العشب الأخضر في أبنزل… مغامرة للمخرج السينمائي السويسري بيتر متلر
حصل المخرج السويسري الكندي بيتر ميتلر على إشادات كثيرة حول العالم بسبب فيلم وثائقي سويسري ضخم لم يكتمل بعد. ويشرح المخرج لـماذا يشعر أن هذا العمل هو بمثابة عودة اعتيادية إلى الجذور.
في العام الماضي، حصد فيلم وثائقي سويسري يبلغ طوله قرابة ثلاث ساعات، العديد من الجوائز في مهرجانات الافلام الوثائقية العالمية، لكنه لقي نجاحا متواضعا لدى المشاهدين والمشاهدات. كان الفيلم يتناول الموت البطيء لوالدِ المخرج، ودورات الطبيعة، وجائحة نأمل جميعا نسيانها.
وكانت أول جائزة حصدها الفيلم في مهرجان “رؤى من الواقع” (Visions du Réel)، في مدينة نيون الواقعة غرب سويسرا. حيث كان من المفترض أن يُعرض كنسخة أوَّلية لاستقطاب الجهات الراغبة بالاستثمار. ثم حصد الفيلم جائزتين دوليتين أخرييْن في مهرجان دوك لايبزيغ ومهرجان مونتريال للأفلام الوثائقية. ومنذ ذلك الحين عُرِض الفيلم في مهرجانات الأفلام الوثائقية في الهند، وجمهورية التشيك، وهولندا، وأستراليا، والبرتغال. ومن المفترض أن يتواصل عرضه في دول أخرى كثيرة.
وفي بداية عام 2024، وصل هذا العمل الفني إلى سويسرا الناطقة بالألمانية، مسقط رأس مخرجه، وتمّ توزيعه رسميا في دور السينما في المنطقة.
وما يثير الاستغراب هو أن فيلمًا طويلًا يتناول قضايا معقّدة قد حقق مثل هذه الشهرة في عالم مشتّت الانشغالات، بل والأغرب من ذلك، أنه عمل لم يكتمل بعد.
في الحقيقة، ما تمّ تتويجه هو الجزآن الأول والخامس فقط من الفيلم، أمّا العمل الكامل فهو ملحمة مدتها أكثر من عشر ساعات، مكوّنة من سبعة أجزاء، وتحمل اسم “بينما ينمو العشب الأخضر”. ويستوحي المشروع اسمه من القول المأثور “دائمًا ما يبدو العشب أكثر اخضرارًا على الجانب الآخر من السياج”.
ملحمات فلسفية عميقة
يقف وراء هذا المشروع المذهل، المخرج بيتر ميتلر، وهو فنان كندي متعدد التخصصات ولد لأبوين سويسريين. وهو معروف بأفلامه الوثائقية الطويلة التي تتناول أهم المواضيع في أكثر الأشكال ملحمية: موضوع الشفق القطبي، على فيلم مقاس 35 ملم ،في “صورة الضوء” (1994)، والسعي وراء السموّ في فيلم “المقامرة والآلهة وعقار إل إس دي” (2002) الذي يستغرق ثلاث ساعات، ووعي الحيوانات وتفاعلاتها مع البشر في فيلم “أن تصبح حيوانًا” (2018، من إخراج مشترك مع إيما ديفي)، وكذلك طبيعة الزمن ومروره في فيلم “نهاية الزمن” (2012).
>> رابط الفيديو التشويقي لفيلم “المقامرة والآلهة وعقار إل إس دي”- (2002)
وكان الفيلم الوثائقي “بينما ينمو العشب الأخضر” قد عرض في شهر يناير في مهرجان أيام سولوتورن للسينما، الذي يستعرض الإنتاج السينمائي السويسري على مدى 12 شهرًا. وبعد انتهاء العرض، تحدثت مع متلر، الذي قال لي: “كنا ننوي [في مهرجان “رؤى من الواقع”] أن نقدم عملًا لا يزال قيد الإنجاز، عمل غير مكتمل تمامًا، في محاولة لجمع التمويل للمشروع الأكبر”.
وتابع: “لقد شجعتنا إيميلي [بوجيس]، مديرة المهرجان، على المشاركة بهذا الفيلم في المسابقة. كان نوعًا من التحدي: [فقلنا] ‘حسنًا، لنرَ ما إذا كنّا سننهيه ولنرقب ماذا سيحدث’. كان المشروع بأكمله على هذا المنوال؛ أبعد ما يكون عن العمل التقليدي. وببساطة، لم نكن نعرف مسار الفيلم إلا بعد أن نُقدم على الخطوة التالية”.
مثّل العرض في سولوتورن خاتمة لجولة عُرض فيها الفيلم على مدى أسابيع في مناطق سويسرا الناطقة بالألمانية، ومنها كانتون أبنزل، التي احتضنت العديد من مشاهد الجزئين الأول والخامس من هذه الملحمة الوثائقية. فقد بدأ تصوير الفيلم في عام 2019 في كانتون أبنزل، الكائنة في شرق سويسرا، بعد سنوات عديدة من العمل الدؤوب في تقديم الورش للترويج لإنتاج هذا الفيلم.
آنذاك، كانت عبارة “العشب الأخضر” هي المنارة الوحيدة التي تنير طريق متلر، وما إن حصل على التمويل من صديق له (وهو مشهد يُمكن رؤيته في الفيلم)، قرَّر بعفوية محضة البدء فوراً بتصوير مشاهد من الفيلم.
>> رابط الفيديو التشويقي لفيلم “بينما ينمو العشب الأخضر”
“بينما ينمو العشب الأخضر”
طوال مسيرته المهنية، تنقَّل متلر بين موطنيْه، كندا وسويسرا، واستفاد من جنسيته المزدوجة والتعدد اللغوي المتجذّر في سويسرا. وقد انعكس هذا التنوع في أفلامه التي تتميز بأسلوب متعدد الوجهات والممارسات الثقافية والنظم العقائدية والتقاليد الفكرية.
وكنت أثناء حديثي مع متلر حول فيلم “بينما ينمو العشب الأخضر”، تختلط عليَّ الأماكن- غرف المستشفيات، واستوديوهات الحظر، وغرف المعيشة ذات الإطلالات على الغابات المشمسة- التي نلمحها في الفيلم؛ فأسأل: “هل صُوِّر هذا المشهد في سويسرا؟” ليجيبني: “لا، بل في كندا…”
تتكشَّف غالبية مشاهد فيلم متلر، ومدّته ثلاث ساعات، في مساحة خيالية مفصولة عن التدفق الطبيعي للوقت الطبيعي أو الحدود المرسومة بين المدن أو البلدان. هو مخرج بالفطرة. وبالنسبة إليه، فإن توثيق سيرة حياته في فيلم وثائقي يشبه الصلصال الطري الذي يمكن تشكيله بأي شكل يخطر على باله. فنجده ينتقل بنا فجأة من البساطة إلى العَظَمة، ومن الآنيّ إلى الأبدي. وقد يحدث هذا الانتقال خلال مشاهد قليلة مرتّبة ببراعة، كما يظهر في المشهد مع والده المحتضر أثناء نزهة هادئة أو في رحلة الاستكشاف داخل كهف في جبال الألب.
وعن ذلك، يقول متلر: “في أفلامي- وهذا الفيلم ليس استثناءً- أطلب من الناس الانخراط من خلال إيجاد ما يربطهم [بالفيلم]. إنه ليس سردًا سيأخذ الجمهور بعيدًا. نحن نشجع الجمهور على الاستفادة من ذلك بطريقته الخاصة”. ورغم المهارة التي يشتهر بها متلر، إلَّا أنه من المدهش أن يُحدث جزءان فقط، من أصل سبعة أجزاء، هذا التأثير الكبير على أحدهما الآخر، وأن يُظهرا تناغمًا وتناسقًا كبيريْن بينهما.
ويسترسل متلر، فيقول: “لكن بمجرد أن عرضناهما أخيرًا، تواصل معي الكثير من الأشخاص للتحدث ببساطة عن تجاربهم.ن الخاصة مع أحباء وافتهم.ن المنية، وعن مشاعرهم.ن حيال مرور الزمن. وبطريقة ما، لم أكن قد فكَّرت مُسبقًا إلى هذا المدى [خلال العملية]. لم أكن أتوقع ذلك. كان هناك الكثير من العواطف التي ظهرت بعد مشاهدة هذين الجزأين”.
المزيد
الساحة الفنية السويسرية في عام 2024: عودة السياسة إلى مركز الصدارة
الجائحة والتشويه
سألتُ متلر: ” أليس غريبًا أن تحصل على هذا القبول لمشروع لم يكتمل إلا جزئيًا؟ فأجابني قائلًا: “شكّلت سنوات تلك الجائحة نوعًا من التشويه- أحب استخدام هذه الكلمة لوصف سنوات الجائحة. كان الوقت بطيئًا، ولكنه كان سريعًا أيضًا. كان الوقت ملتويًا، مشوَّهًا. في أعقاب ذلك، كان من الجميل أن أعود مرة أخرى إلى التواصل مع الناس.” واستطرد: “وبصفتي مخرجًا، ينتابني شعور خاص وأنا أسمع التعليقات من جمهور حقيقي وأنت واقف أمامه، إنها تجربة خاصة. هذا بالتأكيد جزء كبير من صناعة الأفلام. شعرت وكأنني أحصل على بعض التمارين بعد أن ظللت لأسابيع مستلقيًا في السرير”.
سكت متلر للحظة، وكأنه كان يفكر في التحديات التي قد تنجم عن الإعجاب الذي حظي به المشروع الملحمي ولم ينجز منه سوى نصفه حتى الآن. ثم واصل الحديث، قائلًا: “ولكن عليَّ القول إنني، في الوقت نفسه، لم أرغب في قطع هذه الفترة الطويلة عن مواصلة صنع ما تخيلته كسلسلة [أفلام]. لقد أنجزنا معظم عمليات التصوير قبل أغسطس 2021، ونحن الآن في عام 2024، وسيتم إنهاؤه وتقديمه- على الأرجح- في عام 2025. ولا يزال العمل يلقى أصداءً، وتجري مناقشته، ويُكتب عنه حتى الآن. لذا يتعين عليَّ أن أعيد التفكير في استراتيجياتي. سيكون هذا الكائن الذي يستمر لمدة 10 ساعات بمثابة كبسولة زمنية تحبس تلك اللحظة”.
وبالفعل، فقد حدث الكثير منذ صيف 2021، وطرأت على العالم تغيُّرات كبيرة، ولربما طالت هذه التغيرات المساحات المحلية والطبيعية التي يصوّرها– ولربما طالت أيضًا نظرته إلى العالم من حوله.
وعن هذا التساؤل يجيب متلر: “هذا صحيح، فالكثير من الأحداث التي تجلب تأثيرًا كبيرًا على العالم بأسره تؤثر عليك كفنان أيضًا. وبطريقة ما، أشعر أن عليَّ الإشارة إلى ذلك في خاتمة هذا الفيلم، إشارة تكون أقرب إلى الحاضر، مع التمسك في الوقت نفسه بالشعور بأنك تشاهد كبسولة زمنية. حقًا، أتشوَّق كثيرًا إلى الانتهاء من هذا الفيلم والمضي قدمًا”.
عودة غير اعتيادية إلى الوطن
ربّما يكون عرض هذين الجزأين من المشروع الملحمي الجديد في كانتونات سويسرا الناطقة بالألمانية، حيث كانت البداية وحيث يقضي المخرج نصف وقته، تجربةً أعمق أثرًا. ففي نهاية المطاف، تحظى هذه البقعة من العالم بمكانة خاصة لدى عائلة متلر.
وهذا ما أكَّده صانع الأفلام بقوله إنّ “عرض الفيلم في سويسرا تجربة مختلفة تمامًا. ينحدر والدي من زيوريخ وتوغنبرغ في سانت غالن. وبدأت أشعر كأنني، عندما عرض الفيلم هنا، أعيدهما هنا أيضًا. ورغم رحيل معظم أفراد أسرتيهما وأصدقائهما، إلا أن هناك القليل منهم.ن حضر لمشاهدته”.
وواصل متلر شارحًا أنّ الفيلم ” يتحدّث عن الطابع الدائري لرحلتهما: لقد غادرا إلى كندا، ولم يكونا آنذاك متزوجين، ولم يكونا متأكدين إن كانا سيبقيان فيها. لم يكن الهدف البقاء هناك إلى الأبد. وبعد أن جئت أنا وأصبحت مخرجًا، ورويت قصتهما وأعدت تلك القصة إلى سويسرا… انتابني شعور غريب بالعودة إلى الوطن”.
تحرير: فيرجيني مانجان، وإدواردو سيمانتوب
ترجمة: ريم حسونة
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي/ أم
هل نال المقال إعجابك.كِ؟ اشترك.ي في نشراتنا الإخبارية المتنوّعة للحصول على مجموعة مختارة من أفضل محتوياتنا مباشرة عبر البريد الإلكتروني.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.