“الديفوفة الغربية” أو “كرمة”.. عاصمة المملكة النوبية
أسفرت أعمال تنقيب بعثة الآثار السويسرية في كرمة بقيادة البروفسور شارل بوني، عن ترميم معالم مدينة متكاملة كانت عاصمة مملكة كرمة لأكثر من 1000 سنة منذ عام 2400 قبل الميلاد.
وبإمكان الزائر الاطلاع على تفاصيل مدينة جمعت بين قصور الملوك وبيوت أشراف القوم ومخازن السلع النادرة، في تصميم يتوسطه مبنى الديفوفة العالي الذي كان عبارة عن مركز ديني.
على بعد حوالي 550 كلم إلى الشمال عن مدينة الخرطوم وفي الولاية الشمالية، وعلى بعد حوالي 40 كلم عن عاصمة الولاية دنقلة، تقع معتمدية البرقيق التي تشمل قرى البرقيق وكرمة البلد وكرمة النزل.
بهذه المنطقة تتمركز جل المواقع الأثرية التي شرع عالم الآثار السويسري شارل بوني في التنقيب بها منذ 43 سنة. وأهم موقع هو ما يعرف بالديفوفة الغربية أو بقايا المدينة النوبية العريقة كرمة، التي أسست في عام 2400 قبل ميلاد السيد المسيح والتي تطورت لأكثر من 1000 سنة كعاصمة للملكة التي حملت اسم مملكة كرمة.
30 سنة تنقيب لاكتشاف كرمة العتيقة
مدينة كرمة العتيقة التي سمحت أشغال تنقيب الفريق السويسري لأكثر من 30 عاما بالكشف عن معالمها وعن تفاصيل حدودها كمدينة معقدة التركيب عايشت أهم المراحل من تطور مملكة كرمة.
أهمية ما عثر عليه في مدينة كرمة كما يقول شارل بوني “هو أن أغلب المدن القديمة عرفت بناء مدن حديثة فوق بقاياها القديمة، وبالتالي لم يعد ممكنا التعرف على أشكالها ومقوماتها وهندستها الأصلية”.
لكن مدينة كرمة التي تبلغ مساحتها حوالي 600 متر على 700 متر، بقيت مغمورة تحت الرمال طوال هذه الفترة، ولم يكن بارزا منها سوى قمة ما يعرف اليوم بالديفوفة أو البناء العالي الذي يتعدى ارتفاعه 18 مترا.
وقد سمحت عمليات التنقيب المتتالية التي قام بها الفريق السويسري طوال الثلاثة أشهر من كل سنة على امتداد الأربعين عاما الماضية، باكتشاف معالم مدينة يقول عنها شارل بوني “إنها عاصمة صُممت بشكل اصطناعي ليس كمدينة مزارعين أو رعاة، بل كمركز إداري لتسيير مملكة ممتدة الأطراف بها منازل الملوك وأشراف القوم”. وهذا ما يفسر تواجد بيوت كبيرة الحجم وبأشكال هندسية تختلف كثيرا عما هو معروف عن منازل السكان القرويين.
القصر الملكي والمربع الديني
نظرا لأهمية مدينة كرمة كمركز للمبادلات بين وسط إفريقيا ومنطقة البحر الأحمر ومعادن الذهب الموجودة شرقا على بعد 200 كلم وكردفان ومصر، تم تدعيمها على مر العصور بأسوار واقية.
ويتوسط المدينة مربع ديني، وهو ما يعرف بـ “الديفوفة”، يقول عنه شارل بوني “إنه كان متعدد الاستعمال، ليس فقط كمركز ديني بل أيضا كمحل لتصنيع وتخزين السلع النادرة قبل تصديرها إما إلى مصر شمالا أو إلى الجنوب”.
قبالة المربع الديني كان يوجد القصر الملكي الذي لم يكن مجرد مقر سكن الملك، بل كان يحتوي أيضا على العديد من الورش، إما لصناعة الفخار أو لنحت الحجر أو لتعليب السلع ووضع الصكوك عليها قبل تصديرها. كما اشتمل القصر الملكي على قاعة استقبال دائرية الشكل تقلد ما هو معروف في المناطق إفريقيا جنوبا، ولا يوجد مثيل لها في المناطق الشمالية.
وبما أن الكل كان فوق جزيرة يحيط بها نهر النيل، أضيفت قبالتها مدينة موازية يفصلها خندق احتوت على معابد لتقديس الموتى من الملوك وتقديم القرابين للآلهة. ويرى شارل بوني أن “مدينة كرمة تطورت من مدينة صغيرة خصوصا في فترة كرمة المتوسطة أو أثناء الإمبراطورية المصرية المتوسطة في حدود 2050 حتى 1750 قبل الميلاد”.
وقد اختار شارل بوني ترميم جدران هذه المدينة في احترام تام لمخططها الأصلي بعد الكشف عن جانب من جدرانها الأصلية؛ وهو ما يسمح برؤية معالم المدينة بمختلف مكوناتها من خلال جدران ترتفع بما بين 40 و60 سنتمترا عن سطح الأرض. ويقول شارل بوني “اخترت ترميمها بنفس التقنية المستعملة للطين والطوب لكي تكون واضحة للزوار”.
تحت حماية “فاطمة ديفوفة”
كلمة “ديفوفة” باللغة النوبية تعني المبنى المرتفع من صنع الإنسان، والذي كان يبلغ في أصله حوالي 25 مترا. وما تبقى من المربع الديني اليوم، يرتفع لحوالي 18 مترا، وهو المبنى الذي شيد على فترات متتالية بحيث انتقل من أكواخ عادية في بداية الأمر لكي يتحول الى معبد بأبعاد هائلة. وقد تم ترميم سلم به لكي يسمح للزوار بالصعود الى أعلاه وإلقاء نظرة على كامل أقسام المدينة القديمة. وبما أن المبنى الديني كان مرتبطا بالقصر الملكي عبر ممر، استنتج البحاثة بأن الملك، ولئن لم يكن إلاها فإنه كان يقوم بدور رجل الدين.
وحتى ولو أن مبنى الديفوفة شيد بالطوب والطين، إلا أنه يعتبر في نظر شار لبوني “من أحسن المباني الطوبية القديمة التي بقيت في وضعية جيدة”.
لكن بالنظر إلى كثرة إقبال المزارعين على استخدام طين المباني الأثرية كسماد لحقولهم، يبدو ان ذلك قد يدفعنا إلى تصديق الأسطورة السائدة في المنطقة والتي مفادها أن “المبنى مسكون من قبل خيال أطلق عليه اسم فاطمة ديفوفة”. إذ يتذكر شارل بوني أنه عندما وصل إلى المنطقة “حذره السكان من عدم الصعود للمبنى لأن هناك شبحا أبيض يظهر من حين لآخر وهو شبح فاطمة ديفوفة”.
والمميز لمبنى الديفوفة حسب شارل بوني أن “الصعود إلى أعلى المبنى يتم عبر سلم جانبي وليس عبر سلم يتوسط المبنى مثلما هو الحال في المعابد المصرية”. وهو ما يُستنتج منه دائما حسب شارل بوني “أننا في ثقافة وهندسة معمارية نوبية خاصة ومتميزة”.
ويقود السلم إلى غرفة رئيسية بها أعمدة حجرية من المرمر الأبيض لربما تم جلبها من بعيد لأنه لا توجد مقالع حجر في المنطقة. ويُعتقد أن هذه الغرفة كانت عبارة عن مكان لتقديم القرابين مثل الكباش لأنه تم العثور على بقاياها في ركن من أركانها. وتنتهي الغرفة بدهليز كانت توضع فيه الوسائل الضرورية لتنظيم القداس الديني.
وعلى الرغم من العثور على شظايا عديدة لتماثيل تجسد الإله الذي كان يقدس آنذاك، يأمل الفريق السويسري في أن تتوصل الأبحاث المستقبلية إلى اكتشاف تمثال كامل يجسد الإله آمون ذي رأس الكبش الذي يُقال أنه ولد في جبل بركل على بعد 200 كلم. وهو الاعتقاد الذي وجد له أثر في مقابر الديفوفة الشرقية وفي دوكي جيل حيث تم العثور على بقايا قرابين أكباش تجسد هذا الإله.
وبعد الصعود إلى القسم العلوي من مبنى الديفوفة عبر سلم أضيق من الأول، نصل إلى قمة المبنى الذي يسمح برؤية شاملة على المنطقة. ويعتقد شارل بوني بأن هذا السطح “الذي وجدت به أعمدة، كان يأوي معبدا آخر يقام فيه قداس لربما له علاقة بعبادة الشمس على غرار ما يتم في مصر”.
“البقية لمن يأتي بعدي”
أعمال الترميم شملت في موقع كرمة القديمة حوالي ثلاثة أرباع المساحة، وهناك جهود متواصلة لإتمام عمليات الترميم للربع الأخير.
ولحماية الموقع من النهب أو الضرر، تمت إحاطته بسور. كما وظفت الحكومة السودانية حرسا من أبناء المنطقة لمراقبة الموقع. ولاشك في أن متحف حضارة كرمة الذي أقيم بجوار موقع المدينة الأثرية سيعمل لا محالة على جلب أعداد من الزوار للموقع.
ويأمل شارل بوني في أن يواصل من سيخلفه فيما بعد على رأس فريق التنقيب بالمنطقة، عملية التنقيب والترميم التي إن لم تكن لتضيف معلومات علمية كبيرة فإنها قد تكون لها أهمية سياحية كبرى.
وسنواصل في الحلقات القادمة الحديث عن باقي المعالم التي تزخر بها كرمة، مثل حي المقابر في الديفوفة الشرقية أو معابد دوكي جيل، قبل أن نستعرض ردود فعل السكان والمسؤولين ونظرتهم لكيفية توظيف هذه الاكتشافات ثقافيا وسياحيا.
ظهر طموح مصري في بداية الإمبراطورية الوسطى في عهد فراعنة العائلة 12، للسيطرة على كامل منطقة النوبة. وتوصل بعض الفراعنة إلى إقامة قلاع لمراقبة الطرق المؤدية إلى مقالع الحجر ومناجم الذهب وممرات تحرك القوافل.
وفي عهد سيسوستريس 3، تدخلت القوات المصرية ثلاث مرات في الأراضي الكوشية مما دفع إلى نقل حدود الدولة الكوشية إلى ما بعد الشلال الثالث جنوبا وتدعيمها بقلاع سمنة وكوما. وهذا النظام الدفاعي هو الذي عمل على تمكين المملكة النوبية الأولى، المسماة “أيم” من قبل المصريين، من عدم السقوط تحت الاحتلال.
وقد منحت مدينة كرمة التي تقع شمال الشلال الثالث في سهل دنقلة، اسمها لمملكة ولثقافة ميزت المنطقة لأكثر من 1000 سنة.
ولكن تاريخ كرمة ينقسم الى عدة حقب:
– حقبة ما قبل كرمة ما بين 2800 و2400 قبل الميلاد.
– حقبة كرمة القديمة ما بين 2400 و2050 قبل الميلاد؛ وهي الحقبة التي عاصرت حقبة الإمبراطورية المصرية القديمة في مراحلها الوسطى. ويُعتقد أنها كانت عبارة عن إمارات صغيرة ممتدة ما بين الشلالين الثاني والثالث قبل أن يوحدها أمراء كرمة. وكل ما وُجد عن هذه الحقبة تم العثور عليه في المقابر القديمة التي كانت تحتوي على الميت وإلى جانبه بقايا قطعان الماعز والغنم التي تقدم كقرابين، بينما توضع بقايا جماجم البقر على يمين القبر. وهي الطقوس التي عثر عليها في مقابر الديوفوفة الشرقية.
– حقبة كرمة الوسطى ما بين 2050 – 1750 قبل الميلاد؛ في عهدها تم توحيد كل الإمارات تحت راية أمير كرمة. وقد تطورت عاصمتها كرمة لكي تفرض رقابة على مفترق الطرق التجارية. وفي عهدها عرفت مراسيم الدفن تصنيفا حسب المكانة الاجتماعية والاقتصادية مما جعل قبورا أكبر من غيرها نظرا لاستيعابها ممتلكات وقطعان الشخص المدفون.
– حقبة كرمة الكلاسيكية ما بين 1750 و1500 قبل الميلاد؛ وهي الحقبة التي بلغت فيها مملكة كرمة أوجها في الوقت الذي عرفت فيه مصر المراحل ألأكثر سوادا في تاريخها.
ولاستغلالهم لهذا الضعف المصري، بسط حكام كرمة نفوذهم ما بين الشلالين الأول والرابع على طول أكثر من 1000 كيلومتر. وفي هذه المرحلة، عرفت مدينة كرمة تعزيز دفعاتها بأسوار قوية وفيها تم تشييد الديفوفة الغربية، وإقامة مقابر الديفوفة الشرقية التي تحولت فيها القرابين من قطعان الماشية الى تضحية بقرابين بشرية تصل الى مئات الأشخاص.
لكن إعادة توحيد مصر تحت قيادة ملوك العائلة الثامنة عشر بقيادة خاموس، جعلت المصريين يهتمون بكامل منطقة النوبة من جديد مرغمين السكان إما على إتباع نمط العيش المصري أو الرحيل إلى أبعد في الجنوب. وكان يعتقد بأن الثقافة النوبية قد اندثرت إلى أن ظهرت مملكة نبتة بعد عدة قرون من ذلك.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.