“إِنـسَ بـغـداد”… ذلك مستحيـل!
حرصت السيدة روت درايفوس وزيرة الشؤون الداخلية (ومن ضمنها الثقافية) تخصيص صبيحة يوم الخميس لمشاهدة أول عرض عالمي لشريط سويسري - ألماني عن اليهود العراقيين من إخراج سمير جمال الدين، العراقي المولد!
يبدو أنه كان “مكتوبا” في مكان ما انتظار أكثر من نصف قرن من الزمن حتى يتمكن مخرج سويسري من أصل عراقي من تسليط الأضواء الكاشفة على بعض ما حصل لليهود العراقيين الذين هاجروا في بداية الخمسينيات من القرن العشرين إلى إسرائيل.
ولد سمير جمال الدين، المخرج والمنتج الصاعد نجمه هذه الأيام، في بغداد عام 1955 وهاجر مع والديه إلى سويسرا في عام 1961. دخل عالم التكوين في مجال التصوير والإخراج السينمائي حال اختتام دراسته الأساسية ولفت الأنظار إليه منذ شريطه الوثائقي عن أبناء الجيل الثاني في سويسرا الذي حمل – يا للصدفة!- عنوان بابل 2.
لكن انتماء والد سمير إلى الحزب الشيوعي العراقي كان عاملا حاسما في ميلاد فكرة هذا الشريط الذي يحمل عنوانا طويلا ومركبا: “إنس بغداد – يهود وعرب – الإرتباط العراقي”، وهو اختيار مقصود وواع استبعادا مبكرا لأي خلط ونفيا مسبقا لكل الإتهامات أو المزاعم.
فقد اكتشف سمير أن يهودا عراقيين كانوا من بين رفاق والده – الذي ينحدر من عائلة شيعية من السادة – في التنظيم السري الذي جلب إلى صفوفه منذ الأربعينيات من القرن المنصرم العديد من العراقيين من جميع الأعراق والطوائف الموجودة في البلاد.
لذلك أحيا فيه منظر عائلة إسرائيلية تتحدث العربية على قناة سي ان ان الإخبارية خلال تساقط الصواريخ العراقية على ضاحية بتاح تيكفا التي تقطنها أغلبية من اليهود العراقيين، الرغبة في إخراج شريط عن أصدقاء والده الذين هاجروا منذ بداية الخمسينيات إلى الدولة العبرية.
لم يتمكن سمير من العثور مجددا على أي من رفاق الوالد القدامى لكنه نجح في اقتفاء أثر عشرات الآلاف من اليهود العراقيين ونقل على امتداد ساعتين صورة مقتضبة لكنها معبرة جدا عن بعض حقيقة ما حدث وعن جزء من معاناتهم في “الوطن الجديد” وعن صراعات الهويتين واللغتين والكيانين.
في البدء.. كانت الكلمة!
اختار سمير خمس شخصيات أساسية ترتبط حياتها بالكتابة بشكل أو بآخر ليقود المتفرج عبر غياهب مسار متعرج لعشرات الآلاف من اليهود العراقيين الذين قذفت بهم “لعبة الأمم” في الشرق الأوسط من ضفاف دجلة والفرات إلى الخيام والكيبوتسات الصهيونية في الأراضي التي منحها قرار التقسيم لليهود عام 1948.
اللغة العربية، بل لهجة عراق الخمسينيات التي يشترك فيها سمير مع معظم محاوريه كانت المفتاح الذي ولج من خلاله سمير- السويسري إلى عوالم شمعون بالاّص وسمير نقاش وسامي ميخائيل وموشي حوري وإيلا حبيبة شوحات.
هذه هي شخصيات الشريط الرئيسية التي سيعود معها ومن خلالها المخرج إلى تلك الأيام الخوالي، عندما كان النضال ضد الإستعمار البريطاني لا يفرّق بين مسلم ويهودي ومسيحي، وعندما تحولت خلايا الحزب الشيوعي العراقي من مجرد نواة لتنظيم سري يترجم أفراده نصوص كارل ماركس وبيانات الأممية الإشتراكية من الإنجليزية إلى العربية إلى قوة جماهيرية ضاربة ضد رشيد عالي ونوري السعيد والمحتلين الأجانب.
وعلى امتداد مائة وعشرين دقيقة كاملة، تنقسم الشاشة إلى نصفين مجسمة تمزق الهويتين والإنتمائين. نصف يخصص لحديث الشيوعيين اليهود العراقيين القدامى عن شريط حياتهم ونصف تتداول عليه لقطات الأرشيف النادرة من تاريخ العراق والمنطقة أو من أشرطة سينمائية إسرائيلية وعربية أو هوليودية ترتبط بشكل أو بآخر بالكلام الجاري على لسان المتحدث..
الحنين .. والدسائس!
الحوارات العميقة والمطولة التي أجراها سمير مع أبطال شريطه كشفت عن تجذر الحنين والشوق إلى بغداد وشارع أبي نواس وأضواء دجلة المتلألئة عند الغروب.. وأماطت اللثام عن تأصل الإنتماء إلى اللغة والهوية العربية .. وذكرت بأيام جميلة خلت عاشها اليهود في حارة بغداد وفي أحيائها “المختلطة” في أمن وسلام وتفاهم مع جيرانهم من المسلمين والمسيحيين..
في المقابل، عادت الحوارات التي بُـوّبت بشكل منطقي متدرج إلى أجواء المؤامرات والدسائس التي سادت منطقة الشرق الأوسط والعراق تحديدا منذ بداية الأربعينات. فعلى الرغم من الإعتداءات التي تعرض لها بعض اليهود في عام 1941، وعلى الرغم من انضمام عدد قليل من اليهود العراقيين إلى الرابطة الصهيونية الداعية إلى الهجرة إلى فلسطين، ورغم قيام دولة إسرائيل، إلا أن عدد الذين غادروا بلدهم في عام ثمانية وأربعين لم يتجاوز الأربعة آلاف شخص من ضمن مائة وأربعين ألف يهودي عراقي!
لكن تطوّرين وقعا في الأشهر الأولى من الخمسينيات قلبا كل المعطيات. فقد أصدرت الحكومة العراقية آنذاك قانونا يتيح للحكومة إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين وتلتها سلسلة من الإعتداءات الدامية على اليهود مثل مجزرة “الفرهود” حيث قام مسلحون بإيقاف السيارات والحافلات وقتل كل يهودي يتم العثور عليه!
وبالرغم من تأكيد معظم اليهود العراقيين، وعلى رأسهم أبطال الشريط الأربعة الذين تحاور معهم المخرج أن هذه الإعتداءات نجمت عن تواطؤ مبيّت بين مسؤولين سياسيين وعسكريين عراقيين وإسرائيليين لدفع اليهود العراقيين لمغادرة بلادهم، إلا أن سمير يقول إنه لم يعثر شخصيا على أي دليل يسند هذا التحليل.
إندماج أم إلحاق؟
لم تكن عملية الإندماج في المجتمع والوطن الجديد سهلة بالمرة. فمن الرش بمادة الـ د.د.ت (DDT) للوافدين الجدد حال نزولهم من على سلم الطائرات التي نقلتهم من بغداد إلى تل أبيب عبر جسر جوي ضخم استمر عدة أشهر بذريعة تنظيفهم، إلى التكدس في مخيمات موحشة في العراء في الأشهر الأولى، إلى مختلف مظاهر التمييز بين اليهود الشرقيين(السفارديم) واليهود الغربيين (الأشكناز) في المدرسة ومواطن العمل، كانت المعاناة شديدة وقاسية.
لكن، وبمرور الوقت، فرضت الحياة ناموسها على الجميع. فسامي ميخائيل الذي كان رئيس تحرير عدة صحف شيوعية في العراق أكمل دراسته الجامعية في علم النفس والآداب العربية في جامعة حيفا وتحول اليوم إلى أحد أبرز كتاب الروايات باللغة العبرية في إسرائيل.
أما شمعون بالاّص فقد أصبح أستاذا للآداب العربية في جامعتي تل أبيب وحيفا وانخرط بنشاط في صفوف حركة دعاة السلام المؤيدة لمنح المزيد من الحقوق للفلسطينيين. وفيما تمكن موشي حوري – الذي كان موظفا في مصلحة تابعة لوزارة المالية العراقية في إقليم كردستان – من النجاح في المجال العقاري، لا زال سمير نقاش الوحيد من بين المستجوبين الأربعة في الشريط الذي يواصل الكتابة باللغة العربية على الرغم من إقامته في إسرائيل منذ نصف قرن تقريبا. وعلى الرغم من حصول مؤلفاته على العديد من الجوائز إلا أنه لم يجد ناشرا يقدم على إصدارها في السوق الإسرائيلية إلى حد الساعة!
التواصل هو الحلّ!
التصفيق الحار والطويل الذي ردّ به خمسمائة شخص اكتظت بهم قاعة “كورسل” في لوكارنو على الشريط، والتهنئة الخاصة التي حرصت الوزيرة روت درايفوس (وهي بالمناسبة أول وزيرة فدرالية من أصل يهودي في تاريخ الكنفدرالية) على توجيهها مباشرة للمخرج سمير في ختام العرض يعني ببساطة أن الشريط قد نجح في لعب دوره بامتياز!
ليس هذا الكلام من قبيل نثر الورود لمخرج شاب من أصل عربي. فهذه مجاملات لا تنفع أحدا في سويسرا. لكنه اعتراف يشترك فيه العديد من النقاد والمراقبين في لوكارنو بقدرة سمير على الخوض في ملف دقيق ومتفجر مثل هذا دون السقوط في متاهات التزلف لهذا الطرف أو ذاك ودون الإنجرار إلى التبسيط والنمطية السائدة عند الحديث عن أي شيء يتعلق بالعرب أو باليهود أو بالإسرائيليين عموما.
وفي ردّ على سؤال طرح عليه خلال النقاش مع الجمهور قال سمير: “إنني أعتقد أن التواصل هو الحل وخاصة في عصر المعلومات والعولمة اليوم”! وفي انتظار أن تتحول هذه القناعة إلى حقيقة ماثلة في يوم من الأيام، تساءل الكثيرون في لوكارنو: ماذا سيحدث إذا ما أتيح لهذا الشريط أن يعرض للجمهور الإسرائيلي وللعراقيين والعرب عموما في يوم من الأيام؟
بالتأكيد لن تحدث ثورة كونية أو هزة ثورية جامحة، لكن قوة الصورة وبلاغة الكلمة الصادقة ورسوخ الحقائق الصلبة تظل قادرة على كسر الجمود ونسف الأغلال وتغيير العقليات لأن التعايش التاريخي العريق بين الديانات والأعراق والطوائف الذي عرفته شعوب الشرق على امتداد قرون طويلة لم ينكسر إلا منذ بضع عشريات قليلة من السنين.
هذا ما يذكّـر به الشهود الأربعة في شريط “انسى بغداد..”، وهذا هو بعض من بصيص الأمل الذي يظل قائما رغم كل الظلام الذي يلف المنطقة وشعوبها هذه الأيام..
كمال الضيف – لوكارنو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.