“توافق” على دور سياسي لليبيا في إفريقيا
بعد عقدين من الصدامات والإحتكاكات، تفيد مؤشرات عدة على وجود توافق فرنسي أمريكي جديد على السماح بدور سياسي ليبي محدود في القارة الإفريقية.
ويبدو أن رسائل طرابلس الموجهة مؤخرا إلى باريس وواشنطن لإقناعهما بضرورة التعامل معها كشريك قد .. وصلت!
لم يكن الخروج العاصف للزعيم الليبي العقد معمر القذافي من الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الأخيرة في تونس مفاجأة حقيقية. فمنذ استئناف القمم العربية في سنة 1992، لم يحضر القذافي قمة إلا بعد وساطات وتدخلات من نظرائه. ولم تمر قمة من دون أزمة أو صدام مع هذا الزعيم أو ذاك.
لكن ليس هذا سلوكه من القمم الإفريقية التي يحرص على حضورها بل ويتحمس لاستضافتها ويدفع بسخاء النفقات اللازمة لعقدها. أكثر من ذلك، كان الزعيم القذافي وراء إنشاء تجمع الساحل والصحراء المعروف بـ”سين صاد” الذي آلت إليه زعامته وأشرف على قمته الأخيرة في سيرت.
وقد أزعج الدور الليبي في إفريقيا القوى الغربية والنافذة في القارة بسبب دعم القذافي لحركات التمرد، مما أدى إلى احتكاكات مع البلدان الغربية وفي مقدمتها فرنسا وأمريكا طيلة العقود الماضية.
غير أن الوضع تغير في الفترة الأخيرة، إذ أصبحت العواصم الغربية تعتبر أن الدور الليبي في منطقة الساحل والصحراء بات عنصر استقرار وتهدئة للصراعات.
ومن المؤشرات على هذه السياسة الجديدة، تخلي الليبيين عن حضورهم العسكري في البلدان المحاذية لحدودهم الجنوبية، خصوصا القوة الأمنية التي كانت تحمي الرؤساء وفي مقدمتهم رئيس إفريقيا الوسطى المخلوع أنج فيليكس باتاسي الذي أطاح به العسكر في مارس من العام الماضي.
ورأت عواصم غربية في دعم ليبيا القوي لقرار الاتحاد الإفريقي الأخير تشكيل قوة تدخل قوامها خمسة عشر ألف جندي تأتمر بأوامر مجلس الأمن الإفريقي المشكل حديثا ضمانة لمنع ظهور حركات تمرد عسكرية أو حروب أهلية يمكن استخدامها مجددا ساحة للتنافس على النفوذ بين القوى الغربية وليبيا.
وقال سفير فرنسي كان يعمل في إحدى العواصم الإفريقية الرئيسية لـسويس انفو “القذافي لم يعد يوزع أسلحة على الميليشيات”.
علاقات شخصية
ويحتفظ الزعيم الليبي بعلاقات صداقة شخصية متينة مع رؤساء أفارقة، في مقدمتهم بلاز كومباوري، وأسياس أفورقي، وأماني توماني توري، تساعد على التأثير في القرار بالوسائل السياسية، فيما تعتبر علاقاته متوترة أو “باردة” مع آخرين مثل الرئيس التشادي إدريس ديبي والرئيس الغاني جيري رولينغس والسنغالي عبد الله وادي، وكذلك الأثيوبي مانغستو هيلي مريام، بسبب دعم القذافي القوي لإريتريا.
وتشكل علاقات ليبيا المتقلبة مع جارها الجنوبي تشاد نموذجا للمراحل التي مرت فيها السياسة الإفريقية للعقيد القذافي، الذي ولى ظهره للعالم العربي وركز دائرة اهتمامه على القارة الإفريقية منذ أواخر التسعينات.
فبعد التدخل العسكري الليبي في تشاد لمجابهة النفوذ الفرنسي، انتقلت العلاقات إلى مرحلة المصالحة والتطبيع الشامل، خصوصا أن تشاد بوصفه بلد قليل الموارد، اعتمد على ليبيا لمعاودة بناء اقتصاده.
إلا أن الرئيس ديبي سعى للمحافظة على مسافة إزاء ليبيا بعدما تحسنت أوضاع البلد وحقق نموا متسارعا في أعقاب اكتشاف حقول نفط في دوبا الجنوبية، ومن المتوقع أن تتضاعف موازنة تشاد بعد بدء استثمار الحقول لتصل إلى 100 بليون دولار اعتبارا من العام الجاري.
واستخدم الليبيون إمكاناتهم الاقتصادية الكبيرة لتسهيل دورهم السياسي في إفريقيا وهم يعتمدون على مؤسسات استثمارية ومصرفية مثل المصرف العربي الليبي الخارجي ومصرف شمال إفريقيا، إضافة لجمعيات خيرية أهمها مؤسسة القذافي التي يرأسها نجله سيف الإسلام وجمعية الدعوة التي تتمتع بميزانية ضخمة، لكن أبرزها هي “لافيكو” التي تضم 25 مصرفا وشركة استثمارية موزعة على المنطقة الممتدة من العاصمة الأوغندية كمبالا شرقا إلى العاصمة الغانية أكرا غربا.
وفي معلومات مصدر ليبي أن أكثر من 130 مشروع في 26 بلدا إفريقيا جنوب الصحراء ساهمت ليبيا في تمويله جزئيا أو كليا.
وأشار المصدر إلى أن ليبيا تساعد حكومات إفريقية على الخروج من اختناقات مالية مستدلا بزيارة عاجلة لرئيس غينيا بيساو كومبا يالا إلى ليبيا عام 2002 عاد في أعقابها حاملا 1,35 مليون دولار لصرف رواتب موظفي القطاع العام في بلده.
ومع أن الأجهزة الاقتصادية والمالية تشكل أهم سند للدور السياسي الليبي الجديد، فإن المؤسسات الخيرية والثقافية تلعب أيضا دورا مساندا من ذلك أن “مؤسسة القذافي” سبق أن عرضت على الفرقاء المتنازعين في كوت ديفوار لعب دور للتقريب بينهم وتحقيق المصالحة.
دور نـافـذ .. إلى حد ما!
وقد أجرى القذافي تعديلات على الماسكين بالملفات الإفريقية في طاقمه الحكومي على خلفية تغيير سياسته الإفريقية التي انتقلت من دعم الحركات المسلحة إلى التفاهم مع الحكام، ومن المجابهة مع فرنسا والولايات المتحدة إلى التنسيق الواسع معهما.
وفي هذا السياق، أكدت مصادر غربية متطابقة أن قوات ليبية شاركت في قتال العناصر المتمردة على الرئيس السابق باتاسي في إفريقيا الوسطى في أكتوبر عام 2002، إلا أن ذلك لم يحل دون إطاحته لاحقا.
ومن أهم المؤشرات إلى التغيير في الطاقم الليبي، إبعاد وزير الشؤون الإفريقية السابق الدكتور على التريكي الذي تعتبره عواصم غربية عدة مناوئا لها، فيما لوحظ أن العلاقات باتت سالكة مع وزير الخارجية عبد الرحمن شلغم الذي زار كلا من لندن وباريس وعاود تنشيط العلاقات معهما.
وأتى عزل التريكي بعد نحو سنة من وفاة رئيس جهاز الاستخبارات السابق إبراهيم بشاري الذي كان من مستشاري القذافي البارزين في الشؤون الإفريقية، ومديرا لمكتبه خلال المرحلة السابقة، وكان يؤلف مع التريكي مركزا وازنا في القرار.
وأفادت مصادر مطلعة أن الطاقم الحالي صار مؤلفا من عناصر شابة استوعبت الخيارات الليبية الجديدة في إفريقيا، وهي تدرك أن “الصدامات السابقة مع فرنسا والاحتكاكات مع السياسة الأمريكية في إفريقيا كانت ترمي أساسا لإقناعهما بضرورة الاعتراف بدور ليبيا في القارة والتعاطي معها بوصفها شريكا، وليس ضرب المصالح الفرنسية والأمريكية”، مثلما شرح لسويس إنفو مسؤول ليبي فضل عدم الكشف عن اسمه.
وأوضح المسؤول أن استقبال سيف الإسلام معمر القذافي في قصر الإيليزي، وكذلك زيارة الوزير شلغم الناجحة لباريس شكّـلا دليلا على أن الرسالة الليبية وصلت.
والأرجح، أن الرسالة المماثلة التي وجهتها ليبيا لواشنطن وصلت أيضا، وكان مضمونها من أهم القضايا التي بحثها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ويليام برنز مع القيادة الليبية في زيارته الأخيرة لطرابلس.
والأرجح أن هناك توافقا مع كل من باريس وواشنطن على السماح بدور ليبي نافذ إلى حد ما في القارة من ضمن الخطوط العامة المتفق عليها في إطار التغيير الشامل الذي أبصرته السياسة الليبية إزاء الغرب بعد الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.