تونس: عندما تصبح الخلافات الأيديولوجية عاملا ثانويا
مع انتهاء إضراب الجوع الذي قام به ثمانية من قيادات العمل السياسي والمدني في تونس على مدى 32 يوما، طرح السؤال التالي: ثم ماذا؟.
فعلى الرغم من أهمية الحدث، لم يستجب النظام لمطالب المضربين ولا لنداءات منظمات المجتمع المدني الدولية ولم يتجاوب مع الضغوط الموزونة التي أقدمت عليها بعض الحكومات الغربية.
لقد كان الحدث هاما من الناحية السياسية، وتمكن أصحابه من خلق حركية سياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة وأنه تزامن مع فعاليات القمة العالمية لمجتمع المعلومات. لكن بالرغم من كل ذلك، لم يستجب النظام لمطالب المضربين ولا لنداءات منظمات المجتمع المدني الدولية ولم يتجاوب مع الضغوط الموزونة التي أقدمت عليها بعض الحكومات الغربية.
لهذا توقع البعض بأن التحرك الذي قام به الثمانية وكاد أن يعرض حياتهم للخطر لم يغير شيئا كثيرا من المشهد السياسي العام، غير أن الصورة تبدو مختلفة من وجهة نظر أصحاب المبادرة ومعظم الأطراف التي ساندتهم.
هؤلاء يعتقدون بأنهم ساهموا في إحداث “حالة نهوض عمت مختلف الأوساط” وبناء عليه قرروا مواصلة المواجهة مع السلطة بأشكال مختلفة، فعقدوا يوم 7 ديسمبر ندوة صحفية في هذا الغرض وأصدروا بيانا جاء بمثابة الأرضية السياسية التي ستقود تحركهم خلال المرحلة القادمة.
فقد انفضت لجنة مساندة الإضراب التي كانت تضم شخصيات من مختلف التيارات السياسية والفكرية، واستبدلت بأخرى تحمل اسم “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” تتشكل من 24 شخصية، وتجمع أحزابا وتيارات وجمعيات ومستقلين.
ومن أهداف هذه اللجنة: “مواصلة العمل الموحد”، و”انتهاج أساليب التحرك الميداني”، و”الدفاع عن نفس المطالب التي رفعها المضربون باعتبارها الحد الأدنى الجامع”، و “مواصلة الحوار مع مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية والهيئات المدنية المعنية بالنضال من أجل إقامة دولة ديمقراطية”.
ثلاث جوانب مميزة
هناك ثلاث جوانب تميز هذا التحرك الجديد. أولها الإصرار على مواصلة تحدي السلطة، حيث تنوي الأطراف المشكلة لهذه الهيئة تجاوز وسائل الاحتجاج القديمة التي كانت تعتمدها المعارضة منذ أن انتهى شهر العسل بينها وبين نظام السابع من نوفمبر. وفي هذا السياق، يقول عياشي الهمامي (محام يساري مستقل): “سنفاجئ التونسيين بأشكال نضالية جدية لم نعرفها سابقا، وسنمر إلى الفعل وإلى الشارع والرأي العام ولن نكتف بالبيانات”.
إنه خطاب شبيه فيما يبدو بخطاب حركة كفاية التي أزعجت النظام المصري خلال الشهور الماضية. وإذا ما تكررت التجربة في تونس فإن السلطة ستجد نفسها بين خيارين. إما مواجهة التحركات الميدانية المتوقعة بالعنف، وهو ما من شأنه أن يثير مزيدا من ردود الفعل الدولية حول أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في تونس، التي أصبحت في الأسابيع الأخيرة تحت المجهر العالمي. وإما تغيير السياسة وفتح الحوار مع هذا الصنف من المعارضين المتمردين على بيت الطاعة.
الجانب الثاني يتلخص في الجمع بين التوحد والتنوع. فبالرغم من عدم انضمام حركة التجديد ومجموعة “الشيوعيين الديمقراطيين” وبعض الشخصيات الليبرالية خاصة من القطاع النسوي إلى المبادرة الجديدة تجنبا للتنسيق مع الإسلاميين، إلا أن ذلك لم يؤثر على طرافة المبادرة حيث تغلبت بقية الأطراف على اختلافاتها السياسية والأيديولوجية، وأعطت الأولوية لما هو مشترك فيما بينها.
وفي هذا السياق يمكن القول بأن التحرك الجماعي الذي ولدته ما يسمى بحركة 18 أكتوبر قد ساعد بعض التيارات اليسارية والشخصيات الليبرالية على تعديل نظرتها وإعادة ترتيب أولوياتها بشكل أساسي، مما كان له الأثر الحاسم في خلق تلك الحركية التي شهدتها الساحة السياسية المعارضة.
فليس بالأمر الهين عندما يعتبر حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي أن “ما يجمع الأطراف المشاركة في هدا التحرك أكثر مما يفرق بينها”، ويؤكد أن “الفوارق الإيديولوجية أصبحت في هده المرحلة ثانوية”.
أما الميزة الثالثة فتتمثل في أن التحرك الجديد يستند على صيغتين. الصيغة الأولى سياسية ذات طابع عملي، وتتمثل في الهيئة التي تم تشكيلها (والتي ستتولى التنسيق وتنظيم التحرك الميداني).
أما الصيغة الثانية الموازية التي توصلت إليها جميع أطراف المبادرة، فتتعلق بإنشاء منتدى فكري، يتولى إدارة “الحوار بين مختلف الحساسيات الفكرية والسياسية التونسية حول القضايا الأساسية التي يقتضيها الانتقال إلى الديمقراطية” . وتم إعطاء الأولوية لخمسة محاور يتشابك فيها النظري بالسياسي والاستراتيجي.
وواضح أن الغرض من هدا المنتدى هو دفع حركة النهضة وأنصارها نحو حوار مفتوح وصريح مع مختلف مكونات النخبة السياسية والمجتمع المدني، تعلن من خلاله عن مواقفها تجاه جملة من المسائل كانت ولا تزال محل شكوك الأوساط الديمقراطية والحقوقية وعموم النخب الحديثة سواء داخل تونس أو خارجها. وتتعلق هده المسائل بحرية المعتقد والضمير، والمساواة بين الجنسين، والمسائل المتعلقة بهوية البلاد، والحرمة الجسدية التي يقصد بها “الحدود في التشريع الإسلامي”.
بمعنى آخر، تريد الأطراف العلمانية الشريكة في هذا “التحالف” الأول من نوعه مند عام 1987، الحصول على ضمانات مبدئية من حركة النهضة حول ما يعتبر الحد الأدنى لبناء نظام ديمقراطي. وهو شرط ضمني قبله من يمثل هذه الحركة، ولو بصفة شخصية حيث أكد زياد الدولاتلي في الندوة الصحفية أن الإسلاميين “يعملون من أجل مجتمع ديمقراطي يتسع لكل التونسيين”.
تجاوز العقد .. ورسائل ثلاث
يتبين مما تقدم أن أطرافا هامة في المعارضة التونسية قد تجاوزت “عقدة” الخلاف مع الإسلاميين، وقررت الدخول معهم في نوع من “الجبهة السياسية” بهدف فرض عدد من المطالب الخاصة بالحريات العامة. وهذا يعني أن العزلة التي فرضها النظام على حركة النهضة لمدة خمسة عشر عاما قد انتهت. كما يتبين من جهة أخرى أن النظام قد فوت فرصة “تحييد” النهضويين أو جزءا منهم بعد أن أصر على عدم التخفيف عن معتقليهم.
أما عن الأسباب التي ساعدت على تغيير مواقف أطراف عديدة كانت من قبل ترى في الإسلاميين الخصم الرئيسي، فقد استعرض الأستاذ نجيب الشابي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي، ثلاثة منها في تصريح خاص لسويس أنفو.
فهو يعتبر أن ذلك قد حصل نتيجة تراكمات أدت إلى اقتناع التونسيين بأن المساجين الإسلاميين قد تعرضوا لمظلمة، وأن من حقهم التمتع بالحرية كبقية المواطنين. ثم يشير ثانيا إلى الاعتصام الدي قام به المحامون دفاعا عن زميلهم المعتقل “محمد عبو” في الربيع الماضي، وهو أول تحرك مشترك ميداني بين علمانيين وإسلاميين. وبفضل وحدة العمل استطاع المحامون أن ينجحوا في تحقيق تعبئة واسعة وناجعة، مما “مهد الطريق لتكرار التجربة على مستوى وطني وسياسي مع حركة 18 أكتوبر”، حسب اعتقاد الشابي.
كما اعتبر أن التجربة التركية دفعت بالكثير من العلمانيين في تونس وخارجها إلى مراجعة موقفهم من ظاهرة الإسلام السياسي، إلى جانب موقف الأمريكيين والأوروبيين الجديد من مسألة الحوار مع الإسلاميين والسعي لإدماجهم في الحياة السياسية في بلدان المنطقة.
أما عن شروط نجاح مثل هذا الرهان، فيشير خميس الشماري، النائب السابق والمناضل الديمقراطي والحقوقي الذي لعب دورا أساسيا في تأسيس المبادرة الجديدة، في حديث خاص مع سويس إنفو إلى ثلاث عوامل يراها أساسية. وهي في الحقيقة عبارة عن رسائل مضمونة الوصول موجهة إلى الأطراف المعنية سلبا أو إيجابا بهذا الرهان.
الرسالة الأولى وجهها الشماري إلى الإسلاميين الموالين لحركة النهضة، حيث دعاهم إلى أخد مسألة الحوار بجدية، وتجنب الغموض أو عدم التجانس في المواقف من قضايا تعتبر أساسية، حتى لا يفتح الباب من جديد لاتهامهم بازدواجية الخطاب. كما حذر من تكرار التوظيف الذي من شأنه أن يثير ردود الأفعال وينمي الشكوك لدى البعض، مؤكدا على أهمية الالتزام بأرضية العمل المشترك.
أما الرسالة الثانية فهي موجهة للأطراف العلمانية التي دعاها إلى مراجعة تحليلها للأمور، والتخلي نهائيا عن منطق الإقصاء.
وأخيرا، حمل الشماري السلطة مسئولية ما قد يترتب عن التصعيد الذي يمكن أن تلجأ إليه من أجل المزيد من قمع الإسلاميين والمناضلين الديمقراطيين.
وضع غير مريح
يصعب التكهن بما يمكن أن تحدثه هده الهيئة السياسية التي تم تشكيلها، لكنها في العموم قد تنجح في وضع بقية الأطراف، وفي مقدمتها نظام الحكم أمام وضع غير مريح.
وفي هذا الإطار، يبدو أن قرار الرئيس بن علي تكليف السيد زكرياء بن مصطفى، رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان (الرسمية) بالاستماع لمشاغل أحزاب المعارضة القانونية ومنظمات المجتمع المدني المرخص لها، قد اعتبرته معظم الجهات المعنية (باستثناء بعض الأحزاب التي تربطها علاقات تعاون مع السلطة) لا يستجيب لطبيعة المرحلة.
لكن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لها رأي مختلف حيث قررت هيئتها المديرة طلب تحديد موعد مع بن مصطفى لتسليمه مذكرة حول الخلاف القائم بينها وبين السلطة وتنتظر أن يساعد ذلك على “رفع الموانع لإنجاز مؤتمرها السادس”.
أما أحزاب المعارضة الاحتجاجية (سواء المعترف بها أو غير القانونية) والجمعيات غير المرخص لها فقد تجاهلت القرار الرئاسي، اعتقادا منها بأن الوضع العام بالبلاد يتطلب تغييرا جوهريا وملموسا في أسلوب إدارة الشأن العام.
فهل تشهد الأشهر القادمة ميلاد جبهة سياسية تكون قادرة على إحداث حراك سياسي ينقل الأوضاع في تونس إلى مرحلة مختلفة، بعد أن بقيت المعارضة بمختلف أطيافها تراوح مكانها لسنوات طويلة؟ يقول المثل العربي: “وعند جهينة الخبر اليقين”..
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.