية أنكلوساكسونية خالصة. ويُدرس في الجامعة، التي أنشئت على مساحة 40 هكتارا وعلى ارتفاع 5000 قدم في جبال إفران السياحية الشهيرة، نحو مائة أستاذ نصفهم من الأجانب ونصفهم الآخر من المغاربة ذوي الجنسية المزدوجة (هذا الإعلان مجاني).
واللافت، أن مجلس إدارة الجامعة، الذي يرأسه محمد منير المجيدي، مدير المكتب الخاص للملك محمد السادس، يضم إلى جانب شخصيات حكومية وأكاديمية مغربية، شخصيات أكاديمية مرموقة من الولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا وفرنسا، بالإضافة إلى الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس ولفنسون.
الخاسر الأكبر
مع ذلك، لم يشكل هذا المنحى الرامي للقطيعة التدريجية مع اللغة الفرنسية والعالم الثقافي الفرنكوفوني عموما، خطرا جديا على لغة فولتير في المغرب، وإن اقتحم أحد معاقلها الرئيسية خارج فرنسا، إذ تُصنف المنظمة الدولية للفرنكفونية هذا البلد بوصفه أكبر دولة يتحدث سكانها الفرنسية في إفريقيا قبل الجزائر.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول أن “جامعة الأخوين” لا زالت مثل الجامعة الخاصة لجنوب المتوسط، جزيرة صغيرة في بحر واسع يسبح في اللغة الفرنسية. أكثر من ذلك، يأمل الرئيس الفرنسي ساركوزي أن يؤدي مشروعه المُـسمى الإتحاد المتوسطي إلى “تأمين بناء تدريجي لمجال أوروبي متوسّطي حقيقي للتعليم العالي والبحث”، يمكن لفرنسا أن تلعب فيه دوراً محرّكاً”، ومن هذه الزاوية اعتبر أن “مشروع الجامعة الفرنسية التونسية، الذي سيقوم مع جامعة باريس “دوفين” يكتسي أهمية كبرى”، مثلما أكد لدى زيارته الأخيرة لتونس.
غير أن الخاسر الأكبر من المسارات المعتمدة حاليا في التعليم العالي، هي اللغة العربية التي تراجع مستواها بين الطلاب، على رغم تعريب كثير من المقررات في الجامعات المغاربية خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في تخصصات العلوم الإنسانية.
واعتبر أكثر من أستاذ جامعي أن الطلاب أصبحوا “جالسين بين كرسيين” مثلما يقول المثل الفرنسي، فلا هم متشبعون بلغتهم وثقافتهم العربية، ولا هم مسيطرون على لغة أجنبية واحدة على الأقل، ويتجلى ذلك في عزوفهم عن قراءة المراجع بأي لغة كانت واستسهال اعتماد الملخصات والجذاذات التي توفرها شبكة الإنترنت لدى تحضير الفروض أو إلقاء العروض أمام زملائهم.
وما من شك في أن لجوء الحكومات طيلة العقدين الماضيين إلى التجريب وتطبيق مخططات “إصلاح” متعاقبة، يجُب على كل واحد منها ما سبقه، لعبا دورا أساسيا في فقد الجامعات المغاربية الإستقرار وإخفاقها في بلورة شخصيتها الأكاديمية والثقافية المتميزة. وزادت ضغوط المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، المشهد تعقيدا، إذ فرضت التخفيف من القيود السابقة لربط الجامعات بالسوق، وتحديدا بمتطلبات القطاعين، الصناعي والخدمي، وزعزعت مجانية التعليم.
والنتيجة أن الجيل الذي ولد في ظلال الدولة الوطنية المهووسة بتحديث قشري والمقيدة بـ “نصائح” البنك الدولي، وجد نفسه بلا ماض ولا حاضر وبات كالخشبة التي تتقاذفها المراكز والأقطاب الأكاديمية الغربية، من دون القدرة على الوصول إلى مرساة.
رشيد خشانة – تونس
لا زالت الجامعات العمومية مُسيطرة على المشهد التعليمي في البلدان المغاربية. فبعد الاستقلال، انتشرت الكليات المتخصصة في إطار الجامعة الوطنية، التي تكون عادة في العاصمة، ثم انتشرت الكليات في المحافظات الداخلية، اعتبارا من الثمانينات حتى غدت لكل محافظة جامعتها، مثلما هو الحال اليوم في الجزائر.
وفي المغرب توجد سبع جامعات عمومية رئيسية هي (في المغرب) جامعة محمد الأول (وجدة) وجامعة عبد الملك السعدي (طنجة) وجامعة القاضي عياض (مراكش) وجامعة محمد الخامس (الرباط) وجامعة الحسن الأول (سطات) وجامعة الحسن الثاني (المحمدية) وجامعة بوشعيب الدكالي، بالإضافة لجامعة الأخوين المغربية – السعودية.
أما في تونس، حيث بدأ التعليم العالي منذ القديم مع جامعة الزيتونة، فتوجد ثمان جامعات، خمس منها في العاصمة والسادسة في سوسة والسابعة في المنستير والثامنة في صفاقس، وتضم الجامعات العمومية 178 مؤسسة جامعية في مختلف الولايات، يدرس فيها أكثر من 380 ألف طالب، إلى جانب 21 كلية ومعهد عال خاص.
وفي الجزائر، التي انطلق التعليم العالي الحديث فيها منذ حقبة الاستعمار الفرنسي، أبصر القطاع تغييرات سريعة بعد الاستقلال، غيّـرت وجهه، وظهرت كليات وجامعات في معظم المدن، لعل أبرزها جامعة العلوم هواري بومدين في العاصمة وجامعتي منتوري والأمير عبد القادر في قسنطينة وجامعة السانية في وهران وجامعة فرحات عباس في سطيف وجامعة ابن خلدون في تيارت وجامعة ابن باديس في مستغانم وجامعة مولود معمري في تيزي وزو.
ولوحظ أن الجامعات المتخصصة في الآداب والعلوم الإنسانية تراجعت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، فيما طغت المعاهد التكنولوجية ومدارس الهندسة والمعلوماتية وكليات العلوم، وخاصة في القطاع الخاص، حيث يميل الطلاب إلى تلقي تعليم قصير المدى في الفروع التي تستجيب لطلبات المصانع والمخابر وشركات الخدمات والتأمين والمصارف.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.