“سويسرا مقبرة للأحاسيس”
أمضت الكاتبة البرازيلية كلاريس ليسبكتور، التي صادف 10 ديسمبر الجاري مرور 100 عام على ولادتها، ثلاث سنوات في سويسرا، وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية. ولا نبالغ إذا قلنا إنها كرهت تلك الفترة التي قضتها في برن كرهاً شديداً، إلا أنها كانت مدينة لها، لأنها شكّلت مرحلة أساسية في حياتها المهنية.
كتبت لاحقاً: “ما أنقذني من رتابة برن هو نمط العيش الذي عاشته النساء في العصور الوسطى، أنتظر رحيل الثلوج لرؤية زهرة الجيرانيوم الحمراء، وقد انعكست صورتها على سطح الماء”.
“وهناك رُزِقتُ بابن، وكتبت أحد كتبي، “المدينة المحاصرة”، الذي لم ينل إعجاب القرّاء عند قراءته للمرة الأولى، ليعود وينال إعجابهم عند قراءته مرة أخرى؛ إن امتناني لهذا الكتاب كبير جداً: فما بذلته من جهد لكتابته استحوذ على وقتي، وأنقذني من صمت برن المروع، وعندما انتهيت من الفصل الأخير، توجّهت إلى المستشفى لأضع مولوداً ذكراً”.
ولدت شايا بينكاسوفنا ليسبكتور في عائلة يهودية في بودوليا في غرب أوكرانيا. وانتقلت إلى البرازيل مع عائلتها وهي طفلة صغيرة. وكانت ما تزال في التاسعة من عمرها عندما توفّيت والدتها.
أثناء وجودها في كلية الحقوق في ريو، بدأت في نشر مقالاتها الصحفية وقصصها القصيرة، واكتسبت شهرة في سن 23 عاماً بعد صدور روايتها الأولى، “بالقرب من القلب المتوحش”.
انتقلت إلى سويسرا في أبريل 1945، عندما تم تعيين زوجها دبلوماسياً في برن، حيث كتبت روايتها الثالثة، “المدينة المحاصرة”.
غادرت مع عائلتها سويسرا في نهاية عام 1948 للإقامة في المملكة المتحدة ومن ثم في الولايات المتحدة. ولكن ليسبكتور شعرت بالملل من قيود الحياة الدبلوماسية، فتركت زوجها وعادت مع ولديْها إلى ريو دي جانيرو في عام 1959، حيث قضت بقية حياتها.
توفيت كلاريس ليسبكتور على أثر إصابتها بمرض السرطان، وكان ذلك عشية عيد ميلادها السابع والخمسين ودُفنت في مقبرة “كاجو” اليهودية في ريو دي جانيرو.
ومن رواياتها “العاطفة وفقاً لـ غ.هـ” (1964)، “ساعة النجمة” (1977) و“نسمة من الحياة” (1978) .
وتم اكتشافها مؤخراً في خارج البرازيل، لا سيّما بعد أن تم نشر مجموعات من أعمالها باللغتين الإنجليزية والألمانية.
وُلدت شايا بينكاسوفنا ليسبكتور – التي وصفها بنيامين موزر بأنها “أهم كاتبة يهودية منذ كافكا” ووصفها كولم تويبين بأنها “واحدة من عباقرة القرن العشرين” – في 10 ديسمبر من عام 1920 لعائلة يهودية في غرب أوكرانيا.
بدأت حياتها متنقلة كالبدو الرحّل من مكان إلى آخر؛ فقد انتقلت في طفولتها مع عائلتها إلى البرازيل، ثم غادرت البرازيل في عام 1944، للالتحاق بزوجها الذي عيّن دبلوماسياً في نابولي. وكانت الحرب آنذاك قد دمّرت هذه المدينة الإيطالية، فعملت ليسبكتور في مستشفى للصليب الأحمر.
ولكن، عندما تم نقل زوجها إلى برن، قالت إنها شعرت وكأن هذا الانتقال كان قفزة في المجهول.
كانت قد بلغت من العمر 24 عاماً عندما انتقلت إلى العيش في سويسرا، وكانت حياتها هناك بمثابة مصفاة لمشاعرها وملاحظاتها الأنثروبولوجية. وكانت تلجأ لكتابة الرسائل إلى أقاربها، بمن فيهم شقيقتيها تانيا وإليسا، اللتيْن كانتا تعيشان في ريو دي جانيرو، للهروب مما اعتبرته الحقيقة القاسية والمرّة.
“في نابولي لا يمكنك التنفس وحيداً ولو لمدة دقيقة واحدة. وها أنت هنا تتنفس وحيداً بكل ما للكلمة من معنى “، كتبت ليسبكتور إلى أخواتها في إحدى رسائلها. كانت سويسرا تبدو وكأنها بلا حياة. “سويسرا مستقرة جامدة – عندما تفتح عينيك في الصباح، فأنت تعلم أنها ما زالت حيث تركتها، لم تتحرَك من مكانها؛ فهي لا تتّسم بطابع البلاد النبيلة على غرار إيطاليا أو فرنسا، على سبيل المثال، حيث الأمور عفوية ومتباينة لدرجة أنها قد تنتهي بك أحياناً إلى شعور ما بالالتباس. أما هنا فكل شيء وُضِع في مكانه. وهناك صمت وكرامة. كرامة مفرطة، أحياناً”.
أما علاقتها مع برن، على وجه الخصوص، فكانت علاقة كراهية من الوهلة الأولى. أخبرت شقيقاتها أنه عندما سيحضرن لزيارتها، فإنها “لا تعتزم جعلهن يقمن بزيارة برن بل ستتوجه معهن مباشرة إلى باريس”. وكتبت إلى أختها تانيا في إحدى رسائلها تخبرها بأن سويسرا كانت بالنسبة لها “مقبرة للأحاسيس”.
نقد بلا توقف
خلال فترة إقامتها في برن، انخرطت ليسبكتور عبر مراسلاتها المكثفة بالعديد من الكتاب والمفكرين البرازيليين. بيد أن انتقاداتها للمجتمع السويسري كانت انتقادات بلا هوادة – ولم تسلَم إلا المناطق الريفية فقط، التي اعتبرتها بمثابة “جزيرة” الطمأنينة، من تذمّرها واستيائها.
هذه الانتقادات تجسّدت أيضاً في أعمالها الأدبية، لا سيما في قصّتها “المدينة المحاصرة”، التي كتبتها في عام 1948، خلال فترة إصابتها برهاب الأماكن المغلقة في العاصمة السويسرية. وفي نفس العام، أنجبت مولودها الأول.
كما انتفضت ليسبكتور على نمط الحياة السويسري بعد أن أصبحت أمّاً. وكتبت في إحدى رسائلها شاكية أنها طردت مربية “طلبت منا أن نصمت كما لو كنا في مستشفى”. وقالت إن كلمة “تذمر” لها وقع في اللغة الألمانية – السويسرية يجسّد أسوأ معانيها”. علاوة على ذلك، “لقد تحدثت المربية عنا بشكل سيء إلى عمال التوصيل والجيران. كنا نعيش مع أفعى – من فصيلة الأفاعي الهيستيرية “.
اكتب تعليقا