ألبرت أنكر: من فنَّان تقليديّ إلى ناشط تقدّمي
في متحف برن للفنون الجميلة، تُعرض أعمال الفنان السويسريّ المتميّز، ألبرت أنكر، الذي كان رائدا في دعم حق المرأة في التعليم، على الرغم من انتمائه للمدرسة التقليدية.
يُعدُّ ألبرت أنكرمن الصفوة الفنية، رغم عدم شهرته خارج موطنه. وقد راج اسمه خاصّة، في سويسرا، حيث تُزيّن نُسخ من لوحاته الزيتيّة صفحات الرزنامات، وجدران فصول المدارس.
كما حاز ألبرت أنكر إعجاب بعض المشاهير؛ فقد كتب فينسنت فان غوخ لأخيه ثيو عام 1883، واصفا أعماله، قائلا: “أفكّر في أعماله بعمق، فأرى فيها براعة، وإتقانا، ودقّة في التنفيذ. إنّه فعلا، ينتمي إلى المدرسة التقليديّة”.
وقد تغيّرت النظرة إلى أعمال ألبرت أنكر في الحاضر، بعد أن أُعتُبرت موضوعًا غير جدير بالدراسة الأكاديميّة الجادَّة في تاريخ الفنّ.
فقد خصّصت المتاحف السويسريّة معارضَ لأعمال هذا الفنَّان، استضاف أحدثها متحف برن للفنون الجميلة (Kunstmuseum Bern). وتحوّل منزله في إينس مؤخرًا، إلى مركز للمعارض والبحوث، افتُتح في السابع من يونيو 2024.
ويُقام في برن، معرض بعنوان “ألبرت أنكر: الفتيات القارئات”، يتواصل إلى 21 من يوليو الجاري، يُلقي نظرة ثاقبة، ومُركَّزة، على جانب واحد من أعمال أنكر، ويضعه في سياق التزامه السياسيّ بتعليم الفتيات، الأمرالذي لم يكن آنذاك، من المُسلَّمات في سويسرا.
وصرَّحت كاتلين بوهلر*، القائمة على المعرض، بأنّهَ يبرزالجانب التقدُّمي في شخصية أنكر. وهي وجهة نظر أخرى، لفنان كثيرا ما ارتبط اسمه بالقيم السويسريّة المحافظة، و”بعض الحنين إلى الزمن الجميل”.
. ويعدُّ كريستوف بلوخر، الزعيم السابق لحزب الشعب السويسريّ اليمينيّ، الأشدّ حماسا بين محبّي أنكر، إذ يقتني أكثر عدد من أعماله في العالم. وفي حديث مع صحيفة نويه تسورخير تسايتونغ (Neue Zürcher Zeitung)، وصف بلوخر لوحات أنكر، بأنَّها “خطبة جيدة”، ونعت أعماله بالمفيدة، والفاضلة، لأنه، حسب رأيه، “رسم جمال الحياة والناس، الحقيقيّ”.
تقليديٌّ بطبيعته
لم تبرح معظم أعمال ألبرت أنكر البلاد، ممّا حدّ من شهرته خارج سويسرا؛ فنصف إجماليّ لوحاته الزيتيّة، التي يبلغ عددها 800، تقريبا، موجودة في المتاحف السويسريّة، ويوجد النصف الأخر بحوزة أفراد، شأن مجموعة بلوخر. وتَقلّ شهرة رسوماته، ولوحاته المائية، عن الزيتية منها، إذ لم يعرضها للبيع، بل بقي أغلبها عند بعض أفراد عائلته.
وقد كان تأثير ألبرت، في تاريخ الفنّ العالميّ، محدودا، لأنّه في الحقيقة لم يكن مجدّدا، بل ظلَّ وفيًّا للمدرسة الواقعيّة، ولصالون باريس، أهم حدث فنيّ في العالم الغربيّ آنذاك، بينما كانت المدرسة الانطباعيّة ترسم مسارًا جديدًا وتُقيم معارضَ خاصةً بها.
ورغم إعجابه بالأعمال الانطباعيّة، فإنّ ألبرت لم يكن في وضع اجتماعيّ يسمح له بالمخاطرة، والالتحاق بالمشهد الفنيّ الطلائعيّ، لأنّه كان يعول عائلة كبيرة، وفي حاجة إلى دخل قارّ.
ومع ذلك، تتجاوز لوحاته التي تصوِّر نماذج من مجتمعه الريفيّ، مجرد المحاكاة، لتكون وثائق تاريخيّة قيِّمة.
ففي المعرض الحاليًّ في برن، تُصوِّر لوحة بعنوان “امتحان في مدرسة القرية” (1862)، زيارة مجموعة من الشخصيات المحلية، لمدرسة ريفيّة. وفي اللّوحة، تلاميذ وتلميذات بصدد قراءة نصّ على السبورة. ورغم ما يبدو عليه الفصل من زينة بأكاليل الزهور، وارتداء الأطفال أفضل الحلل، بمناسبة يوم الامتحان، فإنّ البعض يبدو حافي القدمين.
وقد أُقِرّت الامتحاناتُ، وإجباريّةُ التعليم، بعد سَنِّ قوانين جديدة في كانتون برن؛ قبل أن تُدرجَ إجباريّة التعليم في دستور البلاد، عام 1874.
تعليم الفتيات
يجيد ألبرت القراءة بسبع لغات، ويلتزمُ بالتعليم التزامًا راسخًا. كما كان أمينًا للجنة المدرسة في إينس، وشارك لاحقًا، في تأسيس مدرسة ثانويّة جديدة في البلدة، أتاحت بديلا عن المرحلة الأساسيّة، بميول أكاديميّة، حتّى في المناطق الريفيّة.
وأدّى قبل ذلك، مجموعة من الأدوار السياسيّة: فكان عضوًا في برلمان كانتون برن، حيث أوصى بإقرار مرسوم لبناء متحف الفنون؛ واُنتُخِب عام 1889، في لجنة الفنون الفدراليّة.
ويتكرَّر في أعمال ألبرت، ظهور الفتيات المُنكبَّات على الدراسة. فتظهر في إحدى لوحاته، المرسومة على الورق، بالحبر الأزرق، ابنته سيسيل، ذات التسع سنوات، وهي مستغرقة في قراءة كتاب، مُحاطة بهالة من الضوء، عاكسةً ظلًّا داكنا، على الجدار خلفها.
وتُظهر لوحته “روزا وبيرتا غوغر تحيكانرابط خارجي” (1885) فتاة يافعة، تضع قلمها وكتابها جانبًا، لتحمل أختها الصغيرة، وتساعدها على الحياكة. وتُبرز هذه اللوحة براعة ألبرت التقنية؛ ذلك أنّه رسم اليد، وهي تؤدّي عملا معقّدا، رغم ما يتطلّبه رسم اليد من جهد.
وقد ركّز في لوحاته، على الكتب والدراسة، حتّى وإن كانت تصوّر فتيات يؤدّين نشاطات أخرى. فرسم لوحة، عام 1881، تظهر فيها ابنته ماري حاملة حقيبة مدرسية. وفي
لوحته “فتاة تحمل رغيف خبز” (1887)، يُطلّ كتاب، مُجلّد، من سلّة بقول تحملها فتاة، وهي تؤدّي مهمّة منزليّة.
وقد فاز ألبرت بميدالية ذهبية من صالون باريس عام 1866، عن لوحته “درس الكتابة II“، التي تظهر فيها فتاتان مُنكبّتان على ورقة، وبيد إحداهما ريشة الكتابة.
وقد أعادت مجلّة سويسريّة، إنتاج نسخة من هذه السلسلة الثلاثيّة، تحت العنوان المؤثّر: “الجوارب الزرقاء الصغيرة”. ولعلّ هذه التسمية، لم تتجاوز مجرّد نكتة، في ذهن شخص ما، لكنّها تظلُّ تُذكّر بأن تعليم الفتيات في سويسرا، كان أمرًا مثيرًا للجدل.
في إينس حيث منزله
يبدو الوضع في غرفة الرسم، في منزل ألبرت ، في إينس، القرية الواقعة بين برن ونوشاتيل، وكأن الرجل غائب في رحلة قصيرة، وسيعود في أيّة لحظة، ليبدأ العمل فورًا، يجد في انتظاره مسند اللّوحات، وكيس رسائل معلّق على الجدار، بجانب مكتبه، ومجموعة من الألوانن مرتبة بشكل أنيق على رف داخل خزانة زجاجية، إضافة إلى ضوء شماليّ ناعم، مثاليّ للرسم، ينبعث من منوّرين سقفيين، يقال إنهما الأوَّلان من نوعهما في سويسرا، استوحاهما من زيارته لمتحف اللّوفر.
وتقول دانييلا شنيويلي، وهي رئيسة مركز ألبرت أنكر: “كان يقول إنَّ منوّريه أفضل من تلك الموجودة في اللّوفر، لأنّهما لا ينفذان الماء”.
فتح المركز أبوابه للعموم في 7 يونيو، في منزل أنكر الذي ظلَّ على حاله لأكثر من قرن من الزمن.
يقع المبنى الخشبي الحديث، الذي صمّمه مارسيل هيغ، المهندس المعماري من قرية إينس، في أقصى حديقة مكلّلة بزهور الربيع. متناغما مع محيطه الريفيّ، حيث ترعى الأغنام في الحقل المجاور، إنّه المعرض المُجَهَّز بأحدث تقنيات المتاحف.
ويهدف مركز البحوث في منزل عائلة ألبرت أنكر، إلى إحياء ذكرى فنّان ارتقت أعماله إلى المستوى العالمي، رغم أنَّه قضّى معظم حياته في مستوى محلي جدًا. وكان ألبرت أنكر، حتى آخر عشرين سنة من حياته، يقضي فصل الشتاء من كل عام في باريس، ويعرض أعماله بانتظام في صالون باريس. ولكنه كان أيضًا متجذرًا في الحياة الريفيّة في إينس، وقد رسم نماذج عديدة من سكان القرية، في أعماله.
(وكانت زوجته أنَّا أقل منه حماسًا، ورأت الحياة في إينس ضيّقة الأفق؛ وأصرَّت على امتلاك شقّة في نيوشاتيل، وفقًا لدانييلا شنيويلي)
وكان عضوا في مجلسي الكنيسة، والمدرسة، وأحد أفراد فرقة الذكور الموسيقيّة.
كبسولة زمنيَّة
تواصلت ملكيّة عائلة أنكر للمنزل الذي بناه الجدّ عام 1803، لسبعة أجيال. ويشتغل الجدُّ رودولف وابنه صموئيل أنكر، طبيبين بيطريين؛ ويحتفظان بالحيوانات التي يعالجانها في إسطبل، في الطابق الأرضيّ.
ورث ألبرت أنكر المنزل عام 1860، وحوَّل مخزن التبن أستوديو. وبعد وفاته عام 1910، ورثته ابنته. ولكنَّ العائلة لم تُحدث فيه أيّ تغييرات تُذكر، وتركت الأثاث، والمطبخ، الأستوديو، على حالها، مما خلق كبسولة زمنية للحياة البرجوازية، في ريف سويسرا، في أوائل القرن العشرين.
تُعرض في المنزل تذكارات متنوّعة: مثل: حقيبة مدرسيّة جلدية كانت لماري، ابنة ألبرت، التي تظهر في إحدى اللّوحات المعروضة في متحف الفنون، وفستان تقليديّ جلبته آنا أنكر من أوديسا.
ويوجد في المنزل مكتبة تضمُّ 1،200 كتاب بعدة لغات، تُظهر اهتمامات ألبرت المتعددة؛ فقد كان شغوفًا بالسياسة، والتعليم، والتكنولوجيا، وعلم الآثار، بالإضافة إلى الفن، كما كان يدير مزرعة كروم العنب، ويصنع النبيذ.
ورغم أنّ فان غوخ يصنّفه ضمن المدرسة التقليديّة، فإنّ مساهماته الاجتماعيّة تضعه في طليعة عصره.
يُقام المعرض في متحف برن للفنون الجميلة، بالتعاون مع مركز ألبرت أنكر، الذي افتُتِح للعامّة في شهر يونيو، في منزل الفنان بإينس. واستضافت مؤسسة بيير جيانادا في مارتيني أيضًا، معرضًا مخصصًا لفئة الأطفال عند أنكر (حتى 30 يونيو).
المزيد من المعلومات عن معرض برن متاحة هنا.
ويمكن حجز جولةرابط خارجي لزيارة الاستوديو في إينس.
المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
تحرير: فيرجيني مانجان وإدواردو سيمانتوب
ترجمة: ريم حسونة
مراجعة: مي المهدي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.