شاليه “روسّينيير”.. أضخم مبنى خشبي للفنانين الأرستقراط
فيكتور هوغو، الدالاي لاما، ونجم الروك البريطاني ديفيد بووي، شخصيات معروفة ذات مكانة عالية، لم تجمعها الموسيقى أو الدِّين أو الأدب، بل جمعها إعجابها بأكبر مبنى خشبي في سويسرا وأحد أضخم المساكن الخشبية في أوروبا قاطبة: الشاليه الكبير في "روسّينيير" Rossinière.
وقد صُمِّـمَ هذا البناء الفخم والواقع في مرتفعات كانتون فو، ليكون مُستودعاً ومركزاً إقليمياً لتوزيع الجبن. ثم تحوّل إلى مسكن للفنان العالمي الفرنسي الشهير والمُثير للجدل “بالثازار كلوسّوفسكي”، المعروف باسم “بالثوس”Balthus.
“قلعة يُغطِّـيها ترس سُلحفاة”
تستغرق الرِّحلة بالقطار من بلدية مونترو، على شاطئ بحيرة ليمان، إلى قرية روسّينيير الصغيرة في جبال الألب وغير البعيدة عن مُنتجع “غشتاد” (أحد أكثر المُـنتجعات وأماكن التزلّـج على الجليد تكلفة في العالم)، أقل من ساعة، يمُـر فيها القطار البانورامي عبْـر مشاهد من الجمال الأخّاذ والطبيعة الخلاّبة. وعند الوصول إلى روسّينيير، يجذب هذا المبنى المميّـز الأنظار قبل أي شيء آخر. وقد قَـزَّمَ هذا الصرح المهيب، الذي يلوح في وسط القرية كالرُّؤيا، كل شيء حوله، وهو الذي وُصفَ مرّة بكونه “قلعة يُغطيها ترس سُلحفاة”.
والمعروف عن هذا الشاليه، أنَّه جوهرة حقيقية للهندسة المِـعمارية التقليدية السويسرية. وقد قام بِبِناء هذا المسكن الهائل حِرَفِـيِّـون مَحليِّـون، بتكليف من المحامي ورجل الأعمال السويسري جون ديفيد هنشوز من بلدية روسّينيير، الذي خطرت له هذه الفِـكرة في عام 1750. وقد استغرقت عمليات البناء 4 سنوات، حيث استُكمِلَت عام 1754.
ويعود الحجْـم غير العادي لهذا الشاليه إلى المُخطِّـط الذي صمّـمه هنشوز، فقد كان طموحه أن يتِـم تحويل المبنى إلى مُـستودَع ومركز إقليمي لتوزيع الجبن.
115 نافذة
على من يتجوّلَ في هذا الشاليه أن يلتقط أنفاسه بين الحين والآخر، نظراً لكِـبر حجمه، حيث يبلغ عرض الجدار الجنوبي على سبيل المثال، 27 متراً ويرتفع إلى 19.5 متراً، مع احتساب السّـقف المُغَلّف بالقرميد والذي تبلغ مساحته 950 متراً مربعاً.
وتلبغ كمية الخشب المُستخدمة في بناء منزلٍ من الحجم العادي من 30 إلى 50 مترًا مكعّـباً من الخشب، أي ما يُـعادل من 15 إلى 20 شجرة من أشجار الصّـنوبر ذات النوعية الجيدة. أما ما يحتاجه بناء شاليه كبير، فلا يقل عن 700 مترٍ مكعّـب من خشب الصنوبر، والذي يحتاج – وِِفقاً لحسابات الخُبراء – إلى ما لا يقل عن 200 شجرة صنوبر.
ويبلغ عُـمق الشاليه 15 متراً وفيه 115 نافذة – وهو عمَـل شاقّ حتى لأكثر المُتحمِّـسين لتنظيف النوافذ! ويعترف مالك الشاليه الحالي بابتسامة ساخرة، أن الحفاظ على الشاليه نظيفاً والقيام بالإصلاحات اللاّزمة للحفاظ عليه في حالة جيدة، هو نوع من التحدّي بحدِّ ذاته.
وتشكل واجهة المنزل المُزيّـنة بالأفاريز والنقوش التي تصور العديد من الوحوش الرمزية والزهور، ميزة خاصة أخرى. وقد استغرق العمل لاستكمال هذه الواجهة الفريدة، أكثر من 40 يوما، وهي تضم أكثر من 2.800 حَـرفا.
وتُعَبِِّـر هذه الكتابات عن “المُعتقدات المسيحية العميقة” لجون ديفيد هنشوز، الذي لم يَعِشْ للأسف ليَسْتَمتع بعمَـله الخلاّق أو لرُؤية حُـلمه بإنشاء مركز تجاري للجبن يتحقّـق. فقد تُـوفي هنشوز عن عمر 46 عاماً بعد عامين فقط من انتهاء أعمال البناء، التي تواصلت من عام 1752 وحتى عام 1756.
آخر مسكن لبالثوس
وبقي الشاليه الكبير، الذي كان في الأصل معروفا باسم البيت الكبير، في أسرة هنشوز حتى عام 1875. وفي عام 1852، تمّ تحويله إلى فندق ودار للضيافة، حلّت به العديد من الشخصيات المهمّـة ذات المكانة العظيمة، مثل فيكتور هوغو وألفريد درايفوس، الضابط في الجيش الفرنسي.
وفي أحد أيام عام 1976، نزلت في هذا الفندق شخصية مُهمّـة باسم بالثوس لتناوُل الشاي. وعلى الفور، سَحَرَ هذا الشاليه الفنان الفرنسي – البولندي الذي اتّـخذ قراره بالشراء في نفس اليوم. وهكذا بدأت المرحلة الحالية من تاريخ هذا المنزل.
وبالتدريج، تحوّل هذا الشاليه إلى نوع من المَزار لأعمال بالثوس، التي كانت تستقطِـب العديد من المُعجَـبين بهذا الفنان. وقد شمِـل ذلك المصوِّر الأسطوري هنري كارتيي بريسون وزوجته مارتين فرانك والنحات والرسام السويسري ألبيرتو جياكوميتي والمُمَثل الأمريكي ريتشارد جير والمغني بونو والدالاي لاما (القائد الدِّيني الأعلى للبوذيين في التِّبت)، بالإضافة إلى الموسيقيين الكلاسيكيين من أمثال قائدَيْ الأوركسترا، الإيطالي ريكاردو موتي والهندي زوبين ميهتا.
وكان نجم الروك البريطاني ديفيد بووي أحد الضيوف المُميّـزين والذين أجروا مقابلات مع بالثوس لعدد من المناسبات للاستعراضات الفنية المُتخصصة في بريطانيا. ولم يكن بووي صديقاً لبالثوس فقط، ولكنه كان من متذوِّقي أعماله أيضا.
الكونتيسة ذات الساموراي
عندما توفي بالثوس، انتقل هذا الشاليه الفخم إلى أرملته، الكونتيسة “سيتسوكو كلوسوفسكا دي رولا”، التي تَكَرَّمَت ووافقت للسماح لـ swissinfo.ch بتصوير هذا الشاليه وبحكي شيئ عن تاريخه.
ولدى وصولنا، كانت الكونتيسة في استقبالنا مُرتدِية الكيمونو التقليدي، الذي يتّـصف بهالة من التّـمييز، إذ تُـشير إلى عَظَمةٍ تَنتَمي إلى عصرٍ مَضى. ورافقتنا الكونتيسة إلى المَرسم في الطابق الأرضي، حيث جلست تروي ذِكريات الحياة في هذا المنزل.
والكونتيسة سيدسوكو، فنّانة في مجالها الخاص، كما أنها سفيرة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”. وقد وُلدت لعائلة ارستقراطية يابانية وترعرعت في طوكيو في أسرة تقليدية من الساموراي.
والتقت سيدسوكو ببالثوس في عام 1962، عندما كان في زيارة رسمية إلى اليابان، نظمها أندريه مالرو، وزير الثقافة في حكومة الرئيس الفرنسي الراحل شارل دوغول. ووقع الإثنان في الحب وتزوّجا بعد فترة وجيزة. وفي عام 1977 انتقلا أخيرا إلى الشاليه الكبير في روسّينيير.
المتحف
واليوم، أصبح ما كان سابقا مخزناً للجبنة، موطناً لمؤسسة بالثوس، ولكن، وحسبما تقول الكونتيسة “ليس لفترة طويلة بعد”، وتوضح خطتها قائِلة بأنها ترغب بـ “تحويل الشاليه الكبير إلى متحف مُخصَّـص لذكرى بالثوس”. وسيكون هذا المتحف مَفتوحاً للزوار على أساسٍ دائم، مع الاستمرار بتوفير مسكَـن لها ولإبنتها.
ويُعتبر أستوديو بالثوس مكاناً ذي أهمية خاصة في المنزل. وهنا، وفي جوٍ مؤثرٍ من التقشّـف التي تذكِرُنا بأماكن العِـبادة، تُحفظ اللوحات التي لم يكن هذا الفنان قد أكملها، حيث توفي بعد حين.
ويُعتبَر السماح بالدخول إلى هذا الأستوديو، امتيازا نادرا، حيث أنَّه غير مفتوح للجمهور. ففي شهر فبراير من عام 2001، قَضّى بالثوس الليلة الأخيرة من حياته هنا، راقداً في فراش بسيط مع زوجته سيتسوكو وابنته هارومي، مُمْـسِـكتيْـن بيديه.
وتستذكر أرملة أحد أعظم فناني القرن العشرين قائِلة: “لم نتحدّث كثيراً، ولكن في تلك اللحظات، كان هناك شيء جميل جداً”.
رودريغو كاريزو كوتو – swissinfo.ch
بدأت عملية بناء هذا المبنى الضخم في عام 1750 بتكليف من المحامي ورجل الأعمال المحلي جون ديفيد هنشوز.
استُـكملت عمليات البناء بعد أربعة أعوام في 27 يوليو 1754.
يُـعتبر الشاليه الكبير جزءً من التراث التاريخي لسويسرا، وبهذا، فهو نُـصب تذكاري تحت الحماية.
يبلغ عرض الواجهة الجنوبية 27 متراً وارتفاعها 19.5متر. أما مساحة السطح، فتبلغ 950 متراً مربّـعاً.
استُخدِم أكثر من 700 متر مُكعّـب من خشب الصنوبر لبناء هذا الشاليه الضخم.
يحتوي الشاليه على 115 نافذة وتتضمّـن الزخارف على الواجهات نصوصاً دينية.
وٌلِد الكونت بالتازار كلوسّوفسكي دي رولا، المعروف باسم بالثوس، في باريس يوم 29 فبراير من عام 1908 وتوفي في روسّينيير في 18 فبراير 2001.
بدأ بالثوس في الرسم كَمِهنة في عام 1924، وسافر إلى فلورانسا الإيطالية المعروفة بفنونها وعمارتها في عام 1926 لتحسين مهاراته وأقام أوَّل معرض له في زيوريخ في عام 1929، غير أن هذا المعرض لم يحظَ بالنجاح.
بدأت مسيرة بالثوس الدولية عندما تخلّـى عن السريالية. ورسم أول روائعه المُـسماة “الشارع” في عام 1933.
بين 1961 و1977 كان بالثوس مديرا للأكاديمية الفرنسية في فيلا ميديسي في العاصمة الإيطالية روما.
كان بالثوس يُلَقَّـب بـ “ملك القطط”، بسبب افتتانه بهذه الحيوانات.
رسم بالثوس ما يقرب من 300 صورة، أشهرها “درس الغيتار” (1934) و”تزيين كاثي” (1933) و”أليس في المرآة” (1933) و”تيريزا النائمة” (1938) و”الغرفة” في عام (1954).
اشتهر بالثوس برسمه صُـوَرا للنساء الشابات، وغالبا ما كُنَّ نصف عاريات في أوضاع غامضة. كما أن جميع أعماله رمزية وتلعب مع مفاهيم الشباب والبراءة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.