عندما تحظى الأحجار القديمة بحياة ثانية
تُؤخذ الحجارة في العصور القديمة، والوسطى، بل وحتى الحديثة، من المباني القديمة لإعادة استخدامها في إنشاءات جديدة. وبينما تتسبّب هذه الممارسة في زوال العديد من المباني التاريخية، تمكّن في المقابل مبانٍ أخرى من الصمود أمام اختبار الزمن.
ينشر موقع سويس إنفو(swissinfo.ch) بانتظام، مقالات أخرى من مدونة المتحف الوطني السويسري رابط خارجيرابط خارجي حول مواضيع تاريخية، متاحة دائماً باللغة الألمانية، وأحيانا باللغتين الفرنسية والإنجليزية أيضاً.
اكتسب ” مبدأ الاقتصاد الدائري في البناء“، مكانة مرموقة في العقود الأخيرة، مع انتشار التنمية المستدامة. ويتمثّل هذا المبدأ في إعادة استخدام المواد المتأتّية من بناء مهدّم، بعد فرز ما يمكن إعادة تدويره منها قدر المستطاع. ولكن لا يبدو هذا الأمر جديدا تماما، فقد شاعت هذه الممارسة في الماضي، واحتُفظ بالكثير من العناصر المعمارية القديمة في منشآت حديثة.
وتُعرف عناصر المباني القديمة الإنشائية والزخرفية، المعاد استخدامها باسم البدائل أو “سبوليا”. ويفيد هذا المصطلح اللاتيني في الأصل معنى ”غنيمة“. ويُعد قوس قسطنطين في روما، قوس النصر الذي شيد بين عامي 312 و315 ميلادية تكريماً للإمبراطور الروماني قسطنطين، أحد أشهر الأمثلة على استخدام السبوليا. فقد أُخذت العديد من النقوش التي تزين المبنى في الواقع، من مبانٍ شيدها أباطرة مشهورون مثل تراجان، وهادريان، وماركوس أوريليوس، في القرن الثاني الميلادي. وتختلف الآراء حول أسباب إعادة الاستخدام هذه، فهل أراد قسطنطين أن يسير على خطى أسلافه المرموقين؟ أم يعود ذلك إلى نقص في الأحجار المناسبة؟ أو حتى في الحرفية الماهرة؟
حجر الزاوية الروماني
غالباً ما يستخدم الرومان لأغراض البناء، مواد خام من المنطقة المجاورة مباشرةً لأسباب عملية، أو لتجنب النقل المعقد الذي يستغرق وقتاً طويلاً. وغالباً ما يستخدم خلفاؤهم أيضاً مواد بناء رومانية. واكتُشفت عام 1958، أسطوانة عمود روماني استخدمت كحجر زاوية في منزل يعود تاريخه إلى القرون الوسطى، وتحديدا إلى حوالي عام 1000 ميلادي، في إلساو خلال الحفريات الأثرية التي أنجزتها دائرة الآثار التاريخية في كانتون زيورخ. وتُستخدم الكتل الحجرية الكبيرة كأحجار زاوية غالبا، بسبب ثباتها. لكن لا يمكن أن تكون أسطوانة العمود المهيبة جدا هذه، بقطرها البالغ 57 سنتمترا، جزءاً من فيلا رومانية خاصة. ولذلك يُفترض انتماؤها في الأصل إلى أعمدة مبنى أثري، ربما كان معبداً في فيتودوروم، أو مستوطنة أوبرفينترتور الحالية. وبما أن إلساو تبعد 4 كيلومترات فقط، يمكننا أن نستنتج أنّ مواد البناء في العصور الوسطى كانت تؤخذ من الآثار الرومانية لتوفير الوقت والمال.
إله البرْج
في هذه الحالة، كان الغرض من إعادة استخدام أسطوانة العمود كمادة بناء مسألة عملية بحتة. ومع ذلك، كان من الممكن أيضاً أن توظف الإسبوليا كعناصر زخرفية أو لخدمة أغراضٍ أخرى، كما يتضح من النقش الروماني الذي يصور الإله أتيس المكرس في أعلى برج تور سيزار، الذي يعود إلى القرون الوسطى في نيون. ويمتلك متحف زيوريخ الوطني قالباً من الجبس صُنع في عام 1924، لكن لا يزال الأصل في مكانه، ولا يزال إله البرج إلى اليوم يطل على المدينة. فتذكر الأساطير أنّ أتيس، عاشق الآلهة الأمّ، كان شاباً وسيماً مات قبل الأوان، وغالباً ما كان يظهر في عبادة الموتى الرومانية رمز الحداد. ولذلك، يمكن افتراض أن النقش كان يزين قبراً رومانياً في القرن الأول الميلادي.
فلماذا اُدمجت هذه المنحوتة الجنائزية الرومانيّة في برج القرون الوسطى، بعد حوالي 900 عام من استخدامها الأصلي؟ نجد التفسير في تاريخ البلدة. فقد قامت المستعمرة الرومانية كولونيا يوليا إيوليا إيكويستريس، التي أسسها يوليوس قيصر نفسه حوالي عام 45 قبل الميلاد، في ساحة البلدة في نيون. ومثّلت بمبانيها المهيبة أحد المواقع الرئيسية على ضفاف بحيرة جنيف. ضمّت المستعمرة ساحة رئيسية، ومعبداً، وسوقاً، وحمامات حرارية، ومدرجاً، ولا يزال الكثير منها قائما حتى اليوم. وقد أُدمجت بعض النقوش السبولية في برج القيصر، وكانت أكثرها لفتا للانتباه تلك التي تمثل أتيس في هذه البدائل. ويُرجّح جداً أن تهدف إعادة الاستخدام المتباهي لهذه العناصر المعمارية، إلى التذكير بماضي المدينة الروماني المجيد. وربما اعتقد البناؤون في القرون الوسطى أن النقوش تمثل القيصر، مؤسس المدينة، ومن هنا جاء الاسم الذي أُطلق على البرج.
سبوليا في المتحف
لئن ساهمت السبوليا في الحفاظ على معالم البناء والزخرفة من ناحية، فقد أدّى استخدام أجزاء من المباني القديمة كأنقاض أو مخزون من المواد إلى تدمير المباني التاريخية أيضا. إذ تزايد الوعي في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بقيمة الحجر القديم كشاهد على الماضي. فتأسست عام 1880 في سويسرا، الجمعية السويسرية للحفاظ على الآثار التاريخية، ووضعت قائمة جرد للآثار السويسريّة بالإضافة إلى ترميم الأعمال الفنية، والتنقيب عنها، واقتنائها. فنجحت المتاحف بهذه الطريقة، في الحفاظ على أجزاء من المباني للأجيال القادمة على الأقلّ. كما تتضمن الهندسة المعمارية لمتحف زيورخ الوطني المفتتَح عام 1898، سبوليا مكونة من عناصر تاريخية ومنحوتات زخرفية، من أجل توفير بيئة مناسبة لهذه المعروضات والسماح للجمهور بتصور الهندسة المعمارية للعصور الماضية. ولا تزال السقوف الخشبية القديمة، والبلاط، والأبواب من الكنائس والقلاع، والنوافذ ذات الحواف، وسلسلة من الأروقة من الأديرة التي هُدمت منذ زمن طويل، وحتى الغرف التي أعيد بناؤها بالكامل من عناصر تاريخية، تشكّل جزءاً أساسياً من المتحف إلى اليوم، ويمكن اكتشافها في المعرض الدائم بعنوان ”مجموعة الأعمال“.
جاكلين بيريفاناكيس مرشدة معارض في المتحف الوطني السويسري.
المقال الأصلي على مدونة المتحف الوطني السويسريرابط خارجي
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.