عندما تـُعاقب السياسة الفن ..
تحولت مُناقشة ميزانية عام 2005 في البرلمان الفدرالي إلى ضوضاء وجلبة حول معرض الفنان السويسري توماس هيرشهورن المتواصل في باريس.
مجلس الشيوخ قرر معاقبة المؤسسة الثقافية “بروهلفيتسيا”، التي تدعم المعرض المثير للجدل، بتقليص ميزانيتها السنوية بمليون فرنك، لتتوالى التساؤلات عن حدود الرقابة واستقلالية الفن.
بـ24 صوتا مقابل 13، قرر مجلس الشيوخ السويسري يوم الثلاثاء 7 ديسمبر تقليص حجم المساعدات المالية المقدمة للمؤسسة الثقافية “بروهلفيتسيا”، التي قد تتراجع إلى 33 مليون فرنك إذا ما صادق مجلس النواب بدوره على هذا القرار.
وجاء تحرك مجلس الشيوخ ردا على دعم “بروهلفيتسيا” لمعرض الفنان السويسري تومارس هيرشهورن الذي يتواصل في المركز الثقافي السويسري في باريس إلى غاية 30 يناير القادم تحت شعار “الديمقراطية السويسرية-السويسرية”.
وكان الفنان الذي يقيم في العاصمة الفرنسية منذ عشرين عاما، قد أعلن بوضوح أنه يريد الاحتجاج على ما يصفه بـ”عبث الديمقراطية المباشرة” في وطنه الأم من خلال المعرض. لكن الأسلوب الذي اختاره للتعبير عن أفكاره ومواقفه أثارت صدمة وحتى اشمئزاز بعض السياسيين الذين ارتأوا أن هيرشهورن تجاوز كافة الحدود بتقديمه “صورة حقيرة عن سويسرا”.
وما أجج الانتقادات تجاه الفنان السويسري تعبيره الواضح من خلال أحد لوحاته عن معارضته الشديدة لانتخاب كريستوف بلوخر، من حزب الشعب اليميني المتشدد، عضوا في الحكومة الفدرالية التي يشغل فيها حاليا منصب وزير العدل والشرطة. وكان هورشهورن قد لمح أنه لن يعود إلى سويسرا طالما ظل بلوخر عضوا في الحكومة.
ولم يتقبل عدد من السياسيين الصورة التي ظهر بها الوزير بلوخر في معرض هيرشهورن الباريسي. ومن بين هؤلاء بيتر بيري نائب الحزب الديمقراطي المسيحي الذي قال: “يمكن للفن أن يكون منتقدا، لكن إذا ما داس على قيمنا، وأظهر صورة توحي بشخصية أحد الوزراء (في إشارة إلى كريستوف بلوخر) يُصـبُّ عليه البول، فيجب على البرلمان أن يتدخل”.
ثقة الفنان في فنه لم تهتز..
قرار مجلس الشيوخ لم يُربك الفنان هيرشهورن الذي يعتقد أن “من يجب أن يشعر بالارتباك هو من اتخذ القرار”. وفي تصريحات أدلى بها لوكالة الأنباء السويسرية مساء الثلاثاء 7 ديسمبر، شدد هيرشهورن على أنه لا يعارض أيّ تقليص في الميزانية شرط أن يُـُقررَ خفض النفقات في إطار توفير شامل. “لكن إذا ما أُرفِق هذا التقليص بمعاقبة تنصُّ على حظر مجموع الفنانين، هنا، تصبحُ الديمقراطية معرضة للخطر”، على حد قول الفنان السويسري.
وأضاف في هذا السياق: “أنا مستقل ولا أعمل لكسب المال. لكن بعض السياسيين يستغلون هذا المعرض لتبرير تقليص الميزانية”.
وبلهجة واضحة وصريحة لم يتردد في القول إن “السويسريين يقعون تحت ضغوط كبيرة، من مال وتأمينات. إنهم قلقون جدا. لا يتمتعون بالسيادة، ولا يستطيعون تكوين رأي بأنفسهم. يشعرون بسرعة كبيرة أنهم معرضون للهجوم، ويتباكون بسرعة كبيرة. إذا كان مثل هذا المعرض أثار من باريس قضية دولة، فذلك يعني أنه هنالك حقا مشكل في سويسرا”.
وفي إطار سعيه إلى إثارة النقاش حول الديمقراطية وإظهار أنها ليست دائما ذلك المفهوم السائد، قال في تصريح لإذاعة سويسرا المتحدثة بالألمانية، “إن العالم بأسره يستغل الديمقراطية، من بوش إلى الصينيين، وفي سويسرا، بديمقراطيتهم المباشرة، يعتقدون أنهم ابتكروها”.
وفي جرأة غير معتادة في بلد مثل سويسرا، ربط الفنان في بطاقة الدعوة التي صممها لمعرضه، صُور سجن أبو غريب في العراق بأعلام الكانتونات الثلاثة المؤسسة لسويسرا (وهي أوري وشفيتز وأونترفالد) مع تعليق يقول: “أنا أحب الديمقراطية”.
ويمكن لزوار المعرض أن يتأملوا ملصقات مركبة من مئات مقالات الجرائد، لكن هذه المقالات مرتبطة ببعضها بشريط لاصق بني اللون يذكر بالفاشية.
“قرار خاطئ”
السيدة إيفيت ياغي، رئيسية المؤسسة الثقافية السويسرية “بروهلفيتسيا” ردت على قرار مجلس الشيوخ بالقول: “إن هذا القرار خطأ يجب تصحيحه”. وفي تصريحات أدلت بها لصحيفة “لوتون” الصادرة بجنيف (بتاريخ 9 ديسمبر الجاري)، أضافت السيدة ياغي: “هو ليس فقط قرار غير مفهوم على الإطلاق، بل أيضا قرار يجانب المسألة”.
وأوضحت السيدة ياغي أن القرار يطرح بالنسبة لها تساؤلات أساسية: “أولا، طريقة العمل، فقد فهمت دائما أن البرلمانيين يتخذون القرار استنادا إلى ملفات مدروسة كما يجب، ثم إن التصويت على قرار والمواظبة على مطالعة الصحف الصفراء يبدو لي طائشا بعض الشيء”.
كما أعربت رئيسة “بروهلفيتسيا” عن اعتقادها أن مثل هذا القرار يدفع أيضا إلى التساؤل حول مضمون حرية الفن المنصوص عليها في الدستور الفدرالي، مذكرة أن مؤسسة “بروهلفيتسيا” أنشأت في عام 1939 كعمود ثالث للدفاع الوطني، إلى جانب العمودين العسكري والاقتصادي.
وبعد الإشارة إلى أن المؤسسة الثقافية تشارك في الدفاع الروحي والثقافي للبلاد، نوهت السيدة ياغي إلى أن “بروهلفيتسيا” تحولت في عام 1949 إلى مؤسسة ذات صبغة عامة أنشأت بناء على قانون يضمن استقلاليتها. ولذلك تعتقد السيدة ياغي أن قرار مجلس الشيوخ، إذا ما تمت المصادقة عليه أيضا (من قبل مجلس النواب)، سيطرح مسألة الاستقلالية في الاختيارات الفنية.
ولم تغفل السيدة ياغي الإشارة إلى أن قرار مجلس الشيوخ يتضمن جملة من التناقضات، إذ قالت إن “الأشخاص الذي يهاجمون ثقافة الدولة، والفن المدعوم، ينتهجون فجأة سياسة توجيهية إلى أقصى حد جديرة بزعماء جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة”.
وبهذا الصدد، اعربت رئيسة “بروهلفيتسيا” عن قناعتها بأنه “ما على السلطات إلا خلق الشروط التي تسهل على الفنانين إنجاز مشاريعهم، فهذا مبدأ مطلق، لا يجب التدخل أبدا في المضامين. فإذا تدخلت السلطات مثلا على مستوى البرمجة الفنية لهذا الموسم أو ذاك أو على مستوى اختيار أساليب التعبير، فهذا يعكس تطورا غير مقبول على الإطلاق للسياسية الثقافية”.
القطرة التي أفاضت الكأس؟
غير أن مثل هذه التصريحات لا تقنع الممتعضين من عدد من المشاريع التي تدعمها “بروهلفيتسيا”. فقد حدث في مناسبات عديدة أن أثارت طريقة عرض الثقافة السويسرية في الخارج انزعاج البعض حتى أن أصواتا تعالت من أجل حل “بروهيلفيسيا”. ولا يمثل معرض تومارس هيرشهورن إذن سوى قطرة جديدة في كأس ممتلئ جدا.
أولي ماورر رئيس حزب الشعب يقول: “إن الأمر زاد عن حده”، مذكرا أن مهمة “بروهلفيتسيا” تظل الترويج لسويسرا في الخارج وليس العكس. لذلك فهو سيطلب إلغاء الإمكانيات المادية المخصصة للمؤسسة.
وتشاطر هذا الرأي رئيسة لجنة العلوم والتربية والثقافة كريستيان لانغربرغر من الحزب الراديكالي، والتي أعربت عن استيائها من المعرض الذي قالت إنه “ذو ذوق شنيع”.
أما باسكال كوشبان، وزير الثقافة الذي تزامنت زيارته إلى فرنسا مع الجدل حول المعرض، فقد كان أكثر هدوء، إذ أشار إلى أن المعرض لا ينتقد الديمقراطية فقط بل يظهر أيضا بعض جوانبها الإيجابية. وفي تصريح لإذاعة سويسرا الروماندية المتحدثة بالفرنسية أضاف: “اذهبوا لرؤية المعرض، يبدو أنه فنان كبير (…) لا يجب التحول دائما إلى مفتشين سياسيين ومراقبة استقامة كل شيء”.
الجدل أثار المزيد من الجمهور
وفي تصريح لـ”سويس انفو”، أكدت المسؤولة عن مكتب الاتصال في “بروهلفيتسيا” صابرينا شفارزنباخ أن “المعرض ليس موجها ضد كريستوف بلوخر”. وقد أبقت المؤسسة على دعمها للمعرض، إذ ذكرت في بيان أن مجلس المؤسسة أعطى الإذن لتنظيم التظاهرة. وينوه البيان إلى أن هيرشهورن هو “من ضمن المبدعين السويسريين الاثني عشر المعترف بهم والمطلوبين خارج الحدود”.
كما شددت السيدة شفارزنباخ على أن تصورات الفنان لا يجب بالضرورة أن تتطابق مع تصورات بروهلفيتسيا، “وهذا أيضا من انعكاسات الديمقراطية”.
وأشارت المسؤولة عن الاتصال إلى أن الجمهور الذي تحول إلى باريس رحب بالمعرض، إذ تمكن الزوار من اكتشاف سويسرا أخرى، بعيدة عن الصور النمطية مثل الساعات والجبال والشوكولاطا.
ومنذ احتدام الجدل حول الفنان السويسري يوم السبت الماضي، استقطبت المعرض في ثلاثة أيام فقط زهاء 2000 شخص.. ثلثيهم من الفرنسيين حسب مدير المركز الثقافي السويسري في باريس ميشيل ريتر.
توماس هيرشهورن من مواليد 1957 في برن.
يقيم في باريس منذ عشرين عاما.
يتواصل معرضه “الديمقراطية السويسرية- السويسرية” في المركز الثقافي السويسري بباريس إلى غاية 30 يناير 2005.
في عام 2004، حصل الفنان السويسري على جائزة “جوزيف بويز” التي تبلغ قيمتها 33 ألف يورو.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.